الحكاية
التالية طازجة، لم يمض على حدوثها وقت طويل. دارت فصولها، على ذمّة الراوي، في أحد
مساجد الفيحاء. ولعلّ أحد قرّاء هذا المقال قد كان شاهد عيان على أحداث هذه الحكاية،
ولا سيّما إذا كان ممّن يرى أنّ الصلاة على الميت حسنة تقربّه إلى الله زلفى.
المعروف أنّ
دور العبادة ليستْ حكراً على الأحياء فقط، إذ يدخلها الموتى أيضاً في زيارة أخيرة
قبل أن توارى جثامينهم الثرى، طبعاً بمساعدة أكتاف وأكفّ الأقرباء والأصدقاء.
في أحد
المساجد، وبعد أن انتهت صلاة الظهر قام الناس لأداء سنّة الصلاة على الميت الذي لا
تزال روحه تحوّم فوق الجثمان في بهو المسجد، ولكن قبل البدء بالصلاة، وبينما كان المصلّون
منهمكين بتسوية الصفوف، إذ بصوت يعلو صوت الداعي إلى الصلاة، وهو يلعن الميّت من
أعماق حنجرته المجروحة، لأنّ الميّت اللعين، بحسب الصارخ، ابن حرام، نصّاب من
الدرجة الأولى، لا ذمّة له ولا دين. جثّته ليست طاهرة، وسوف تلوّث أفواه من يصلّي
عليها. تفاجأ الحضور، فقد لا تكون تحبّ الميت، وقد يكون الميت شرّيراً أو لصّاً أو
ما شئت، ولكن في محضر الموت تخرس ألسنة السوء، وتخرس في حضرة الجثمان أيضاً ألسنة
الصدق! لا يخطر ببال أحد أن يقف على ضريح ويقوم باللعن والشتم، فالانتقام من الأموات،
لفظيّاً أو جسديّاً، ليس من سنن أيّ دين، والتمثيل اللفظيّ لا يختلف عن التمثيل
الجسديّ بالجثامين.
استغرب الناس
وخاصة أنّ البعض منهم لا يعرفون الميت وإنّما يصلّون عليه لأخذ ثواب روحيّ تحتاجه
أجسادهم لا أكثر ولا أقلّ. انبرى أحد الأشخاص مهدّئاً من لسان الرجل الشتّام الذي
لم يترك ستراً مغطّى، وكاد أنْ ينتهك، لو سُمح له، حرمة الكفن.
وبعد الاستفهام
وتهدئة الخواطر ظهر أنّ الميت مديون، واللعّان له في ذمته ألف وخمس مائة دولار. ولكن
الناس يريدون العودة إلى أعمالهم، ومن اللامنطقيّ أن يتحوّلوا رهائن لجثّة خرساء
ولسان ثرثار.
قام المصلّون
بحملة تبرعات لإسكات خاطر الحيّ، وعدم إقلاق راحة الجثمان. ومن يدري! فقد يكون الأمر
غير صحيح، ولكن الميت لا يمكن له أن يقوم من التابوت ليعلن على الملأ المبهوت
افتراء الرجل أو صدقه، ولعلّ الميّت كان غير مبال، أصلاً، بكلام الرجل، فما لجرح
بميت إيلام، على ما يقول فحل الشعر العربي أبو الطيّب المتنبّي، كما أنّ لجثث
الموتى مشاغل أخرويّة تنسيهم الملاسنات الأرضيّة.
تشجّع بعض
المصلّين، وأدخلوا أياديهم المتردّدة في جيوبهم، وبدأت الأموال تتدفّق على الرجل
من حيث يدري ولا يدري، وصل ما تمّ تجميعه إلى حوالي ألف دولار، وخشي الناس من أن
يكون الرجل حقّانياً زيادة عن اللزوم ويريد دولاراته إلى آخر "سنت"،
ولكنّه لان واستكان حين فاحت في المكان رائحة الأموال الزكيّة، فقبل بالمبلغ
المتوفّر، وسامح الميت على ما بقي له في ذمّته المثقوبة. ولم يعلمني الراوي إن كان
الرجل شارك في الصلاة على الميّت أم لا، ولعلّه رأى في الأمر تفصيلاً غير ذي بال.
بعد الانتهاء
من الصلاة، لم يسرع أحد إلى حمل الميت، أو يأبه لجثمانه، بدا كما لو أنّه غصنٌ
يابس مقطوع من شجرة، وصار الناس يتأمّل بعضهم بعضاً متسائلين: أين أهله؟ أين
الدموع في العيون؟ أين الحزن على الوجوه؟ انتاب نظرات الناس شكّ فادح، من هو هذا
الميت النكرة الذي لم يسرع إلى مؤانسة جثمانه اليتيم أحد؟ أيعقل أن يكون الميت، كما
قال اللعّان، إنسان نفّرت سوابقه منه حتى أهله، ولكن قد يتبرّأ الحيّ من الحيّ غير
أنّه من النادر أن يتبرأ إنسان من جثمان.
بدأت الفئران
تلعب في صدور الناس، اقتربوا من التابوت، كشفوا غطاءه فقد يكون أحد الموجودين يعرف
الميت، فيتعرّف على ملامح وجهه، ولكن، أمام دهشة الجميع، لم يكن الميت في التابوت،
وفي الوقت نفسه لم يكن التابوت فارغاً إذ أُجبرت بعض الحجارة على تأدية دور الجثمان،
ولا يمكن لعاقل أن يتّهم الحجر بالتآمر على الأحياء!
تبنّى أغلب الحضور كلمات الرجل الذي شفط الأموال
واختفى مثل فصّ ملح وذاب، وبدأوا يكيلون له اللعنات، ولكن لم تخلُ لحظة التعزية أيضاً
من غضب ممزوج ببعض القهقهات أمام تابوت تحوّل إلى خشبة مسرح هزليّ.
ما حدث يذكّر
المرء بأبي زيد السروجيّ بطل مقامات الحريريّ، واعتقد أيضاً أنّ هذه الأحدوثة لو
سمع بها مؤلّف "رقائق الحِلَل في طرائق الحِيَل" لأدرجها في كتابه
الطريف.
هذا الفصل الناقص لن يمنع، في أيّ حال، الناس من
الصلاة على الموتى حتى ولو كانوا كومة طين متحجّر.
بلال عبد الهادي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق