الأربعاء، 21 مايو 2014

مقال سمير عطا الله في جريدة النهار بعنوان " النسبية والحمّص بطحينة.

أحبّ قراءة كتابات سمير عطا الله، وأتابع عموده اليوميّ في جريدة الشرق الأوسط.، ولكن مقال اليوم مميّز بالنسبة لي، وتحديدا بسبب عنوانه، إذ في العنوان " لقمة شهيّة" هي الحمّص بالطحينة.
المقال منشور في جريدة النهار العدد 21 أيار 2014 - السنة 81 - العدد 25388

أوائل الستينات كنا، الزميل عادل مالك وأنا، نذهب إلى دمشق لتغطية انقلاباتها المتلاحقة. وكنّا نقيم في فندق لائق وسط المدينة هو "فندق أمية"، كما سمّاه أصحابه اللبنانيون في تأدّب الغرباء، كما سمّى جرجي زيدان مجلته في مصر "الهلال"، امتناناً لرعاية المصريين وإلفتهم وتقبُّلهم سيطرة "الشوام" على دُور الصحافة والنشر.
كان في "فندق أمية" أفضل مطاعم المدينة. ولكن بعد فترة قررنا الخروج بحثاً عن طعام دمشقي حقيقي من الأنواع المحكي عن سحرها في اللُّعاب ونفختها في البطون. انما كيف نعثر على المطعم المنشود؟ وجدنا أمام الفندق شرطياً يوجّه حركة السير بملل واضح. فالمدينة تكاد تخلو من الحركة في أزمان الانقلابات. اقتربنا منه فترك مكانه ومشى نحونا باشّاً، إذ عثر على أول مَن يحاكيه تلك الظهيرة. قلت له بعد التحية والسلام والشكر على استتباب الأوضاع حتى الانقلاب التالي، إننا من بيروت ونبحث عن مطعم "شامي كوّيس".
خلع قبَّعته ومسَح عرَقه وابتسم مرحّباً. ها هو يُعطى مهمة إنسانية بعيداً من ملل الزمامير وسماع المارشات العسكرية. حكّ جبينه حكاً موسيقياً تقديراً لأهمية السؤال. تطلّع حوله إلى كل الجهات التي يوزّع عليها حركة السير، وأعاد القبعة إلى رأسه، ثم أشار إلى مطعم جانب الفندق هو جزء من مرأب أيضاً، وقال في انتصار ونشوة: "خيّو، بدكم أحسن من هيك مطعم".
عدنا إلى فندق أمية! كانت قد مضت عقود على عثور أينشتاين على نظرية النسبية. وهي لا تنفع فقط في الفيزياء لصنع الذرّة والطائرات التي تحمل 600 راكب مع كل ما يحتاجون إليه، بل تفيد خصوصاً في شرح بديهيات الحياة. بالنسبة إلى الشرطي كان أكوَس مطعم هو الذي يتناول فيه صحن الحمص قبالته. نجمتا "ميشلان" على الأقل. وكان على حق، فمنذ أن سجّل أينشتاين نظرية النسبية أوائل القرن الماضي، أصبح هذا العالم برمّته، كوكب النسبية.
وُلد ابني وابنتي في لندن، وذهبا إلى "ليسيه شارل ديغول". وعندما كانت ابنتي في الثامنة، سألتها، ماذا شرحت لكم المعلمة اليوم؟ فأجابت من غير أن تلتفت إليّ: النسبية، أو علم المقاييس. لماذا المقاييس؟ لأن العمل بها يُريحك. يجعلك تشعر أن الصحن الأكوس ليس عند "بوكوز" في ليون حيث لن تذهب أبداً إلاّ في القراءة، بل هو في هذا المطعم في النصف الآخر من المرأب، حيث يطيب الحمص على وَقْع مطارق الحديد على التنك. ولكن ثمة أمر آخر ضمن قانون النسبية هذا: الشرطي البلدي والميكانيكي وشريكه طاهي الحمص، أكثر هناء من جميع رواد "فندق أمية"، لأنهم غير معنيين إطلاقاً بمن تحمل الدبابة الآتية أو الذاهبة. أكْوَس صحن حمص في العالم.
أكرر العودة إلى أيار 1968 في مناسبات كثيرة لأنه كان مفترقاً لتحوّلات كثيرة. هذه المرة تفقّدت الفندق الذي كنت أنزل فيه ليلة 10 أيار فوجدته قطعة من الصين. حياً من أحياء شانغهاي يوم ذهب إليها جان كوكتو (1956) ووجدها غارقة في الأفيون وعائمة عليه. الصين في كل مكان. تركتها ورائي في نيويورك ووجدتها أمامي في الحي اللاتيني الذي منه أذنَ لنهاية عصر الجبابرة.
يومها حفرت النسبية باللغة الهيروغليفية المصوّرة بداية العصر العادي والناس العاديين. أنزل ذلك العقد صوَر نهرو، وعبد الناصر، وكينيدي، وديغول، وشو إن لاي، وخروشوف، وأديناور. وبعد عقدين، سوف يصبح المتظاهر ليونيل جوسبان رئيس وزراء فرنسا، والمتظاهر غيرهارد شرودر مستشار ألمانيا. حلّ العاديون في جميع الأمكنة. سُمّي "جيل 68". جون ميجور في 10 داوننغ ستريت باسم المحافظين، ووزيرة الصحة إدوينا كاري تؤلّف الروايات الجنسية وتنافسها رئيسة البرلمان الفنلندي. ولن تعود فنلندا، جارة السوفيات، علامة من علامات الحرب الباردة وبدايات زوالها (اتفاقات 1974) بل سوف تصبح علامة العصر العلمي، بيت "نوكيا" وليس مزرعة الايائل واللحوم الجافة.
طفقَت الناس تُبعد الجبابرة وتُغنّي للصغار. إليزابيت الثانية تعلّق الأوشحة لفرقة البيتلز إقراراً بأن العصر الإمبراطوري انطوى. في تلك الرحلة البحرية إلى الصين التقى جان كوكتو على السفينة شارلي شابلن. تخيّل الحوار الذي دار. تخيّل كيف جلس أحدهما في حَضرة الآخر.
تبحر السفن عادية اليوم في كل الاتجاهات. لا جبابرة في أعالي البحار. لا أندريه مالرو يكتب عن الصين ويُوصي ريتشارد نيكسون (قبل أن يصير رئيساً) بالذهاب إلى بكين. ولا سارتر في المقاهي. ولا جولييت غريكو بعينيها الجارحتين مثل العتم وشعرها الأسود مثل كهف. لا أحد تقريباً. جيل 68 لا علامات فارقة له. تتطلّع أمامك فتجد أن أكْوَس صحن حمص هو في الشقّ الآخر من المرأب.
تطلّعت بربارة بوش في أميركا العادية ورأت أن ابنها الثاني "جب" ينافس هيلاري كلينتون على الرئاسة، فقالت: ما هذا؟ ماذا حدث؟ هل هذه هي أميركا، ليس فيها سوى عائلتين تقدّمان مرشحي الرئاسة؟ إيه ستي، ضحكي بعِبِّك. شو بدِّك أكْوَس؟ عائلتان مو منيح؟
العصور، مثل الأفراد، لا تدوم. صين الأفيون التي ألغاها ماو بكلفة عامة من نحو 90 مليون قتيل، هي الآن الاقتصاد الأول في العالم. ترفع تعاليم ماركس وتطبّق نظريات فريدمان. تُبقي صورة ماو كبيرة في ساحة تيان آن مين، لعل الناس تتذكّر الفارق بين كتابه الأحمر ومجاعاته الكبرى وثورات ثقافة القبور، ومستويات الحياة التي وصلت إليها اليوم. على مساحة 700 كلم مربع أقام الصيني لي كوان يو ما هو في عالم النسبة أعظم اقتصاد في العالم. يوم وصل كوكتو إلى سنغافورة قال إنها أدغال ُيصار الى ترويضها بصعوبة. يومها كان يوصف لبنان بأنه سويسرا الشرق، وبيروت بأنها باريسه. مرحبا بالأدغال التي لا تروّض. التقهقرالمحروس بعناية.
كان هذا البلد كاتدرائية من الأسماء: رياض الصلح. تقي الدين الصلح. عبدالله العلايلي. صائب سلام. كمال جنبلاط. موسى الصدر. غسان تويني. بولس بطرس المعوشي، الذي لقبه الموارنة "محمد". بنى رجال لبنان عصر النهضة هنا، وفي مصر مروراً بسوريا فارس الخوري، من الأروام والكاثوليك، وصولاً إلى أمين معلوف في فرنسا وديفيد معلوف في أوستراليا وأفلاطون حاطوم في البرازيل.
المسألة كلها في النسبية، أو المقياس، أو التناسب إذا شئت الابتعاد – مثلي – عن تعقيدات الفيزياء. يتوقّف كل شيء على نوع وطبيعة وصيغة الوطن الذي تطمح إليه. ذلك يفترض أنك تفكّر في مقياس مُعيّن من الرجال. عندما أكثرَ محبّو فؤاد شهاب من مقارنته بالجنرال ديغول، استدعى، بوَرَعه وتعفُّفه وتواضعه، مسؤولي الإعلام وقال لهم، هؤلاء الطيبو القلوب سوف يخربون بيتي: "ديغول على شو؟ على الحرب العالمية الأولى أم الثانية؟ هدّوا الشباب شوي. تا يصير الواحد ديغول بدو فرنسا".
لو ظلّ بونابرت في كورسيكا لما عرفنا عنه شيئاً ولكان أقصى ما فعله تغيير قانون البلدية في الجزيرة. كل ما تحتاج اليه في الدول الصغيرة هو شيء من التواضع. في هذا الباب الشديد الرفعة، كان الياس سركيس قديساً طوباوياً. وبتطبيق قانون النسبية ومعادلته يمكن إعلانه شربل عنايا السياسة. ثم إنه – إضافة إلى القانون – لكي تكون متواضعاً إلى هذا العمق، يجب أن تُولد في مزود. وإلاَّ، يا ساتر. سوف تقضي العمر راكضاً على السلالم. وهي متحركة، مرة إلى فوق، مرة دركبة.
لا حقيقة في الكبرياء والعجرفة وسباق الأرانب. سعادة الأمم والرجال والشعوب أن تعرف أحجامها وتدرس قانون التناسب في الثامنة من العمر، لأن ذلك سوف يفيدها في العقود التالية. كان سعيد عقل يبدو عبقرياً في شِعره وفي نثره وفي فكره، إلى أن يكتب متسائلاً كيف يجوز أن يسبقنا الروس إلى كوكب الزهرة: "متى نحن هنا نشدّ الركاب إلى زُحل".
زُحل من زحلة، أو العكس. يفقد وِقاره من يفقد معياره. كنا في القُرى لا نملك ثمن لعبة فنتخيّل العصا فرساً. وكان ذلك قبل وقت من قراءة دون كيشوت وحصانه الهزيل "روكينانتي". غير أن مخيّلات الكبار مؤذية مثل خيلائهم. الطفولة حُلم أما الكهولة فمسؤولية لا تتحمّل الألعاب وكَسْر المزاهر في الفشل والغضب.
تذكير: نحن في العصر العادي. الجبابرة فيه ذوو عقول مثل بيل غيتس. ذوو خوارق مثل لي كوان يو ووزير التخطيط الصيني الذي ليس له اسم. مثل الأم تيريزا لا مثل نابوليون. مثل فرنسيس بثوبه الأبيض وتواضعه الناصع. مثل برنامج أوباما الصحي. مثل تبرّعات وورن بافيت. هؤلاء لهم الجنَّتان ولا مرور في المطهر الذي سخر منه فرنسيس: هل يُعقل أن يبخل الله برحمته كي ينشئ مطهراً قبل الوصول إلى الجنَّة؟ أليست هي وعده؟

http://newspaper.annahar.com/article/135164-النسبية-والحمص-بطحينة
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق