. محمد القويـــــــــزاني
يقول الفيلسوف الفرنسي سافارين (Savarin) في كتابه فسيولوجيا التذوق (1825): "قل لي ماذا تأكل، أقل لك من أنت." ظلت هذه الكلمة، ولأكثر من قرن ونصف، تفهم على أنها ربط بين الغذاء والصحة العقلية والنفسية، بحيث تكون إعادة لمقولة: "العقل السليم في الجسم السليم." غير أنه في السنوات القليلة الماضية أخذت هذه المقولة بعداً جديداً حين ربطت بمفهوم الطعام كمؤشر ثقافي اجتماعي. وهذا المنطق يقتضي أن المرء يأكل الكاري، إذاً فهو هندي، ولأنه يأكل البطاطس فهو أيرلندي، والكبسة فهو خليجي، إلى أنه لايصح تماما ربط الطعام بالحدود القومية بمثل هذه الصيغة. حيث أن الطعام والثقافة مترابطان في شبكة علاقات معقدة يتجاذبها عوامل العرق، والطبقة، والجنوسة، والجنس. بالإضافة إلى ذلك فإن انتقال الناس، ورأس المال حول العالم يحوران أبعاد النقاش بشأن السياسات الثقافية والطعام.
بداية لماذا هذا الموضوع؟ بالإضافة إلى كون الطعام وسيلة تبادل ثقافي، وتواصل إنساني، وتفاعل بشري / طبيعي، وبالإضافة إلى أن الطعام يستخدم كوسيلة تعبير في بعض الأديان والإيديولوجيات، فإن دراسة طرق تناول المواضيع الخاصة بالطعام تعطيه بعداً جديداً كانعكاس لثقافة معينة، إذ يعتبر الطعام مؤشراً ثقافيا هاماً من حيث ارتباطه بالطبقة، والخلفية الاجتماعية. وفي مجال الأدب، نستطيع من خلال طعام الشخصيات، وطرق وصف الطعام، تحديد هويات هذه الشخصيات في العمل الأدبي، وأبعادها، وتفكيك رموزها.
برزت في السنتين الأخيرتين في الجامعات الأمريكية والأوربية العديد من الدراسات التي تتناول الطعام كانعكاس ثقافي تتجلى فيه الهوية بأبعادها القومية، ونواحيها الإثنية العرقية. كما أصبحت دراسات الجنوسة (الجندر) تناقش الطعام على أنه حقل تتضح فيه الفواصل الجنسانية. ولقد كانت دراسة الطعام في السابق محصورة في أقسام الأنثروبولوجيا أو أقسام التغذية، إلا أنها الآن بدأت تدخل في أقسام الأدب، والأدب المقارن، والدراسات الثقافية. ففي عام 2000 ظهرت موسوعة كيمبردج لتاريخ الطعام في العالم من تأليف كينيث كيبل(Kenneth Kipple) . ويتناول هذا الكتاب في جزئيه (والذي استغرق 10 سنوات بحثاً وكتابة ً) مواضيع متنوعة بين تطور النظام الغذائي للإنسان وعلاقته بالتغذية، والطب، والأطباق الشعبية، والقضايا الثقافية والعرقية، وصولاً إلى السياسات المعاصرة المرتبطة بالطعام. كما صدر العام الماضي كتاب موسوعة الطعام والثقافة. ويتناول الكتاب في أجزائه الثلاثة، وصفحاته البالغة 2035 صفحة، دور الطعام في الثقافات المختلفة. وأعد هذا الكتاب سالامون كاتز (Solomon H. Katz) وهو باحث في أنثروبولوجيا الطعام من جامعة بنسلفينيا. وتحتوي الموسوعة على دراسات أنثروبولوجية، وأركيولوجية، وتاريخية، واقتصادية، ونقدية للعلاقة بين الطعام والثقافة، بما في ذلك انتاج الطعام وتوزيعه، وتخزينه، والطعام والاحتفالات الشعبية، والتغذية، ورمزية الطعام في الفنون، والوجبات القومية. وسيصدر هذا العام كتاب الاستهلاك والثقافة المعاصرة: الفن والكتابة والطعام. ويركز هذا الكتاب (وهو مجموعة مقالات يحرره كريس تومسون من كلية مين Main للفنون) على العلاقات بين الطعام و الثّقافة المعاصرة دارساً قضايا مثل: الاختلاف الثقافي, والمجتمع، و الاستهلاك ، وأساليب تناول الفنانين، والكتاب، والباحثين لهذه الموضوعات، مركزاً على دور كل هؤلاء في بحث العلاقة بين الطعام والثقافة المعاصرة، خلال مراحل الإنتاج، والإعداد، والتحضير، والطهي، والتقديم، إضافة إلى جماليات الطعام وإشكالياته. كما يفتح الكتاب آفاقاً لدراسة علاقة الطعام بالهوية الفردية أو الجماعية. كما خصصت مجلة مراجعات ماساتشوستس (Massachusetts Review) عدداً خاصاً تحت عنوان سياسات الطعام الثقافية (ينشر في ربيع 2004)، وتحرره أنيتا مانور وهي ناقدة وباحثة مابعد استعمارية من جامعة University of Illinois-Urbana Champaign. وتستقبل المجلة المشاركات التي تركز على الطعام، وطرائقه، أو طرق تصويره في الأدب والثقافة مما يأشكل العلاقة بين الطعام والثقافة.
ولم يقتصر الأمر على الكتب والأبحاث الأكاديمية، فقد اتجهت العديد من الجامعات لعقد مؤتمرات لبحث هذا الموضوع. فتعقد منظمة الإقليم الجنوب غربي للثقافة الشعبية، ومنظمة الثقافة الأمريكية مؤتمرهما السنوي المشترك الخامس والعشرين في مدينة سان أنتونيو بتكساس بين 7 – 10 أبريل 2004، تحت عنوان الطعام والثقافة. ويركز المؤتمر على قضاياً مثل:
محاولات تعريف حقل دراسات الغذاء (Food Studies)
تحليل الأسئلة المنهجية في دراسة الطعام والثقافة
تحليل وضع المستهلك (القوة/الضعف) في قضايا الطعام
عولمة الطعام
دور الحدود القومية في قضايا الطعام
كما تقام مؤتمرات متخصصة لدراسة ثقافة الطعام في حقبة تاريخية معينة، أو منطقة جغرافية محددة. مثل مؤتمر ثقافة المطبخ: الطعام والاستهلاك في القرن التاسع عشر، الذي سيقام في الفترة بين 29 – 30 يوليو 2004 في مركز الدراسات الإنجليزية في لندن. ويستضيف المؤتمر باحثين للإجابة على أسئلة مثل:
ـ ماذا كان يعني تناول الطعام عند الفكتوريين؟
ـ ما أهمية إنتاج الطعام، واستهلاكه، وتوزيعه لأدب القرن التاسع عشر، وثقافته، ومجتمعه؟
ماذا تقدم لنا دراسة قضايا الطعام حول شعور بريطانيا بالذات، وحول مكانتها في العالم؟
كيف توضح لنا الدراسة الأكاديمية لثقافة الطعام فهم الفكتوريين للمحلي والأجنبي، وللكفاف، والبذخ، وللعلاقات الجنسانية؟
ماذا تعني ظهور كتب الطبخ في ذلك المجتمع، وما ذا كانت تحويه من تحول اجتماعي؟
كيف يمكن لدراسة الطعام الفكتوري أن تساهم في الاهتمام النقدي الجديد بآثار الطعام الثقافية، والجمالية؟
والمستعرض لكتب التراث العربي يجدها زاخرة بكتابات نستطيع وصفها بأدبيات الطعام، بل أن هناك كتباً في هذا الحقل، كما سيأتي ذكره. وهذه الكتابات تتنوع بين أخلاقيات الطعام، والتي تسمى عادة بآداب الطعام، وبين جماليات الطعام والتي تعنى بوصف الأطعمة، وطرق صنعها، ووصف صفها، وأكلها، وترتيبها على المائدة. بيد أنه لايوجد دراسات عربية جادة لتحليل الطعام ورموزه في الأدب العربي كمؤشرات ثقافية، ومحددات طبقية، أو جنسانية.
إلا أني، وقبل أن أستعرض هذه الكتابات، أشير إلى نقطة هامة وهي أن الإسهاب في وصف الأطعمة والأشربة قد ارتبط في المخيلة العربية بالشراهة، وقلة المروءة. فعلى سبيل المثال، يذكر أبو علي القالي في الأمالي أن قوماً في مجلس الأحنف تذاكروا الطعام والنساء، فقال الأحنف: جنبوا مجالسكم النساء والطعام، فإني أكره للرجل السري أن يكون وصّافاً لبطنه وقد عرف ما يحور إليه، ولفرجه وقد علم أين مجلسه. وقد اعتبر ابن الأزرق (ت. 896هـ) في كتابه بدائع السلك في طبائع الملك ذلك شرهاً مقبوحاً، فيقول:
أقبح الشره الشره على الطعام والجماع. النفس التي غلبت عليها الشهوة والالتذاذ، لا تؤثر حسن الذكر، لأنها لا ترى الفضل إلا فيما ألذت به لذة خسيسة. ومن أرضى الجوارح بالشهوة، فقد غرس في قلبه شجرة الندامة. من أراد شهوات الدنيا فليتهيأ للذل. من اشتاق إلى الجنة سلا من الشهوات. (107)
فعد ذكر الطعام والعناية به من الشره المذموم ومن الانغماس في الشهوات، المنافي للزهد المطلوب. وقد ربط العرب بين الميل إلى الطعام، وبين التطفل كما ذكر ذلك ابن جني في الخصائص، والرازي في المختار.
وعليه فقد كثر في الأدبيات العريبة الربط بين الجوع والزهد، بل والترغيب في ترك الطعام والاهتمام به. وفي ذلك يكتب أبو حيان التوحيدي في الإمتاع والمؤانسة:
قيل لحاتم الأصم: بم رزقت الحكمة? قال: بخلاوة البطن، وسخاوة النفس، ومكابدة الليل. وقال شقيق البلخي: العبادة حرفة، وحانوتها الخلوة، وآلتها الجوع. وقال لقمان: إذا امتلأت المعدة نامت الفكرة، وخرست الحكمة، وقعدت الأعضاء عن العبادة . . . وقال يحيى بن معاد: الشبع يكنى بالكفر. وقال غيره: الجوع يكنى بالرحمة.
كما انتشرت في الأدبيات الصوفية المبالغات في وصف جوع الزهاد. يقول القشيري في رسالته: " كان الجوع من صفات القوم، وهو أحد أركان المجاهدة، فإن أرباب السلوك تدرجوا إلى اعتياد الجوع والإمساك عن الأكل، ووجدوا ينابيع الحكمة في الجوع، وكثرت الحكايات عنهم في ذلك." وقال نقلاً عن يحيى بن معاذ "الجوع للمريدين رياضة، وللتائبين تجربة، وللزهاد سياسة، وللعارفين مكرُمة." وقال أيضاً " كان سهل بن عبد الله لا يأكل الطعام إلا في كل خمسة عشر يوماً؛ فإذا دخل شهر رمضان كان لا يأكل حتى يرى الهلال، وكان يفطر كل ليلة على الماء القراح." وقال " قال أبو عثمان المغربي: الرَّباني لا يأكل في أربعين يوماً، والصمداني في ثمانين يوماً." وقال "كان سهل يصبر عن الطعام سبعين يوماً، وكان إذا أكل ضعف، وإذا جاع قوي." وقال " كان أبو عبيد البسريّ إذا كان أول شهر رمضان يدخل بيتاً، ويقول لامرأته: طبني على الباب، وألقي إليّ كل ليلة من الكوة رغيفاً، فإذا كان يوم العيد فتح الباب ودخلت امرأته البيت فإذا بثلاثين رغيفاً في زاوية البيت، فلا أكل ولا شرب، ولا نام، ولا فاتته ركعة من الصلاة."
وغير ذلك كثير من الترغيب في الجوع، والتنفير من الطعام والعناية به، مما كان له انعكاس واضح على جماليات وصف الطعام في الأدبيات العربية. بل إن أبا العلاء امتدح ترك الطعام بالكلية، فقال:
مَن لي بِتَركِ الطَعامِ أَجمَعَ إِنَّ الـ أَكلَ ساقَ الوَرى إِلى الغَبَنِ
لذا كان تعامل الكتاب والشعراء دائماً حذراً حين يتعلق الموضوع بالطعام، أو وصف الموائد.
والمتفحص كذلك للكتابات التي تعرضت للطعام يجد هناك تركيزاً على الآداب الأخلاقية، دون الأدبيات الجمالية، أو التحليل الوصفي لاستخدام الطعام كرمز. فكثر التأليف حول آدب المائدة مثل فصول آداب الطعام في العديد من كتب الفقه، والأخلاق، وفي ذلك نظم العديد من الشعراء في أخلاقيات المائدة . وكتب الأقفهسي كتاباً سماه(آداب الأكل) في فن إتيكيت المائدة.
وباستعراض أدبيات الطعام أو مواطن وصفه في الأدب العربي وجدت عشرة موضوعات يكثر فيها وصف الطعام، أوجزها فيما يلي :
أولاً: وصف طعام أهل الجنة والنار
ورد وصف طعام أهل الجنة وأهل النار في القرآن والسنة. وأسهبت كتب التفسير والرقائق في شرح هذه الآيات والأحاديث. وعليه فأعتبر هذه الشروحات والتعليقات من الكتابات في الأدبيات العربية التي تهتم بالطعام كمؤشر مادي دال على النعيم أو العذاب، وإن كانت هذه الشروحات تنتهج إما الترغيب أو الترهيب، دون التركيز على جماليات الوصف، أو رمزيته.
ثقافة الطعام الجديدة في أمريكا):
غالباً مايرغب الأمريكيون في أن يكون طعامهم سريعاً، وسهلاً، ورخيصاً، دون النظر إلى من إين اشتروه، سواء من السوق، أو من مطاعم الوجبات السريعة. فالأمريكيون يحبون الأشياء السريعة والسهلة، والتي تتطلب أقل تضحية اقتصادية فردية ممكنة. كما أن الأمريكيين أيضاً يعشقون (المظهر)، ويختارون طعامهم الذي (يبدو بمظهر جيد). بل إن بعضهم مستعد لصرف الكثير من المال ليأكل في مطعم غالٍ، فيبدو مظهره هو جيداً. فالسمات المحددة لثقافة الطعام الأمريكية هي السعر، والسهولة، والمظهر.
والثقافة الأمريكية الحديثة بشكل عام هي ثقافة براغماتية تربط السياسات بالواقع، ولا تبتعد كثيرا عن مارسمه إيكارد من ثقافة الطعام. بل إن نفوذ الأطعمة الأمريكية يعني نفوذاً للثقافة الأمريكية. ففي روسيا، أصبح يؤرخ للانفتاح الروسي على الغرب/أمريكا بيوم افتتاح أول مطعم ماكدونالدز في موسكو عام 1990. وفي باريس (التي يرى أهلها في مكدونالدز رمزاً لفساد الذوق الأمريكي) عارض عمدة باريس وبشدة افتتاح مكدونالدز لفروع له في مواقع باريسية حساسة "ثقافياً،" مثل منطقة برج أيفل، ومنطقة (Pont d’lena).وكذلك يقاطع الكثير من المستهلكين كوكا كولا في بلدان مثل ماليزيا، والصين، وكولومبيا، وغيرها، بل إن أي تظاهرة ضد السياسه أو الثقافة الأمريكية تنتهج عادة المقاطعة الاقتصادية للمأكولات الأمريكية، وغيرها من المنتجات.
وكذا الحال عند العرب، حيث يبدو الطعام أداة ثقافية تنتقل من خلالها العديد من الرموز والمؤشرات الثقافية الهامة، والراسمة لحدود ثقافة هذا البلد أو ذاك. فعندما يدعو الداعي إلى وليمة فدائماً مايؤكد ان الاجتماع أهم من الوجبة ذاتها. ولعل هذا التركيز على الأخلاق في الطعام، واستخدامه في تعزيز الروابط الاجتماعية، هو مادعى العرب للتفنن في إطلاق الأسماء المتعددة على ولائم الطعام. وهذا التنوع دعى ابن طولون لكتابة مؤلف أسماه (فص الخواتم فيما قيل في الولائم)، مركزاً على أنواع الولائم المتعددة وماقيل فيها نثراً وشعراً. وقد نضم القاضي صدر الدين بن العز الحنفي في انواع الولائم فقال:
أسامي الطَّعامِ اثنانِ منْ بعدِ عَشْرةٍ
سَأسْرِدُهـا مـقـرُونةً بـبـيانِ
وليمةُ عُـرْسٍ ثـمَّ خُـرسُ وِلادَةٍ
عقيقةُ مَـوْلُـودٍ، وَكـيرةُ بـانِ
وَضيمةُ ذيْ مَوْتٍ نَـقـيعةُ قـادِمٍ
عَذيرٌ أو أعـذارٌ لـيومِ خِـتـانِ
و مأدُبةُ الخِلاّنِ لا سبـبٌ لـهـا
حِذَاقُ صَبيًّ يومَ خـتـمِ قُـرانِ
و عَاشِرُها في النَّظمِ تُحـفةُ زائرٍ
قِرى الضَّيفِ مَعْ نُزْلٍ لَهُ بأمـانِ
ولعل هذا التركيز على الاهتمام اللغوي بأنواع الولائم مما يثير الاهتمام عند الباحث. فالاهتمام اللغوي يدل على اهتمام ثقافي. فمثلاً يوجد عشرات الأسماء عند العرب للجمل، والنخلة، وذلك لأهميتهما الاقتصادية/الثقافية عند العرب، كما أن للأسكيمو عشرات الكلمات الدالة على وصف الثلج. وهذا معروف في علوم اللغة.
وكذلك يبرز الاهتمام اللغوي اهتمام العرب بالجانب الاجتماعي بالولائم. فترى الاهتمام اللغوي بالمؤاكلة يصل لدرجة إيجاد الكلمات الكثيرة الدالة على عيوب المؤاكل. فالقارئ مثلاً لرسالة آداب المواكلة لأبي البركات الغـَـزي (904- 984 هـ) يلاحظ كثرة الكلمات الدالة على عيوب المواكل، وهو اهتمام ثقافي يبرز البعد الاجتماعي للولائم، وتركيز العرب على الأخلاقيات في مسألة الطعام والمؤاكلة. وأختار لكم من غريب ماوجدت في هذه الرسالة من عيوب مثل:
المقطع: ويسمى القطاع، وهو الذي إذا تناول اللقمة بيده استكبرها، فعض على نصفها، ويعاود غمس النصف الآخر في الطعام ويأكله.
والمبعبع: هو الذي إذا أراد الكلام لم يصبر إلى أن يبلع اللقمة؛ لكنه يتكلم في حال المضغ فيبعبع كالجمل، ولا يكاد يفسر كلامه، وخصوصاً مع كبر اللقمة.
والمفرقع: هو الذي لا يضم شفتيه عند المضغ، فيسمع لأشداقه صوت من باب بيته؛ وربما ينتثر المأكول من أشداقه، والأدب أن لا يسمعه الأقرب إليه.
والرشاف: هو الذي يجعل اللقمة في فمه ويرشفها، فيسمع له ساعة البلع حساً لا يخفى على أحدٍ.
والدفاع: هو الذي إذا جعل اللقمة في فيه أدخل معها بعض سبابته، كأنه يدفعها بها.
واللطاع: ويسمى اللحاس، وهو الذي يلحس أصابعه ليميط عنها ودك الطعام قبل أن يفرغ من الأكل، ثم يعيدها للطعام، أما بعد الفراغ فلا بأس به، على أن لا يعاود، وأفضل الحالين تعهد الأصابع بما تمسح به كل وقت كمئزر المائدة.
والعائب: هو الذي ينبه على بعض عيوب الطعام، فيقول: هذا شواء أحرقه الشواء، وهذه هريسة جيدة، لولا أنها سمراء، وهذا طبيخ كثير الملح أو قليل الحمض أو الحلو.
والجملي: هو الذي لخشيته من تنقيط المرق على أثوابه يمد رقبته، ويتطاول إلى قدام كالجمل حتى ينقط ما يقطر من فيه على المائدة أو المئزر.
والبحاث: وهو من يبحث الطعام، ويفرقه، وينظر في أجزائه حتى يغثي نفس من يراه، ويخطئ عقل من ينهاه.
والحامد: وهو الذي يحمد الله تعالى جهراً في وسط الطعام؛ ولا سيما رب المنزل، فكأنه ينسب في ذلك إلى تنبيه الحاضرين على الكف عن الطعام
والمرنخ: هو الذي يرنخ اللقمة في المرق، فلا يبتلع اللقمة الأولى حتى تلين الثانية.
والمملعق: هو الذي يتخذ من الخبز ملاعق يحتمل بها المرق، وقلما يسلم من تلويث ثيابه ولحيته.
والمتلفت: هو الذي لا يزال يتلفت إلى الناحية التي ينقل منها الطعام كأنه يتوقع طعاماً آخر،
والممتحن: ويسمى المحسس والمحتال، وهو الذي يضع إصبعه على لحمة ظاهرة، فإن رآها عظماً ضم إصبعه ومصها، يوهم أن الطعام حار وأنه لذعه، وإن رآها لحمة أخذها، ثم إن كانت كبيرة أكلها، أو صغيرة دفعها لجاره كأنه آثره بها.
والمتشكي: هو رب المنزل إذا اشتكى السنة وغلاء الأسعار.
والحقيقة أني كنت أظن أن أبا البركات الغـَـزي صاغ هذه الكلمات كلها، حتى قرأت في بخلاء الجاحظ (ت. 255هـ) مانصه:
قال أبو فاتك: الفتى لا يكون نشافاً، ولا نشالاً، ولا مرسالاً، ولا لكاماً، ولا مصاصاً، ولا نفاضاً، ولا دلاكاً، ولا مقوراً، ولا مغربلاً، ولا محلقما، ولا مسوغاً، ولا مبلعماً، ولا مخضراً. فكيف لو رأى أبو الفاتك اللطاع، والقطاع، والنهاش، والمداد، والدفاع، والمحول! والله إني لأفضل الدهاقين حين عابوا الحسو، وتقززوا من التعرق، وبهرجوا صاحب التمشيش، وحين أكلوا بالبارجين، وقطعوا بالسكين، ولزموا عند الطعام السكتة، وتركوا الخوض، واختاروا الزمزمة. أنا والله أحتمل الضيف والضيفن، ولا أحتمل اللعموظ ولا الجردبيل. والواغل أهون على من الراشن.
بطبيعة الحال، أنا هنا لا أهاجم اللغة العربية، ولا أتنقصها. ولكني أستقرئ اهتمامها بالتفصيل في مسائل الطعام، والمواكلة. فاللغة والثقافة كما نعلم يطوع بعضهما بعضاً، ويسيران في خدمة بعضهما.
وهكذا فقد اهتم العرب بالجانب الاجتماعي في مسألة الطعام، والولائم، وانطلاقا من هذا، اهتموا كذلك بالجانب الأخلاقي المتعلق بأداب المائدة. فبالإضافة للأحاديث المتعلقة بآداب الأكل، كالتسمية، والأكل مما يلي، وغير ذلك، فقد اهتمت الأدبيات العربية بالتفصيل في موضوع المواكلة. فهذا ابن عبدربه يفرد باباً في العقد الفريد يسميه (باب الأدب في المؤاكلة)، وكذلك الأبشيهي في المستطرف
ومما يجب أن يدرس أيضا في هذا الباب، كمؤشر ثقافي، طرق ترتيب الأطعمة والأشربة على المائدة، وطرق الدعوة، والجلوس وأوقات الأكل، وكيفيته، وغير ذلك. لأن الكتابات (سواء الأدبية أو غير الأدبية) التي تتعرض لمثل ذلك ينبغي أن تدرس بعناية لمعرفة مدلولات عبارات الطعام، ونسبتها للثقافة، ومعرفة الثقافة الشعبية من النخبوية، وعلاقة ذلك كله بالعمل الأدبي والتعليقات الثقافية التي يضيفها بشكل خفي من خلال وصفه للطعام والشراب.
كما ينبغي للناقد الاهتمام برمزية الطعام في العمل الأدبي. فالخبز مثلاً كثيراً مايرمز في الأدبيات العربية للطبقة الدنيا، فهو غذاء الفقراء، ويكنى بأبي جابر، لجبره العظم، أو لجبره خواطر الفقراء. وكذلك الحلويات، فمنها ماهو رمز لسعادة الفقير، كالهريسة، ومنها ماهو رمز لرفاهية الوجهاء، مثل الفالوذج واللوزينج، الذين يشي أصلهما الفارسي باليسر والبحبوحة. فهذه الرمزية تفيد كمؤشر طبقي داخل ثقافة مجتمع معين، وينبغي كشف هذه الرمزية للوصول لقراءة دقيقة للعمل الأدبي.
وإذا كان الطعام وسيلة لقياس الثقافة الشعبية من النخبوية داخل المجتمع الواحد، فإنه أيضاً مقياس لابأس بدقته لرصد قوة المؤثرات الثقافية الخارجية، وتغلغلها في الثقافة المحلية. فتنوع الطعام، واستجلابه يبين تداخلاً ثقافياً لاينبغي تجاوزه، وخصوصاً عندما يكون ذلك في سياق الهيمنة الثقافية الاستعمارية، وعلاقتها الإشكالية بالثقافات المحلية. ذكر الجبرتي في عجائب الآثار، كيف أن الوجود الفرنسي في القاهرة أثر على الثقافة المحلية للشعب المصري، مختاراً (الجبرتي) أن يصف هذا التغير على صعيد الطعام. يقول الجبرتي:
ثم إن عساكرهم صارت تدخل المدينة شيئاً فشيئاً حتى امتلأت منها الطرقات وسكنوا في البيوت ولكن لم يشوشوا علي أحد، ويأخذون المشتروات بزيادة عن ثمنها، ففجر السوقة وصغروا أقراص الخبز وطحنوه بترابه وفتح الناس عدة دكاكين بجواره ساكنهم يبيعون فيها أصناف المأكولات مثل الفطير والكعك والسمك المقلي واللحوم والفراخ المحمرة وغير ذلك، وفتح نصارى الأروام عدة دكاكين لبيع أنواع الأشربة وخمامير وقهاوي، وفتح بعض الإفرنج البلدين بيوتاً يصنع فيها أنواع الأطعمة والأشربة على طرائقهم في بلادهم، فيشتري الأغنام والدجاج والخضارات والأسماك والعسل والسكر وجميع اللوازم ويطبخه الطباخون ويصنعون أنواع الأطعمة والحلاوات ويعمل على بابه علامة لذلك يعرفونها بينهم فإذا مرت طائفة بذلك المكان تريد الأكل دخلوا الى ذلك المكان وهو يشتمل على عدة مجالس دون وأعلى، وعلى كل مجلس علامته ومقدار الدراهم التي يدفعها الداخل فيه، فيدخلون الى ما يريدون من المجالس وفي وسطه دكة من الخشب وهي الخوان التي يوضع عليها الطعام وحولها كراسي، فيجلسون عليها ويأتيهم الفراشون بالطعام على قوانينهم فيأكلون ويشربون على نسق لا يتعدونه، وبعد فراغ حاجتهم يدفعون ما وجب عليهم من غير نقص ولا زيادة ويذهبون لحالهم.
إن هذا التأثير الثقافي الواضح يتخذ من التنوع الغذائي رمزاً للمثاقفة، أو الهجين. وقد تعرض بعض الكتاب للطعام في البلاد المستعمرة كرمز للتأثر بالمستعمر. فهذه (Arundati Roi) في روايتها (إله الأشياء الصغيرة)، تتخذ من الطعام رمزاً لوجود المستعمر الأزلي في الطعام، ومفرداته اللغوية والثقافية. وكذلك عمل (Chenua Achebe) في روايته عندما تنهار الأشياء (Things Fall Apart) والتي استخدم فيها الخمور المحلية والأطعمة القومية كوسيلة تصوير جديدة تقابل طرق التصوير الغربية لآداب المائدة الأوربية. فكسر فاكهة الكولا في في مجتمع الرواية، له ابعاد ثقافية لايلجأ أتشيبي لوصفها لأنه يفترض فيها العالمية التي طالما افترضها الغربيون في آدابهم. وعندما أرادت آنا في رواية "آنا وملك سيام" لمارجريت لاندن، إبعاد شبح الاستعمار عن مملكة سيام، فعلت ذلك بإقناع الوفد البريطاني بحضارة سيام، وتقدمها على الشعوب المجاورة، وذلك بتنظيم طاولة الطعام على النظام الأوربي، وتدريب الملك وحاشيته على الأكل بالشوكة والسكين. فاقتنع الوفد الإنجليزي بتقدم سيام، وبذا حافظت تلك المملكة الصغيرة على استقلالها. وهذا هيجينز في مسرحية برنارد شو (بيجماليون) استطاع كسب الرهان بأن يجلب فتاة من الطبقة الشعبية المتدنية ويمررها على أنها سيدة نبيلة، وكان قمة هذا التحدي أن يجمعها بالطبقة العليا على طاولة طعام، ويجعلها تتصرف كسيدة.
كان الطعام، وطريقة الأكل وسيلة هامة للتعميمات الثقافية، أو القولبة، استغلتها الثقافات الاستعمارية في العديد من بلدان العالم. فلكي تقتنع الشعوب الاستعمارية بحتمية استعمار تلك البلدان، كان ينبغي اقناعهم بهمجية تلك الشعوب، وحاجتها إلى المدنية الغربية. لذا كثيراً ماكانت تلك الهمجية ترسم في صورة اللباس أو الطعام. ولعل أبرز صور تلك التعميمات، استخدام "تهمة" أكل لحوم البشر في العديد من المناطق الأفريقية، والآسيوية، ومناطق العالم الجديد. فصمت الأفارقة المطبق في رواية جوزيف كونراد (قلب الظلام) لم يقطعه إلى قولهم رداً على سؤال الأوربيين لهم عما سيفعلونه بأعدائهم، فقالوا "نأكلهم." كانت هذه، كما أشار تشينوا أتشيبي في نقده للرواية، مؤشراً على أن المستعمر كائن صامت، وإذا مانطق، فإنما ليثتب على نفسه تهم المستعمر.
ويعتقد عدد كبير من الكتاب مابعد الاستعماريين اليوم أنه لم يوجد أصلاً شعوب آكلة للحوم البشر، وإنما كانت هذه رغبة مكبوتة في المخيلة الأوربية باكتشاف الغريب والمتوحش في البلدان النائية. فكما بين إدوارد سعيد في كتابه الاستشراق، يتوجه المستشرق إلى الشرق أو البلاد المستعمرة راغباً في رؤية شيء معين، لايلبث أن يراه ماثلاً أمام عينيه. تبين آنيا لومبا في كتاب (الاستعمار ومابعد الاستعمار) أن فكرة أكل لحوم البشر تم تطبيقها مباشرة على الشعوب المستعمرة لتبرير الممارسات الاستعمارية الوحشية، إذ تستخدم هذه العادة (أي عادة أكل لحوم البشر) رمزاً للوحشـية المفترضة وعنف سكان البلاد المستعمرة. تقول لومبا:
استفسر البحارة البريطانيون بإفراط في جميع جزر بحر الجنوب التي زارها عن أكل السكان المحليين للحوم البشر لأن: أكل لحوم البشر هو ما رغب جمهور القراء البريطانيين سماعه، لقد كان هذا تعريفهم للمتوحش. وهكذا كان السؤال الذي طرحه كوك في جميع الأماكن التي زارها والذي لم يكن مفر منه حول أكل لحوم البشر وقد أقنعت الأجوبة في معظمها كوك بانتشاره الشائع.
كان السؤال الدائم عن أكلة لحوم البشر يؤرق الرحالة الغربي، حتى ظهرت له هذه العادة فعلاً. إما من خلال محاولة إخافة المستعمر، وذلك بادعاء أكل لحوم البشر، أو بادعاء الغرابة لشد انتباه ومال هذا الرجل الأبيض. وكان المستعمر حريصاً على إثبات هذه العادة التي تثبت أولا تفوقه الثقافي الإنساني، وثانياً إلى حاجة المستعمر الماسة للتحضر على يد الأوربي المتفوق. ولعل العديد من مقالات مجلات مثل (National Geographic) وبرامج اكتشاف القبائل البدائية في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية اليوم، ينبع من هذه الفكرة. بل يساورني الشك في العديد من الأبحاث السوسيولوجية والأنثروبولوجية اليوم التي تعتمد على العيش وسط قبيلة بدائية وتسجيل الغريب من طبائعهم. فالباحث هنا يسجل، أو يدعي تسجيل الغريب من الوقائع الغريبة التي تشير (بشكل مباشر أو غير مباشر) إلى تفوق الغرب الثقافي، وحاجة تلك الشعوب إلى التحضر. إذاً فما يؤكل، وكيف يؤكل، كلها مؤشرات ثقافية لها أبعادها، وخصوصاً إذا ارتبط ذلك بالتبادل الثقافي، سواء في شكل الاستعمار ومابعد الاستعمار، أو المثاقفة، أو الهجين.
العربي والدراسة الجادة لثقافة الطعام
هل قدم النقد العربي دراسات منهجية في بحث تصوير الطعام في الأدب العربي ودلالاته الرمزية والثقافية؟
يعد كتاب الطعام في الثقافة العربية (1994) لنينا جميل الكتاب الوحيد (على حد علمي) الذي تناول الطعام وانعكاسه في الثقافة العربية مستعرضاً في صفحاته المائتين طقوس الأكل والشرب، ومايرافقها من تقاليد ارتبطت في ذاكرة الشعوب العربية. وينقسم الكتاب لأربعة أبواب تناولت:
أطعمة العرب قبل الإسلام، أطعمة العرب بعد الإسلام، الطعام في الحياة الدينية، والطعام في الحياة الاجتماعية والثقافية. بيد أن الكتاب يظهر أنثروبولوجياً أكثر من كونه نقدياً. فلا يهتم الكتاب مثلاً بتصوير الطعام في الأدب العربي، ولا رمزية الطعام، أو فاعليته في الدلالة على المستوى الثقافي للشخصيات.
والحقيقة لم يصل لعلمي حتى الآن وجود كتاب عربي يبحث في الطعام على هذا النحو. أما في الإنجليزية فقد صدر عام 2000 عن مطبعة جامعة كولومبيا كتاب (وليمة إلهية: الطعام في الأدب العربي الكلاسيكي) لـ (Van Gelder) (استاذ الأدب العربي في جامعة أكسفورد). ويبين جيلدر في هذا الكتاب أن الأكل والتخاطب يتعلقان بيولوجيا بالفم، وهذا أول رابط بين الأدب والطعام من بين روابط عدة. وتبرز هذه الرابطة كثيرا في الثقافة العربية. ويستعرض جيلدر الشعر الجاهلي، وشعر صدر الإسلام، والأدب الشعبي مثل ألف ليلة وليلة، وغيرها ليصل إلى طريقة رسم الطعام في الأدب العربي القديم، وكيف يؤثر الطعام في تشكيل تلك النصوص الأدبية. ويربط جيلدر بين الطعام والثقافة العربية في مواضع مثل: الولائم كرمز لمبدأ الكرم الفاحش والمحافظة على المكانة الاجتماعية، والطعام والأدب الساخر. وهو كذلك يستعرض النظام الغذائي كمؤشر شعبي لتمييز مثلاُ الصوفية من البدو، والأمراء من الفلاحين، والمتزندقة، وغيرهم. وكذلك يستعرض دور الأطباق في تفسير الأحلام، ورمز النص كوليمة يدعى إليها.
إن كانت محاضرة اليوم تنادي بشيء فهو أهمية توجيه بعض الاهتمام بهذا الجانب المهمل من الأعمال الأدبية، قديمها وحديثها. وأحب أن استعرض فيما تبقى من الوقت مثالاً لمثل هذه الدراسات التي أنادي بها، وهي قراءة لموضوع الطعام في ثلاثية محفوظ، معتمداً على مقدمة صبري حافظ لترجمة الثلاثية, التي صدرت في كتاب واحد عام 2001، عن دار (Everyman) في الولايات المتحدة.
ففي الثلاثية تـبرز الثقافة المطبخية، وغيرها من الطقوس الاجتماعية، الحياة في بيت عائلة عبدالجواد. ففي الفجر، يبدأ اليوم بعجن العجين في غرفة الفرن في الدور الأرضي. ومع أن هذا العجن يتم زمنياً بعد أن تصلي الأم صلاة الفجر، إلا أن الترتيب السردي يعكس ذلك، جاعلاً العجن مؤشر بداية اليوم. وهذا التغيير يؤكده وصف العجن والخبز بتفاصيله، بينما يقتضب في وصف صلاة الأم، على شكل سرد مرويّ. وهذا الهدم السردي للنظام الزمني القائم هو مؤشر آخر على أهمية أمينة في البيت/الرواية. فتخصيص الأماكن في المنزل صمم بتسلسل هرمي. فالأب يقطن في أعلى دور، وتسكن الأم والأولاد في الدور الأوسط، وتسكن البنات في الدور الأرضي، بينما ينفى التنور في باحة المنزل. إلا أن الترتيب الزمني للسرد يجلب التنور للمقدمة، وهو مركز سلطة الأم ونشاطاتها المنزلية. وهذا القلب السردي للنظام الواقعي يهدم الواقع ويعيد موازنة الهرمية الاجتماعية التي تقلل من دور المرأة، وذلك بإعطائهن الصدارة السردية على عالم الرجال.
ويعطي الوصف المتأني للتنور، بنسائة النشيطات كمصدر حياة، وكثير من مباهجها اللذيذة، دوراً رئيسياً في تفصيل اليوم، وتحديد مناسبات مثل رمضان، والعيدين، وغيرها من المناسبات الاجتماعية. فلا عجب إذاً أن يكون المطبخ أيضاً مكان سيادة مطلقة لسلطة الأم، حيث تتصرف بالشؤون المنزلية لعائلتها. ويبرز المطبخ ليس فقط كساعة المنزل الداخلية، ومصدر تغذيته (حيث تجاور غرفة حفظ اللحوم، والمستودع)، بل أيضاً كساحة اختبار لنساء المنزل. وهو يضم وصفات خاصة لتسمين الطيور والحيوانات للاستهلاك المنزلي، وكذلك لتسمين البنات للخطاب. ويبرز دفئه وألفته للمقارنة ببقية أجزاء البيت.
وحين يحضّـر الإفطار، تأخذه الأم على صينية نحاسية لغرفة الطعام وتشرف على عملية التجهيز والأكل. ويستخدم محفوظ هنا مرة أخرى الطعام لإيصال العديد من الرسائل الهامة. فقد تم إفراد الإفطار لأنه الوجبة الوحيدة التي يجتمع عليها الأبناء مع أبيهم، وهذا أقرب شيء لجلسة عائلية. وتظهر الأطباق المقدمة خلفية العائلة الاجتماعية، بل وحتى هويتها القومية. فالبيض، والفول، والجبنة، والليمون المخلل، والبهارات، وأرغفة الخبز الساخن تضع العائلة في أعالي الطبقة المتوسطة، بينما يمثل حضور الفول رمزا قومياً مصرياً. أما أكل الوجبة على طاولة منخفضة الارتفاع تنتشر حولها مخدات صغيرة للجلوس عليها، فيدل مرة أخرى على عائلة صاعدة لأعالي الطبقة المتوسطة، وليس مثلاً على عائلة نازلة إليها من طبقة أعلى. فلو كانت الأخيرة لتمسكوا بمظاهر الطاولة والكراسي. أما التفاعل بين الأب والأولاد الثلاثة، أعضاء العائلة الوحيدين الذين يسمح لهم بالأكل معه، فإنه يبرز جوانب في شخصيته، وخلفيته الثقافية والتعليمية، وعلاقته بأولاده.
وبالرغم من أن الأم لايسمح لها بالأكل معهم، فإن وظيفتها لاتنتهي بإحضار صينية الإفطار. بل إنها تقف في الغرفة بجرة ماء استعداداً لتلبية أي طلب. فالأم الحاكمة بسلطة مطلقة في الدور الأرضي، تقبع في الدور الأوسط كائناً صامتاً مهمشاً. إلا أن وجودها الصامت أثناء مراسيم الإفطار هذه يمنحها تميزاً لايتوفر لغيرها من نساء العائلة. وبالرغم من تضور الأولاد الثلاثة جوعا، إلا أنهم يتحكمون في أنفسهم، منتظرين حتى يبدأ الأب بالأكل، ثم يبدأون تسلسلاً عمرياً، فيبدأ ياسين، ففهمي، ثم كمال. ويظهر هذا تصرفهم الرسمي في حضرة سلطة أبيهم، ودرجة التفاعل الهرمي داخل العائلة، والذي أكده الكاتب حين غير المنظور السردي، واصفاً الأحداث من وجهة نظر كمال، أصغر الأولاد. فهو اشدهم خوفاً من الأب، وأكثرهم حذراً وقلقاً أثناء الأكل، كما أنه يشعر بقلق لعدم قدرته على المنافسة على نصيبه من الطعام مع أخويه النشيطين، وخصوصاً حين يغادر الأب، وتتبعه الأم، مما يتسبب في انهيار نظام الأكل، محولاً الغرفة من مكان رسمي ذي سلطة هرمية، إلى أخرى ذات طبيعة بيتية، حيث يتصارع الإخوان على الطعام في منظر يختلف تماماً عن سابقه، حتى يحسمه كمال بالعطس عمداً على صحون الإفطار، فيمتنع الأخوان الكبيران عن الأكل تقززاً، ويفوز كمال بما تبقى من الإفطار. وهذا التغيير مؤشر آخر على الديناميكية (الحركية) الداخلية للعائلة.
تجهز مغادرة الأب المبكرة القارئ لخاتمة مشهد الطعام، فحين يذهب لغرفته، تتبعه الأم، بكوب يحتوي على ثلاث بيضات نيات مخفوقة بحليب وعسل. ويفتح السرد هنا على عالم مختلف من طبخات ومقويات؛ فبعضها يعد للأب لفتح شهيته، إو لإثارته، في حين تعمل بعض وصفات هذا المطبخ لتسمين البنات وتجميلهن. كما أنه يقدم للقارئ هدفين متعارضين للرجال والنساء في هذا المحيط. فبينما تبرع الأم في مهاراتها الغذائية في مجال المقويات، يقدم لنا الأب ، من خلال تسلسل أفكاره، براعته في الخمور والحشيش، فيبرز الطعام (الوسيلة/المتعة) كفارق بين الشخصيتين.
وهناك تباين هام آخر بين اجتماع العائلة الذي يشرف عليه الأب (الإفطار)، والآخر الذي تشرف عليه الأم (ساعة القهوة) قبيل المغرب. ففي الأخير يحل التواصل الديموقراطي الأمومي محل النظام الكبتي الأبوي. ففي حين يتم الإفطار في الدور الأعلى، وهو محصور على ذكور العائلة، تتم ساعة القهوة في الدور الأول، وهي مفتوحة للجميع، ماعدا الأب الذي يتوجه بعد إقفال المحل لسهراته المعتادة. وبالرغم من أنه ليس كل فرد في العائلة يسمح له بشرب القهوة، فالكل له دور في هذا الحدث الاجتماعي، الذي يقربهم من بعضهم، ويحقق حاجياتهم المختلفة. أما مشهد الافطار، بهرميته المطلقة، فيقدم من وجهة نظر أحادية. وحين يغير المؤلف منظور السرد، ليكون من خلال كمال، وذلك في الجزء الأخير من مشهد الإفطار، فإنه يريد أن يمثل على صرامة هذا النظام الأبوي. في حين يمثل مشهد ساعة القهوة تداخل الأصوات، وتعدد أبعاد السرد، ومنظوراته.
فالسياسات العائلية تظهر في الثلاثية من خلال الطقوس الاجتماعية للأكل وشرب القهوة، وكذلك في رمزية التوزيع المكاني لهذه الطقوس. فالإفطار في الدور العلوي، حيث سلطة الأب المطلقة. فالجميع يأتي لأرضه، ويتصرف بناء على قوانينه. ونستطيع قول مثل ذلك بشأن الدور الأرضي، مملكة الأم المطلقة، وكذلك الدور الأوسط حيث ساعة القهوة. ولكن بما أن الوقت والتغير هما الأبطال الحقيقيين للثلاثية، فإن التوزيع المكاني يتغير، وبتغيره تختلف أهمية الوجبات التي تتم فيه.
ففي قصر الشوق انتقلت ساعة القهوة من الدور الأوسط، للدور الأرضي، بعد موت فهمي، وبعد زواج البنتين، مما يبين كيف أن هذين الحدثين الهامين أثرا في عالم الأم، وقطعا مصدراً هاماً لسعادتها الاجتماعية. إلا أن الضربة القاضية لتناغم هذا البيت تأتي من المكان المقابل له في الجزء الثاني، وهو بيت آل شداد. فإن زخارف الحداثة في منزل عايدة هامة مثل أهمية اختلاف الأطعمة التي تجلبها في الرحلة للأهرام، حيث تدمج العلمانية والفرعونية . فالطعام هنا يظهر بوضوح الطبقة الاجتماعية، والخلفية الثقافية، بل وحتى التغيرات الزمنية في الأنماط السلوكية والذوق، وكل ذلك يبشر بالتغيير التصوري في حياة كمال.
أما في السكرية، فإن عودة ساعة القهوة للدور الأوسط استخدمت للدلالة على تغير هام في العلاقة. فإن تسلسل المصائب على أجمل البنتين (عائشة) يعطيها مجالاً للحرية اكتسبته من طريق الألم، مثل التدخين علناً، والمشاركة الكاملة في ساعة القهوة مع ذكور العائلة. فساعة القهوة الآن ترفع النساء من الدور الأرضي للأوسط، موجدة شبه تكافؤ بين جميع أفراد العائلة.
ويمكن ذلك تدهور صحة الأب، ونزوله من الدور العلوي للأوسط. فهو الآن يأكل عشاءه (والذي يتكون من زبادي وبرتقالة) في البيت، فلم يعد يستطيع الانغماس في ملذات المأكل والمشرب التي طالما استمتع بها في سهراته. وعندما يشتد ضعفه، ينزل إلى الدور الأرضي، وينتهي به الحال في سريره، معتمداً على زوجته، وبهذا يكتمل هبوطه الرمزي. أما أمينة فإنها تبقى في غرفتها في الدور الأوسط إلى النهاية. ولاحقاً يمثل غياب ساعة القهوة مؤشراً هاماً في العائلة/الرواية، تماماً كما كان وجودها.
أختم بضرورة توجه النقد العربي للدراسة التحليلية للطعام وصوره في الأدب العربي سواءً نثراً أم شعراً. فالطعام مؤشر ثقافي مهم لمدلولات رئيسية مثل: الزمان، المكان، الطبقة، المكانة الاجتماعية، القومية، العرق، الدين، الجنس، الشخصية، والذوق العام، وكل هذه الأشياء هي في قلب كل عمل نقدي، يروم سبر أغوار العمل الأدبي، وكشف دلالاته الثقافية والاجتماعية
يقول الفيلسوف الفرنسي سافارين (Savarin) في كتابه فسيولوجيا التذوق (1825): "قل لي ماذا تأكل، أقل لك من أنت." ظلت هذه الكلمة، ولأكثر من قرن ونصف، تفهم على أنها ربط بين الغذاء والصحة العقلية والنفسية، بحيث تكون إعادة لمقولة: "العقل السليم في الجسم السليم." غير أنه في السنوات القليلة الماضية أخذت هذه المقولة بعداً جديداً حين ربطت بمفهوم الطعام كمؤشر ثقافي اجتماعي. وهذا المنطق يقتضي أن المرء يأكل الكاري، إذاً فهو هندي، ولأنه يأكل البطاطس فهو أيرلندي، والكبسة فهو خليجي، إلى أنه لايصح تماما ربط الطعام بالحدود القومية بمثل هذه الصيغة. حيث أن الطعام والثقافة مترابطان في شبكة علاقات معقدة يتجاذبها عوامل العرق، والطبقة، والجنوسة، والجنس. بالإضافة إلى ذلك فإن انتقال الناس، ورأس المال حول العالم يحوران أبعاد النقاش بشأن السياسات الثقافية والطعام.
بداية لماذا هذا الموضوع؟ بالإضافة إلى كون الطعام وسيلة تبادل ثقافي، وتواصل إنساني، وتفاعل بشري / طبيعي، وبالإضافة إلى أن الطعام يستخدم كوسيلة تعبير في بعض الأديان والإيديولوجيات، فإن دراسة طرق تناول المواضيع الخاصة بالطعام تعطيه بعداً جديداً كانعكاس لثقافة معينة، إذ يعتبر الطعام مؤشراً ثقافيا هاماً من حيث ارتباطه بالطبقة، والخلفية الاجتماعية. وفي مجال الأدب، نستطيع من خلال طعام الشخصيات، وطرق وصف الطعام، تحديد هويات هذه الشخصيات في العمل الأدبي، وأبعادها، وتفكيك رموزها.
برزت في السنتين الأخيرتين في الجامعات الأمريكية والأوربية العديد من الدراسات التي تتناول الطعام كانعكاس ثقافي تتجلى فيه الهوية بأبعادها القومية، ونواحيها الإثنية العرقية. كما أصبحت دراسات الجنوسة (الجندر) تناقش الطعام على أنه حقل تتضح فيه الفواصل الجنسانية. ولقد كانت دراسة الطعام في السابق محصورة في أقسام الأنثروبولوجيا أو أقسام التغذية، إلا أنها الآن بدأت تدخل في أقسام الأدب، والأدب المقارن، والدراسات الثقافية. ففي عام 2000 ظهرت موسوعة كيمبردج لتاريخ الطعام في العالم من تأليف كينيث كيبل(Kenneth Kipple) . ويتناول هذا الكتاب في جزئيه (والذي استغرق 10 سنوات بحثاً وكتابة ً) مواضيع متنوعة بين تطور النظام الغذائي للإنسان وعلاقته بالتغذية، والطب، والأطباق الشعبية، والقضايا الثقافية والعرقية، وصولاً إلى السياسات المعاصرة المرتبطة بالطعام. كما صدر العام الماضي كتاب موسوعة الطعام والثقافة. ويتناول الكتاب في أجزائه الثلاثة، وصفحاته البالغة 2035 صفحة، دور الطعام في الثقافات المختلفة. وأعد هذا الكتاب سالامون كاتز (Solomon H. Katz) وهو باحث في أنثروبولوجيا الطعام من جامعة بنسلفينيا. وتحتوي الموسوعة على دراسات أنثروبولوجية، وأركيولوجية، وتاريخية، واقتصادية، ونقدية للعلاقة بين الطعام والثقافة، بما في ذلك انتاج الطعام وتوزيعه، وتخزينه، والطعام والاحتفالات الشعبية، والتغذية، ورمزية الطعام في الفنون، والوجبات القومية. وسيصدر هذا العام كتاب الاستهلاك والثقافة المعاصرة: الفن والكتابة والطعام. ويركز هذا الكتاب (وهو مجموعة مقالات يحرره كريس تومسون من كلية مين Main للفنون) على العلاقات بين الطعام و الثّقافة المعاصرة دارساً قضايا مثل: الاختلاف الثقافي, والمجتمع، و الاستهلاك ، وأساليب تناول الفنانين، والكتاب، والباحثين لهذه الموضوعات، مركزاً على دور كل هؤلاء في بحث العلاقة بين الطعام والثقافة المعاصرة، خلال مراحل الإنتاج، والإعداد، والتحضير، والطهي، والتقديم، إضافة إلى جماليات الطعام وإشكالياته. كما يفتح الكتاب آفاقاً لدراسة علاقة الطعام بالهوية الفردية أو الجماعية. كما خصصت مجلة مراجعات ماساتشوستس (Massachusetts Review) عدداً خاصاً تحت عنوان سياسات الطعام الثقافية (ينشر في ربيع 2004)، وتحرره أنيتا مانور وهي ناقدة وباحثة مابعد استعمارية من جامعة University of Illinois-Urbana Champaign. وتستقبل المجلة المشاركات التي تركز على الطعام، وطرائقه، أو طرق تصويره في الأدب والثقافة مما يأشكل العلاقة بين الطعام والثقافة.
ولم يقتصر الأمر على الكتب والأبحاث الأكاديمية، فقد اتجهت العديد من الجامعات لعقد مؤتمرات لبحث هذا الموضوع. فتعقد منظمة الإقليم الجنوب غربي للثقافة الشعبية، ومنظمة الثقافة الأمريكية مؤتمرهما السنوي المشترك الخامس والعشرين في مدينة سان أنتونيو بتكساس بين 7 – 10 أبريل 2004، تحت عنوان الطعام والثقافة. ويركز المؤتمر على قضاياً مثل:
محاولات تعريف حقل دراسات الغذاء (Food Studies)
تحليل الأسئلة المنهجية في دراسة الطعام والثقافة
تحليل وضع المستهلك (القوة/الضعف) في قضايا الطعام
عولمة الطعام
دور الحدود القومية في قضايا الطعام
كما تقام مؤتمرات متخصصة لدراسة ثقافة الطعام في حقبة تاريخية معينة، أو منطقة جغرافية محددة. مثل مؤتمر ثقافة المطبخ: الطعام والاستهلاك في القرن التاسع عشر، الذي سيقام في الفترة بين 29 – 30 يوليو 2004 في مركز الدراسات الإنجليزية في لندن. ويستضيف المؤتمر باحثين للإجابة على أسئلة مثل:
ـ ماذا كان يعني تناول الطعام عند الفكتوريين؟
ـ ما أهمية إنتاج الطعام، واستهلاكه، وتوزيعه لأدب القرن التاسع عشر، وثقافته، ومجتمعه؟
ماذا تقدم لنا دراسة قضايا الطعام حول شعور بريطانيا بالذات، وحول مكانتها في العالم؟
كيف توضح لنا الدراسة الأكاديمية لثقافة الطعام فهم الفكتوريين للمحلي والأجنبي، وللكفاف، والبذخ، وللعلاقات الجنسانية؟
ماذا تعني ظهور كتب الطبخ في ذلك المجتمع، وما ذا كانت تحويه من تحول اجتماعي؟
كيف يمكن لدراسة الطعام الفكتوري أن تساهم في الاهتمام النقدي الجديد بآثار الطعام الثقافية، والجمالية؟
والمستعرض لكتب التراث العربي يجدها زاخرة بكتابات نستطيع وصفها بأدبيات الطعام، بل أن هناك كتباً في هذا الحقل، كما سيأتي ذكره. وهذه الكتابات تتنوع بين أخلاقيات الطعام، والتي تسمى عادة بآداب الطعام، وبين جماليات الطعام والتي تعنى بوصف الأطعمة، وطرق صنعها، ووصف صفها، وأكلها، وترتيبها على المائدة. بيد أنه لايوجد دراسات عربية جادة لتحليل الطعام ورموزه في الأدب العربي كمؤشرات ثقافية، ومحددات طبقية، أو جنسانية.
إلا أني، وقبل أن أستعرض هذه الكتابات، أشير إلى نقطة هامة وهي أن الإسهاب في وصف الأطعمة والأشربة قد ارتبط في المخيلة العربية بالشراهة، وقلة المروءة. فعلى سبيل المثال، يذكر أبو علي القالي في الأمالي أن قوماً في مجلس الأحنف تذاكروا الطعام والنساء، فقال الأحنف: جنبوا مجالسكم النساء والطعام، فإني أكره للرجل السري أن يكون وصّافاً لبطنه وقد عرف ما يحور إليه، ولفرجه وقد علم أين مجلسه. وقد اعتبر ابن الأزرق (ت. 896هـ) في كتابه بدائع السلك في طبائع الملك ذلك شرهاً مقبوحاً، فيقول:
أقبح الشره الشره على الطعام والجماع. النفس التي غلبت عليها الشهوة والالتذاذ، لا تؤثر حسن الذكر، لأنها لا ترى الفضل إلا فيما ألذت به لذة خسيسة. ومن أرضى الجوارح بالشهوة، فقد غرس في قلبه شجرة الندامة. من أراد شهوات الدنيا فليتهيأ للذل. من اشتاق إلى الجنة سلا من الشهوات. (107)
فعد ذكر الطعام والعناية به من الشره المذموم ومن الانغماس في الشهوات، المنافي للزهد المطلوب. وقد ربط العرب بين الميل إلى الطعام، وبين التطفل كما ذكر ذلك ابن جني في الخصائص، والرازي في المختار.
وعليه فقد كثر في الأدبيات العريبة الربط بين الجوع والزهد، بل والترغيب في ترك الطعام والاهتمام به. وفي ذلك يكتب أبو حيان التوحيدي في الإمتاع والمؤانسة:
قيل لحاتم الأصم: بم رزقت الحكمة? قال: بخلاوة البطن، وسخاوة النفس، ومكابدة الليل. وقال شقيق البلخي: العبادة حرفة، وحانوتها الخلوة، وآلتها الجوع. وقال لقمان: إذا امتلأت المعدة نامت الفكرة، وخرست الحكمة، وقعدت الأعضاء عن العبادة . . . وقال يحيى بن معاد: الشبع يكنى بالكفر. وقال غيره: الجوع يكنى بالرحمة.
كما انتشرت في الأدبيات الصوفية المبالغات في وصف جوع الزهاد. يقول القشيري في رسالته: " كان الجوع من صفات القوم، وهو أحد أركان المجاهدة، فإن أرباب السلوك تدرجوا إلى اعتياد الجوع والإمساك عن الأكل، ووجدوا ينابيع الحكمة في الجوع، وكثرت الحكايات عنهم في ذلك." وقال نقلاً عن يحيى بن معاذ "الجوع للمريدين رياضة، وللتائبين تجربة، وللزهاد سياسة، وللعارفين مكرُمة." وقال أيضاً " كان سهل بن عبد الله لا يأكل الطعام إلا في كل خمسة عشر يوماً؛ فإذا دخل شهر رمضان كان لا يأكل حتى يرى الهلال، وكان يفطر كل ليلة على الماء القراح." وقال " قال أبو عثمان المغربي: الرَّباني لا يأكل في أربعين يوماً، والصمداني في ثمانين يوماً." وقال "كان سهل يصبر عن الطعام سبعين يوماً، وكان إذا أكل ضعف، وإذا جاع قوي." وقال " كان أبو عبيد البسريّ إذا كان أول شهر رمضان يدخل بيتاً، ويقول لامرأته: طبني على الباب، وألقي إليّ كل ليلة من الكوة رغيفاً، فإذا كان يوم العيد فتح الباب ودخلت امرأته البيت فإذا بثلاثين رغيفاً في زاوية البيت، فلا أكل ولا شرب، ولا نام، ولا فاتته ركعة من الصلاة."
وغير ذلك كثير من الترغيب في الجوع، والتنفير من الطعام والعناية به، مما كان له انعكاس واضح على جماليات وصف الطعام في الأدبيات العربية. بل إن أبا العلاء امتدح ترك الطعام بالكلية، فقال:
مَن لي بِتَركِ الطَعامِ أَجمَعَ إِنَّ الـ أَكلَ ساقَ الوَرى إِلى الغَبَنِ
لذا كان تعامل الكتاب والشعراء دائماً حذراً حين يتعلق الموضوع بالطعام، أو وصف الموائد.
والمتفحص كذلك للكتابات التي تعرضت للطعام يجد هناك تركيزاً على الآداب الأخلاقية، دون الأدبيات الجمالية، أو التحليل الوصفي لاستخدام الطعام كرمز. فكثر التأليف حول آدب المائدة مثل فصول آداب الطعام في العديد من كتب الفقه، والأخلاق، وفي ذلك نظم العديد من الشعراء في أخلاقيات المائدة . وكتب الأقفهسي كتاباً سماه(آداب الأكل) في فن إتيكيت المائدة.
وباستعراض أدبيات الطعام أو مواطن وصفه في الأدب العربي وجدت عشرة موضوعات يكثر فيها وصف الطعام، أوجزها فيما يلي :
أولاً: وصف طعام أهل الجنة والنار
ورد وصف طعام أهل الجنة وأهل النار في القرآن والسنة. وأسهبت كتب التفسير والرقائق في شرح هذه الآيات والأحاديث. وعليه فأعتبر هذه الشروحات والتعليقات من الكتابات في الأدبيات العربية التي تهتم بالطعام كمؤشر مادي دال على النعيم أو العذاب، وإن كانت هذه الشروحات تنتهج إما الترغيب أو الترهيب، دون التركيز على جماليات الوصف، أو رمزيته.
ثانياً: السيرة:
في كتابة السيرة، تبرز الحياة الخاصة للإنسان الموصوف، ومن أهمها عاداته وطرق معيشته، وطعامه. وأهم السير في الأدبيات العربية هي لاشك سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم. فقد اهتم كتاب السيرة بوصف طعام الرسول صلى الله عليه وسلم، وطريقة أكله، وقبوله أو رفضه للطعام. وفي حالة الرسول صلى الله عليه وسلم لايعتبر وصف الطعام لاستعراض جماليات الوصف، حيث المقصد معرفة حال الرسول صلى الله عليه وسلم، للاقتداء، أو التشريع. والوصف هنا اجمالي بطبيعته، لأن الإسهاب في وصف المأكل والمشرب يتعارض مع مكانة صاحب السيرة. وتزخر كتب الحديث بوصف طعام الرسول صلى الله عليه وسلم، وطريقة أكله، ومن ذلك أكله باليمين، وهيئة جلوسه، وطريقته في انتشال اللحم، ومضغ الطعام، والجمع بين لونين من الأكل، ولعق الأصابع بعد الأكل، والتقاط ماسقط من الطعام. وكذلك حاله في المشرب، كالشرب باليمين، وشربه العسل الممزوج بالماء البارد، أو حبه للماء الحلو البارد، أو النبذ له دون الثلاث، وكذلك طريقة شربه، كتنفسه في الشرب ثلاثاً، وتجنب الثلمة من الإناء، وغير ذلك مما تزخر به كتب الحديث والسيرة.
وقد أورد ابن القيم في زاد المعاد تفصيلاً في مأكله صلى الله عليه وسلم ومشربه، مثل محبته للحلواء والعسل، وأنه كان يأكل الخبز مأدوما ما وجد له إداما فتارة يأدمه باللحم وتارة بالبطيخ وتارة بالتمر، وهيئته كتجنب الاتكاء عند الأكل، والأكل بثلاثة أصابع، وتعليقاً على نظامه الغذائي صلى الله عليه وسلم، يقول المؤلف:
ومن تدبر أغذيته صلى الله عليه وسلم وما كان يأكله وجده لم يجمع قط بين لبن وسمك ولا بين لبن وحامض ولا بين غذاءين حارين ولا باردين ولا لزجين ولا قابضين ولا مسهلين ولا غليظين ولا مرخيين ولا مستحيلين إلى خلط واحد ولا بين مختلفين كقابض ومسهل وسريع الهضم وبطيئه ولا بين شوي وطبيخ ولا بين طري وقديد ولا بين لبن وبيض ولا بين لحم ولبن ولم يكن يأكل طعاما في وقت شدة حرارته ولا طبيخا بائتا يسخن له بالغد ولا شيئا من الأطعمة العفنة والمالحة كالكوامخ والمخللات والملوحات وكل هذه الأنواع ضار مولد لأنواع من الخروج عن الصحة والاعتدال .
فاستخدم ابن القيم هذا التوازن في النظام الغذائي رمزاً لاعتدال شخصيته عليه الصلاة والسلام، وتوازنه في الأمور كلها.
ثالثاً: المجاعات
وكثرة الوصف هنا ودقته للدلالة على عظم المجاعة. ولعل جماليات الوصف ترد من هذا الباب للتأثير على القارئ ببيان عظم المجاعة. ومن ذلك، وصف المجاعات في كتب الرحلات والتاريخ، مثل وصف ابن بطوطة لمجاعة سرنديب، ووصف البغدادي (ت. 629) في كتابه (الإفادة والاعتبار) للمجاعة التي أصابت مصر عام 597 هـ، ومن كذلك وصف حصار المدن، كوصف ابن الأثير في الكامل لحصار جرجان، وطعامهم أثناء الحصار.
رابعاً: المجون بدرجاته
كوصف موائد الطرب (كما في ألف ليلة وليلة، أو الأغاني، وغيرهما)، أو العناية بوصف الخمر في الخمريات وغيرها. لعل هذا الباب أكثر الإغراض عناية بجماليات الوصف، لارتباط الوصف ودقته، باكتمال البهجة، وإبراز اللهو، والمجون.
خامساً: الدعابة
ومنه التندر بغريب القول، كأسماء بعض الأكلات أو أوصافها، وهنا كلما أوغلت الكلمة في الغرابة كان ألذ للطعام ومن هذا الباب بعض المواضع في مقامات بديع الزمان، والحريري، وغيرهما.
سادساً: وصف الشحيح، وحرصه على الطعام.
وهنا يكون الوصف لقلة الطعام، وخلوه من اللذة. ولعل أبرز ماكتب في هذا بخلاء الجاحظ.
سابعاً: في مواطن قلة المروءة والشراهة
ومن هذا الباب إغلب وصف الطعام في المقامات، وهو غالباً لايكاد يخلو من الطرافة، لذا يتداخل كثيراً مع الغرض السابق (الدعابة).
ثامناً: في وصف الإسراف
وهنا يكون الوصف جمالياً ولايخلو من مبالغات لإيصال فكرة خروج الموصوف عن حدود الاعتدال. ومن ذلك وصف المقريزي في (السلوك لمعرفة دول الملوك) لمقدم الحرة بنت السلطان أبي الحسن علي بن عثمان ابن يعقوب المريني صاحب فاس تريد الحج، والولائم التي صنعت، أو صنعت لها.
تاسعاً: في وصف الأمم الأخرى وعاداتهم وطعامهم وطرق أكلهم
وتزخر بذلك كتب الرحلات المعروفة مثل رحلة ابن جبير، وابن فضلان، وابن بطوطة، وغيرهم، أو كتب وصف البلدان مثل الإحاطة في أخبار غرناطة لابن الخطيب، وفيه فصل عن طعام أهل غرناطة.
عاشراً: وصف الطعام للأغراض الطبية أو الاستشفائية
كما في قانون ابن سينا، والحاوي في الطب للرازي. إلا أن هذا ليس من الجماليات. وإن كان الطب عموما يدخل في الثقافة كانعكاس لاهتمام الناس بالطب والاستشفاء.
( يتبع )
في كتابة السيرة، تبرز الحياة الخاصة للإنسان الموصوف، ومن أهمها عاداته وطرق معيشته، وطعامه. وأهم السير في الأدبيات العربية هي لاشك سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم. فقد اهتم كتاب السيرة بوصف طعام الرسول صلى الله عليه وسلم، وطريقة أكله، وقبوله أو رفضه للطعام. وفي حالة الرسول صلى الله عليه وسلم لايعتبر وصف الطعام لاستعراض جماليات الوصف، حيث المقصد معرفة حال الرسول صلى الله عليه وسلم، للاقتداء، أو التشريع. والوصف هنا اجمالي بطبيعته، لأن الإسهاب في وصف المأكل والمشرب يتعارض مع مكانة صاحب السيرة. وتزخر كتب الحديث بوصف طعام الرسول صلى الله عليه وسلم، وطريقة أكله، ومن ذلك أكله باليمين، وهيئة جلوسه، وطريقته في انتشال اللحم، ومضغ الطعام، والجمع بين لونين من الأكل، ولعق الأصابع بعد الأكل، والتقاط ماسقط من الطعام. وكذلك حاله في المشرب، كالشرب باليمين، وشربه العسل الممزوج بالماء البارد، أو حبه للماء الحلو البارد، أو النبذ له دون الثلاث، وكذلك طريقة شربه، كتنفسه في الشرب ثلاثاً، وتجنب الثلمة من الإناء، وغير ذلك مما تزخر به كتب الحديث والسيرة.
وقد أورد ابن القيم في زاد المعاد تفصيلاً في مأكله صلى الله عليه وسلم ومشربه، مثل محبته للحلواء والعسل، وأنه كان يأكل الخبز مأدوما ما وجد له إداما فتارة يأدمه باللحم وتارة بالبطيخ وتارة بالتمر، وهيئته كتجنب الاتكاء عند الأكل، والأكل بثلاثة أصابع، وتعليقاً على نظامه الغذائي صلى الله عليه وسلم، يقول المؤلف:
ومن تدبر أغذيته صلى الله عليه وسلم وما كان يأكله وجده لم يجمع قط بين لبن وسمك ولا بين لبن وحامض ولا بين غذاءين حارين ولا باردين ولا لزجين ولا قابضين ولا مسهلين ولا غليظين ولا مرخيين ولا مستحيلين إلى خلط واحد ولا بين مختلفين كقابض ومسهل وسريع الهضم وبطيئه ولا بين شوي وطبيخ ولا بين طري وقديد ولا بين لبن وبيض ولا بين لحم ولبن ولم يكن يأكل طعاما في وقت شدة حرارته ولا طبيخا بائتا يسخن له بالغد ولا شيئا من الأطعمة العفنة والمالحة كالكوامخ والمخللات والملوحات وكل هذه الأنواع ضار مولد لأنواع من الخروج عن الصحة والاعتدال .
فاستخدم ابن القيم هذا التوازن في النظام الغذائي رمزاً لاعتدال شخصيته عليه الصلاة والسلام، وتوازنه في الأمور كلها.
ثالثاً: المجاعات
وكثرة الوصف هنا ودقته للدلالة على عظم المجاعة. ولعل جماليات الوصف ترد من هذا الباب للتأثير على القارئ ببيان عظم المجاعة. ومن ذلك، وصف المجاعات في كتب الرحلات والتاريخ، مثل وصف ابن بطوطة لمجاعة سرنديب، ووصف البغدادي (ت. 629) في كتابه (الإفادة والاعتبار) للمجاعة التي أصابت مصر عام 597 هـ، ومن كذلك وصف حصار المدن، كوصف ابن الأثير في الكامل لحصار جرجان، وطعامهم أثناء الحصار.
رابعاً: المجون بدرجاته
كوصف موائد الطرب (كما في ألف ليلة وليلة، أو الأغاني، وغيرهما)، أو العناية بوصف الخمر في الخمريات وغيرها. لعل هذا الباب أكثر الإغراض عناية بجماليات الوصف، لارتباط الوصف ودقته، باكتمال البهجة، وإبراز اللهو، والمجون.
خامساً: الدعابة
ومنه التندر بغريب القول، كأسماء بعض الأكلات أو أوصافها، وهنا كلما أوغلت الكلمة في الغرابة كان ألذ للطعام ومن هذا الباب بعض المواضع في مقامات بديع الزمان، والحريري، وغيرهما.
سادساً: وصف الشحيح، وحرصه على الطعام.
وهنا يكون الوصف لقلة الطعام، وخلوه من اللذة. ولعل أبرز ماكتب في هذا بخلاء الجاحظ.
سابعاً: في مواطن قلة المروءة والشراهة
ومن هذا الباب إغلب وصف الطعام في المقامات، وهو غالباً لايكاد يخلو من الطرافة، لذا يتداخل كثيراً مع الغرض السابق (الدعابة).
ثامناً: في وصف الإسراف
وهنا يكون الوصف جمالياً ولايخلو من مبالغات لإيصال فكرة خروج الموصوف عن حدود الاعتدال. ومن ذلك وصف المقريزي في (السلوك لمعرفة دول الملوك) لمقدم الحرة بنت السلطان أبي الحسن علي بن عثمان ابن يعقوب المريني صاحب فاس تريد الحج، والولائم التي صنعت، أو صنعت لها.
تاسعاً: في وصف الأمم الأخرى وعاداتهم وطعامهم وطرق أكلهم
وتزخر بذلك كتب الرحلات المعروفة مثل رحلة ابن جبير، وابن فضلان، وابن بطوطة، وغيرهم، أو كتب وصف البلدان مثل الإحاطة في أخبار غرناطة لابن الخطيب، وفيه فصل عن طعام أهل غرناطة.
عاشراً: وصف الطعام للأغراض الطبية أو الاستشفائية
كما في قانون ابن سينا، والحاوي في الطب للرازي. إلا أن هذا ليس من الجماليات. وإن كان الطب عموما يدخل في الثقافة كانعكاس لاهتمام الناس بالطب والاستشفاء.
( يتبع )
أحمد الكندري
03-12-2012, 12:01
AM
تاسعاً: في وصف الأمم الأخرى
وعاداتهم وطعامهم وطرق أكلهم
وتزخر بذلك كتب الرحلات المعروفة مثل رحلة ابن جبير، وابن فضلان، وابن بطوطة، وغيرهم، أو كتب وصف البلدان مثل الإحاطة في أخبار غرناطة لابن الخطيب، وفيه فصل عن طعام أهل غرناطة.
عاشراً: وصف الطعام للأغراض الطبية أو الاستشفائية
كما في قانون ابن سينا، والحاوي في الطب للرازي. إلا أن هذا ليس من الجماليات. وإن كان الطب عموما يدخل في الثقافة كانعكاس لاهتمام الناس بالطب والاستشفاء.
الطعام والثقافة العربية
لاتكاد تخلو بلد من البلاد من احتفالات وطنية، او مناسبات قومية. وجرت العادة في مثل هذه المناسبات تأكيد الوحدة الوطنية من خلال عدة وسائل: كالعلم، وإبراز التاريخ المشترك، والعروضات الشعبية من كافة المناطق والتي يوحدها العلم، رمز الوحدة الوطنية، وكذلك الطعام. فكما أن الطعام رابط رمزي للعائلة الواحدة، فهو في هذه المهرجانات يصبح أحد الرموز الدالة على هذه الوحدة الوطنية. فوجبة الديك الرومي في الولايات المتحدة مثلاً أصبحت رمزاً لتوحيد الولايات المتحدة. كما أن الأكلات الشعبية في مهرجان الجنادرية مثلاً رمز آخر لتأكيد هذه الهوية الوطنية لمهرجان الجنادرية، وربطه بالتاريخ الذي يوحد المناطق المشاركة.
والطعام كذلك انعكاس لثقافة الوطن. ففي فرنسا (حيث يعتبر الطعام من أهم مقومات الثقافة الفرنسية) تبرز العناية بالطعام ورمزيته في الحياة العامة. فطريقة الجلوس، ووضعية الشوكة والسكين، وغيرها، كلها مؤشرات تحمل رسائل ثقافية لاينبغي إغفالها.
وفي الصين، لايهتم الصينيون فقط بالأطباق نفسها، بل يهتمون بأدوات الأطعمة، لتكون الأطباق متناسقة مع أدواتها، في اللون والشكل. وتوضع الأطباق الباردة والصيفية في الأواني الزرقاء والخضراء، بينما توضع الأطباق الشتوية وأطباق ولائم الأفراح في الأواني الحمراء والبرتقالية والصفراء. وأشكال الأواني مهمة أيضاً، لكل من الطبق المسطح القاع والطبق العميق القاع، والطبق البيضوي وطبق الحساء استخدامه الخاص؛ ولابد أن تكون كمية الحساء أو الطعام في كل إناء مناسبة. في المأدبة الصينية الرسمية تقدم الأطباق الباردة أولاً، ثم الأطباق الساخنة طبقاً طبقاً، وأخيراً الأطعمة الرئيسية والحساء.
وفي الولايات المتحدة يبرز الطعام كمؤشر ثقافي هام. يقول (John Ikerd) أستاذ الاقتصاد الزراعي في جامعة مزوري الأمريكية في مقالة له بعنوان
وتزخر بذلك كتب الرحلات المعروفة مثل رحلة ابن جبير، وابن فضلان، وابن بطوطة، وغيرهم، أو كتب وصف البلدان مثل الإحاطة في أخبار غرناطة لابن الخطيب، وفيه فصل عن طعام أهل غرناطة.
عاشراً: وصف الطعام للأغراض الطبية أو الاستشفائية
كما في قانون ابن سينا، والحاوي في الطب للرازي. إلا أن هذا ليس من الجماليات. وإن كان الطب عموما يدخل في الثقافة كانعكاس لاهتمام الناس بالطب والاستشفاء.
الطعام والثقافة العربية
لاتكاد تخلو بلد من البلاد من احتفالات وطنية، او مناسبات قومية. وجرت العادة في مثل هذه المناسبات تأكيد الوحدة الوطنية من خلال عدة وسائل: كالعلم، وإبراز التاريخ المشترك، والعروضات الشعبية من كافة المناطق والتي يوحدها العلم، رمز الوحدة الوطنية، وكذلك الطعام. فكما أن الطعام رابط رمزي للعائلة الواحدة، فهو في هذه المهرجانات يصبح أحد الرموز الدالة على هذه الوحدة الوطنية. فوجبة الديك الرومي في الولايات المتحدة مثلاً أصبحت رمزاً لتوحيد الولايات المتحدة. كما أن الأكلات الشعبية في مهرجان الجنادرية مثلاً رمز آخر لتأكيد هذه الهوية الوطنية لمهرجان الجنادرية، وربطه بالتاريخ الذي يوحد المناطق المشاركة.
والطعام كذلك انعكاس لثقافة الوطن. ففي فرنسا (حيث يعتبر الطعام من أهم مقومات الثقافة الفرنسية) تبرز العناية بالطعام ورمزيته في الحياة العامة. فطريقة الجلوس، ووضعية الشوكة والسكين، وغيرها، كلها مؤشرات تحمل رسائل ثقافية لاينبغي إغفالها.
وفي الصين، لايهتم الصينيون فقط بالأطباق نفسها، بل يهتمون بأدوات الأطعمة، لتكون الأطباق متناسقة مع أدواتها، في اللون والشكل. وتوضع الأطباق الباردة والصيفية في الأواني الزرقاء والخضراء، بينما توضع الأطباق الشتوية وأطباق ولائم الأفراح في الأواني الحمراء والبرتقالية والصفراء. وأشكال الأواني مهمة أيضاً، لكل من الطبق المسطح القاع والطبق العميق القاع، والطبق البيضوي وطبق الحساء استخدامه الخاص؛ ولابد أن تكون كمية الحساء أو الطعام في كل إناء مناسبة. في المأدبة الصينية الرسمية تقدم الأطباق الباردة أولاً، ثم الأطباق الساخنة طبقاً طبقاً، وأخيراً الأطعمة الرئيسية والحساء.
وفي الولايات المتحدة يبرز الطعام كمؤشر ثقافي هام. يقول (John Ikerd) أستاذ الاقتصاد الزراعي في جامعة مزوري الأمريكية في مقالة له بعنوان
ثقافة الطعام الجديدة في أمريكا):
غالباً مايرغب الأمريكيون في أن يكون طعامهم سريعاً، وسهلاً، ورخيصاً، دون النظر إلى من إين اشتروه، سواء من السوق، أو من مطاعم الوجبات السريعة. فالأمريكيون يحبون الأشياء السريعة والسهلة، والتي تتطلب أقل تضحية اقتصادية فردية ممكنة. كما أن الأمريكيين أيضاً يعشقون (المظهر)، ويختارون طعامهم الذي (يبدو بمظهر جيد). بل إن بعضهم مستعد لصرف الكثير من المال ليأكل في مطعم غالٍ، فيبدو مظهره هو جيداً. فالسمات المحددة لثقافة الطعام الأمريكية هي السعر، والسهولة، والمظهر.
والثقافة الأمريكية الحديثة بشكل عام هي ثقافة براغماتية تربط السياسات بالواقع، ولا تبتعد كثيرا عن مارسمه إيكارد من ثقافة الطعام. بل إن نفوذ الأطعمة الأمريكية يعني نفوذاً للثقافة الأمريكية. ففي روسيا، أصبح يؤرخ للانفتاح الروسي على الغرب/أمريكا بيوم افتتاح أول مطعم ماكدونالدز في موسكو عام 1990. وفي باريس (التي يرى أهلها في مكدونالدز رمزاً لفساد الذوق الأمريكي) عارض عمدة باريس وبشدة افتتاح مكدونالدز لفروع له في مواقع باريسية حساسة "ثقافياً،" مثل منطقة برج أيفل، ومنطقة (Pont d’lena).وكذلك يقاطع الكثير من المستهلكين كوكا كولا في بلدان مثل ماليزيا، والصين، وكولومبيا، وغيرها، بل إن أي تظاهرة ضد السياسه أو الثقافة الأمريكية تنتهج عادة المقاطعة الاقتصادية للمأكولات الأمريكية، وغيرها من المنتجات.
وكذا الحال عند العرب، حيث يبدو الطعام أداة ثقافية تنتقل من خلالها العديد من الرموز والمؤشرات الثقافية الهامة، والراسمة لحدود ثقافة هذا البلد أو ذاك. فعندما يدعو الداعي إلى وليمة فدائماً مايؤكد ان الاجتماع أهم من الوجبة ذاتها. ولعل هذا التركيز على الأخلاق في الطعام، واستخدامه في تعزيز الروابط الاجتماعية، هو مادعى العرب للتفنن في إطلاق الأسماء المتعددة على ولائم الطعام. وهذا التنوع دعى ابن طولون لكتابة مؤلف أسماه (فص الخواتم فيما قيل في الولائم)، مركزاً على أنواع الولائم المتعددة وماقيل فيها نثراً وشعراً. وقد نضم القاضي صدر الدين بن العز الحنفي في انواع الولائم فقال:
أسامي الطَّعامِ اثنانِ منْ بعدِ عَشْرةٍ
سَأسْرِدُهـا مـقـرُونةً بـبـيانِ
وليمةُ عُـرْسٍ ثـمَّ خُـرسُ وِلادَةٍ
عقيقةُ مَـوْلُـودٍ، وَكـيرةُ بـانِ
وَضيمةُ ذيْ مَوْتٍ نَـقـيعةُ قـادِمٍ
عَذيرٌ أو أعـذارٌ لـيومِ خِـتـانِ
و مأدُبةُ الخِلاّنِ لا سبـبٌ لـهـا
حِذَاقُ صَبيًّ يومَ خـتـمِ قُـرانِ
و عَاشِرُها في النَّظمِ تُحـفةُ زائرٍ
قِرى الضَّيفِ مَعْ نُزْلٍ لَهُ بأمـانِ
ولعل هذا التركيز على الاهتمام اللغوي بأنواع الولائم مما يثير الاهتمام عند الباحث. فالاهتمام اللغوي يدل على اهتمام ثقافي. فمثلاً يوجد عشرات الأسماء عند العرب للجمل، والنخلة، وذلك لأهميتهما الاقتصادية/الثقافية عند العرب، كما أن للأسكيمو عشرات الكلمات الدالة على وصف الثلج. وهذا معروف في علوم اللغة.
وكذلك يبرز الاهتمام اللغوي اهتمام العرب بالجانب الاجتماعي بالولائم. فترى الاهتمام اللغوي بالمؤاكلة يصل لدرجة إيجاد الكلمات الكثيرة الدالة على عيوب المؤاكل. فالقارئ مثلاً لرسالة آداب المواكلة لأبي البركات الغـَـزي (904- 984 هـ) يلاحظ كثرة الكلمات الدالة على عيوب المواكل، وهو اهتمام ثقافي يبرز البعد الاجتماعي للولائم، وتركيز العرب على الأخلاقيات في مسألة الطعام والمؤاكلة. وأختار لكم من غريب ماوجدت في هذه الرسالة من عيوب مثل:
المقطع: ويسمى القطاع، وهو الذي إذا تناول اللقمة بيده استكبرها، فعض على نصفها، ويعاود غمس النصف الآخر في الطعام ويأكله.
والمبعبع: هو الذي إذا أراد الكلام لم يصبر إلى أن يبلع اللقمة؛ لكنه يتكلم في حال المضغ فيبعبع كالجمل، ولا يكاد يفسر كلامه، وخصوصاً مع كبر اللقمة.
والمفرقع: هو الذي لا يضم شفتيه عند المضغ، فيسمع لأشداقه صوت من باب بيته؛ وربما ينتثر المأكول من أشداقه، والأدب أن لا يسمعه الأقرب إليه.
والرشاف: هو الذي يجعل اللقمة في فمه ويرشفها، فيسمع له ساعة البلع حساً لا يخفى على أحدٍ.
والدفاع: هو الذي إذا جعل اللقمة في فيه أدخل معها بعض سبابته، كأنه يدفعها بها.
واللطاع: ويسمى اللحاس، وهو الذي يلحس أصابعه ليميط عنها ودك الطعام قبل أن يفرغ من الأكل، ثم يعيدها للطعام، أما بعد الفراغ فلا بأس به، على أن لا يعاود، وأفضل الحالين تعهد الأصابع بما تمسح به كل وقت كمئزر المائدة.
والعائب: هو الذي ينبه على بعض عيوب الطعام، فيقول: هذا شواء أحرقه الشواء، وهذه هريسة جيدة، لولا أنها سمراء، وهذا طبيخ كثير الملح أو قليل الحمض أو الحلو.
والجملي: هو الذي لخشيته من تنقيط المرق على أثوابه يمد رقبته، ويتطاول إلى قدام كالجمل حتى ينقط ما يقطر من فيه على المائدة أو المئزر.
والبحاث: وهو من يبحث الطعام، ويفرقه، وينظر في أجزائه حتى يغثي نفس من يراه، ويخطئ عقل من ينهاه.
والحامد: وهو الذي يحمد الله تعالى جهراً في وسط الطعام؛ ولا سيما رب المنزل، فكأنه ينسب في ذلك إلى تنبيه الحاضرين على الكف عن الطعام
والمرنخ: هو الذي يرنخ اللقمة في المرق، فلا يبتلع اللقمة الأولى حتى تلين الثانية.
والمملعق: هو الذي يتخذ من الخبز ملاعق يحتمل بها المرق، وقلما يسلم من تلويث ثيابه ولحيته.
والمتلفت: هو الذي لا يزال يتلفت إلى الناحية التي ينقل منها الطعام كأنه يتوقع طعاماً آخر،
والممتحن: ويسمى المحسس والمحتال، وهو الذي يضع إصبعه على لحمة ظاهرة، فإن رآها عظماً ضم إصبعه ومصها، يوهم أن الطعام حار وأنه لذعه، وإن رآها لحمة أخذها، ثم إن كانت كبيرة أكلها، أو صغيرة دفعها لجاره كأنه آثره بها.
والمتشكي: هو رب المنزل إذا اشتكى السنة وغلاء الأسعار.
والحقيقة أني كنت أظن أن أبا البركات الغـَـزي صاغ هذه الكلمات كلها، حتى قرأت في بخلاء الجاحظ (ت. 255هـ) مانصه:
قال أبو فاتك: الفتى لا يكون نشافاً، ولا نشالاً، ولا مرسالاً، ولا لكاماً، ولا مصاصاً، ولا نفاضاً، ولا دلاكاً، ولا مقوراً، ولا مغربلاً، ولا محلقما، ولا مسوغاً، ولا مبلعماً، ولا مخضراً. فكيف لو رأى أبو الفاتك اللطاع، والقطاع، والنهاش، والمداد، والدفاع، والمحول! والله إني لأفضل الدهاقين حين عابوا الحسو، وتقززوا من التعرق، وبهرجوا صاحب التمشيش، وحين أكلوا بالبارجين، وقطعوا بالسكين، ولزموا عند الطعام السكتة، وتركوا الخوض، واختاروا الزمزمة. أنا والله أحتمل الضيف والضيفن، ولا أحتمل اللعموظ ولا الجردبيل. والواغل أهون على من الراشن.
بطبيعة الحال، أنا هنا لا أهاجم اللغة العربية، ولا أتنقصها. ولكني أستقرئ اهتمامها بالتفصيل في مسائل الطعام، والمواكلة. فاللغة والثقافة كما نعلم يطوع بعضهما بعضاً، ويسيران في خدمة بعضهما.
وهكذا فقد اهتم العرب بالجانب الاجتماعي في مسألة الطعام، والولائم، وانطلاقا من هذا، اهتموا كذلك بالجانب الأخلاقي المتعلق بأداب المائدة. فبالإضافة للأحاديث المتعلقة بآداب الأكل، كالتسمية، والأكل مما يلي، وغير ذلك، فقد اهتمت الأدبيات العربية بالتفصيل في موضوع المواكلة. فهذا ابن عبدربه يفرد باباً في العقد الفريد يسميه (باب الأدب في المؤاكلة)، وكذلك الأبشيهي في المستطرف
ومما يجب أن يدرس أيضا في هذا الباب، كمؤشر ثقافي، طرق ترتيب الأطعمة والأشربة على المائدة، وطرق الدعوة، والجلوس وأوقات الأكل، وكيفيته، وغير ذلك. لأن الكتابات (سواء الأدبية أو غير الأدبية) التي تتعرض لمثل ذلك ينبغي أن تدرس بعناية لمعرفة مدلولات عبارات الطعام، ونسبتها للثقافة، ومعرفة الثقافة الشعبية من النخبوية، وعلاقة ذلك كله بالعمل الأدبي والتعليقات الثقافية التي يضيفها بشكل خفي من خلال وصفه للطعام والشراب.
كما ينبغي للناقد الاهتمام برمزية الطعام في العمل الأدبي. فالخبز مثلاً كثيراً مايرمز في الأدبيات العربية للطبقة الدنيا، فهو غذاء الفقراء، ويكنى بأبي جابر، لجبره العظم، أو لجبره خواطر الفقراء. وكذلك الحلويات، فمنها ماهو رمز لسعادة الفقير، كالهريسة، ومنها ماهو رمز لرفاهية الوجهاء، مثل الفالوذج واللوزينج، الذين يشي أصلهما الفارسي باليسر والبحبوحة. فهذه الرمزية تفيد كمؤشر طبقي داخل ثقافة مجتمع معين، وينبغي كشف هذه الرمزية للوصول لقراءة دقيقة للعمل الأدبي.
وإذا كان الطعام وسيلة لقياس الثقافة الشعبية من النخبوية داخل المجتمع الواحد، فإنه أيضاً مقياس لابأس بدقته لرصد قوة المؤثرات الثقافية الخارجية، وتغلغلها في الثقافة المحلية. فتنوع الطعام، واستجلابه يبين تداخلاً ثقافياً لاينبغي تجاوزه، وخصوصاً عندما يكون ذلك في سياق الهيمنة الثقافية الاستعمارية، وعلاقتها الإشكالية بالثقافات المحلية. ذكر الجبرتي في عجائب الآثار، كيف أن الوجود الفرنسي في القاهرة أثر على الثقافة المحلية للشعب المصري، مختاراً (الجبرتي) أن يصف هذا التغير على صعيد الطعام. يقول الجبرتي:
ثم إن عساكرهم صارت تدخل المدينة شيئاً فشيئاً حتى امتلأت منها الطرقات وسكنوا في البيوت ولكن لم يشوشوا علي أحد، ويأخذون المشتروات بزيادة عن ثمنها، ففجر السوقة وصغروا أقراص الخبز وطحنوه بترابه وفتح الناس عدة دكاكين بجواره ساكنهم يبيعون فيها أصناف المأكولات مثل الفطير والكعك والسمك المقلي واللحوم والفراخ المحمرة وغير ذلك، وفتح نصارى الأروام عدة دكاكين لبيع أنواع الأشربة وخمامير وقهاوي، وفتح بعض الإفرنج البلدين بيوتاً يصنع فيها أنواع الأطعمة والأشربة على طرائقهم في بلادهم، فيشتري الأغنام والدجاج والخضارات والأسماك والعسل والسكر وجميع اللوازم ويطبخه الطباخون ويصنعون أنواع الأطعمة والحلاوات ويعمل على بابه علامة لذلك يعرفونها بينهم فإذا مرت طائفة بذلك المكان تريد الأكل دخلوا الى ذلك المكان وهو يشتمل على عدة مجالس دون وأعلى، وعلى كل مجلس علامته ومقدار الدراهم التي يدفعها الداخل فيه، فيدخلون الى ما يريدون من المجالس وفي وسطه دكة من الخشب وهي الخوان التي يوضع عليها الطعام وحولها كراسي، فيجلسون عليها ويأتيهم الفراشون بالطعام على قوانينهم فيأكلون ويشربون على نسق لا يتعدونه، وبعد فراغ حاجتهم يدفعون ما وجب عليهم من غير نقص ولا زيادة ويذهبون لحالهم.
إن هذا التأثير الثقافي الواضح يتخذ من التنوع الغذائي رمزاً للمثاقفة، أو الهجين. وقد تعرض بعض الكتاب للطعام في البلاد المستعمرة كرمز للتأثر بالمستعمر. فهذه (Arundati Roi) في روايتها (إله الأشياء الصغيرة)، تتخذ من الطعام رمزاً لوجود المستعمر الأزلي في الطعام، ومفرداته اللغوية والثقافية. وكذلك عمل (Chenua Achebe) في روايته عندما تنهار الأشياء (Things Fall Apart) والتي استخدم فيها الخمور المحلية والأطعمة القومية كوسيلة تصوير جديدة تقابل طرق التصوير الغربية لآداب المائدة الأوربية. فكسر فاكهة الكولا في في مجتمع الرواية، له ابعاد ثقافية لايلجأ أتشيبي لوصفها لأنه يفترض فيها العالمية التي طالما افترضها الغربيون في آدابهم. وعندما أرادت آنا في رواية "آنا وملك سيام" لمارجريت لاندن، إبعاد شبح الاستعمار عن مملكة سيام، فعلت ذلك بإقناع الوفد البريطاني بحضارة سيام، وتقدمها على الشعوب المجاورة، وذلك بتنظيم طاولة الطعام على النظام الأوربي، وتدريب الملك وحاشيته على الأكل بالشوكة والسكين. فاقتنع الوفد الإنجليزي بتقدم سيام، وبذا حافظت تلك المملكة الصغيرة على استقلالها. وهذا هيجينز في مسرحية برنارد شو (بيجماليون) استطاع كسب الرهان بأن يجلب فتاة من الطبقة الشعبية المتدنية ويمررها على أنها سيدة نبيلة، وكان قمة هذا التحدي أن يجمعها بالطبقة العليا على طاولة طعام، ويجعلها تتصرف كسيدة.
كان الطعام، وطريقة الأكل وسيلة هامة للتعميمات الثقافية، أو القولبة، استغلتها الثقافات الاستعمارية في العديد من بلدان العالم. فلكي تقتنع الشعوب الاستعمارية بحتمية استعمار تلك البلدان، كان ينبغي اقناعهم بهمجية تلك الشعوب، وحاجتها إلى المدنية الغربية. لذا كثيراً ماكانت تلك الهمجية ترسم في صورة اللباس أو الطعام. ولعل أبرز صور تلك التعميمات، استخدام "تهمة" أكل لحوم البشر في العديد من المناطق الأفريقية، والآسيوية، ومناطق العالم الجديد. فصمت الأفارقة المطبق في رواية جوزيف كونراد (قلب الظلام) لم يقطعه إلى قولهم رداً على سؤال الأوربيين لهم عما سيفعلونه بأعدائهم، فقالوا "نأكلهم." كانت هذه، كما أشار تشينوا أتشيبي في نقده للرواية، مؤشراً على أن المستعمر كائن صامت، وإذا مانطق، فإنما ليثتب على نفسه تهم المستعمر.
ويعتقد عدد كبير من الكتاب مابعد الاستعماريين اليوم أنه لم يوجد أصلاً شعوب آكلة للحوم البشر، وإنما كانت هذه رغبة مكبوتة في المخيلة الأوربية باكتشاف الغريب والمتوحش في البلدان النائية. فكما بين إدوارد سعيد في كتابه الاستشراق، يتوجه المستشرق إلى الشرق أو البلاد المستعمرة راغباً في رؤية شيء معين، لايلبث أن يراه ماثلاً أمام عينيه. تبين آنيا لومبا في كتاب (الاستعمار ومابعد الاستعمار) أن فكرة أكل لحوم البشر تم تطبيقها مباشرة على الشعوب المستعمرة لتبرير الممارسات الاستعمارية الوحشية، إذ تستخدم هذه العادة (أي عادة أكل لحوم البشر) رمزاً للوحشـية المفترضة وعنف سكان البلاد المستعمرة. تقول لومبا:
استفسر البحارة البريطانيون بإفراط في جميع جزر بحر الجنوب التي زارها عن أكل السكان المحليين للحوم البشر لأن: أكل لحوم البشر هو ما رغب جمهور القراء البريطانيين سماعه، لقد كان هذا تعريفهم للمتوحش. وهكذا كان السؤال الذي طرحه كوك في جميع الأماكن التي زارها والذي لم يكن مفر منه حول أكل لحوم البشر وقد أقنعت الأجوبة في معظمها كوك بانتشاره الشائع.
كان السؤال الدائم عن أكلة لحوم البشر يؤرق الرحالة الغربي، حتى ظهرت له هذه العادة فعلاً. إما من خلال محاولة إخافة المستعمر، وذلك بادعاء أكل لحوم البشر، أو بادعاء الغرابة لشد انتباه ومال هذا الرجل الأبيض. وكان المستعمر حريصاً على إثبات هذه العادة التي تثبت أولا تفوقه الثقافي الإنساني، وثانياً إلى حاجة المستعمر الماسة للتحضر على يد الأوربي المتفوق. ولعل العديد من مقالات مجلات مثل (National Geographic) وبرامج اكتشاف القبائل البدائية في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية اليوم، ينبع من هذه الفكرة. بل يساورني الشك في العديد من الأبحاث السوسيولوجية والأنثروبولوجية اليوم التي تعتمد على العيش وسط قبيلة بدائية وتسجيل الغريب من طبائعهم. فالباحث هنا يسجل، أو يدعي تسجيل الغريب من الوقائع الغريبة التي تشير (بشكل مباشر أو غير مباشر) إلى تفوق الغرب الثقافي، وحاجة تلك الشعوب إلى التحضر. إذاً فما يؤكل، وكيف يؤكل، كلها مؤشرات ثقافية لها أبعادها، وخصوصاً إذا ارتبط ذلك بالتبادل الثقافي، سواء في شكل الاستعمار ومابعد الاستعمار، أو المثاقفة، أو الهجين.
العربي والدراسة الجادة لثقافة الطعام
هل قدم النقد العربي دراسات منهجية في بحث تصوير الطعام في الأدب العربي ودلالاته الرمزية والثقافية؟
يعد كتاب الطعام في الثقافة العربية (1994) لنينا جميل الكتاب الوحيد (على حد علمي) الذي تناول الطعام وانعكاسه في الثقافة العربية مستعرضاً في صفحاته المائتين طقوس الأكل والشرب، ومايرافقها من تقاليد ارتبطت في ذاكرة الشعوب العربية. وينقسم الكتاب لأربعة أبواب تناولت:
أطعمة العرب قبل الإسلام، أطعمة العرب بعد الإسلام، الطعام في الحياة الدينية، والطعام في الحياة الاجتماعية والثقافية. بيد أن الكتاب يظهر أنثروبولوجياً أكثر من كونه نقدياً. فلا يهتم الكتاب مثلاً بتصوير الطعام في الأدب العربي، ولا رمزية الطعام، أو فاعليته في الدلالة على المستوى الثقافي للشخصيات.
والحقيقة لم يصل لعلمي حتى الآن وجود كتاب عربي يبحث في الطعام على هذا النحو. أما في الإنجليزية فقد صدر عام 2000 عن مطبعة جامعة كولومبيا كتاب (وليمة إلهية: الطعام في الأدب العربي الكلاسيكي) لـ (Van Gelder) (استاذ الأدب العربي في جامعة أكسفورد). ويبين جيلدر في هذا الكتاب أن الأكل والتخاطب يتعلقان بيولوجيا بالفم، وهذا أول رابط بين الأدب والطعام من بين روابط عدة. وتبرز هذه الرابطة كثيرا في الثقافة العربية. ويستعرض جيلدر الشعر الجاهلي، وشعر صدر الإسلام، والأدب الشعبي مثل ألف ليلة وليلة، وغيرها ليصل إلى طريقة رسم الطعام في الأدب العربي القديم، وكيف يؤثر الطعام في تشكيل تلك النصوص الأدبية. ويربط جيلدر بين الطعام والثقافة العربية في مواضع مثل: الولائم كرمز لمبدأ الكرم الفاحش والمحافظة على المكانة الاجتماعية، والطعام والأدب الساخر. وهو كذلك يستعرض النظام الغذائي كمؤشر شعبي لتمييز مثلاُ الصوفية من البدو، والأمراء من الفلاحين، والمتزندقة، وغيرهم. وكذلك يستعرض دور الأطباق في تفسير الأحلام، ورمز النص كوليمة يدعى إليها.
إن كانت محاضرة اليوم تنادي بشيء فهو أهمية توجيه بعض الاهتمام بهذا الجانب المهمل من الأعمال الأدبية، قديمها وحديثها. وأحب أن استعرض فيما تبقى من الوقت مثالاً لمثل هذه الدراسات التي أنادي بها، وهي قراءة لموضوع الطعام في ثلاثية محفوظ، معتمداً على مقدمة صبري حافظ لترجمة الثلاثية, التي صدرت في كتاب واحد عام 2001، عن دار (Everyman) في الولايات المتحدة.
ففي الثلاثية تـبرز الثقافة المطبخية، وغيرها من الطقوس الاجتماعية، الحياة في بيت عائلة عبدالجواد. ففي الفجر، يبدأ اليوم بعجن العجين في غرفة الفرن في الدور الأرضي. ومع أن هذا العجن يتم زمنياً بعد أن تصلي الأم صلاة الفجر، إلا أن الترتيب السردي يعكس ذلك، جاعلاً العجن مؤشر بداية اليوم. وهذا التغيير يؤكده وصف العجن والخبز بتفاصيله، بينما يقتضب في وصف صلاة الأم، على شكل سرد مرويّ. وهذا الهدم السردي للنظام الزمني القائم هو مؤشر آخر على أهمية أمينة في البيت/الرواية. فتخصيص الأماكن في المنزل صمم بتسلسل هرمي. فالأب يقطن في أعلى دور، وتسكن الأم والأولاد في الدور الأوسط، وتسكن البنات في الدور الأرضي، بينما ينفى التنور في باحة المنزل. إلا أن الترتيب الزمني للسرد يجلب التنور للمقدمة، وهو مركز سلطة الأم ونشاطاتها المنزلية. وهذا القلب السردي للنظام الواقعي يهدم الواقع ويعيد موازنة الهرمية الاجتماعية التي تقلل من دور المرأة، وذلك بإعطائهن الصدارة السردية على عالم الرجال.
ويعطي الوصف المتأني للتنور، بنسائة النشيطات كمصدر حياة، وكثير من مباهجها اللذيذة، دوراً رئيسياً في تفصيل اليوم، وتحديد مناسبات مثل رمضان، والعيدين، وغيرها من المناسبات الاجتماعية. فلا عجب إذاً أن يكون المطبخ أيضاً مكان سيادة مطلقة لسلطة الأم، حيث تتصرف بالشؤون المنزلية لعائلتها. ويبرز المطبخ ليس فقط كساعة المنزل الداخلية، ومصدر تغذيته (حيث تجاور غرفة حفظ اللحوم، والمستودع)، بل أيضاً كساحة اختبار لنساء المنزل. وهو يضم وصفات خاصة لتسمين الطيور والحيوانات للاستهلاك المنزلي، وكذلك لتسمين البنات للخطاب. ويبرز دفئه وألفته للمقارنة ببقية أجزاء البيت.
وحين يحضّـر الإفطار، تأخذه الأم على صينية نحاسية لغرفة الطعام وتشرف على عملية التجهيز والأكل. ويستخدم محفوظ هنا مرة أخرى الطعام لإيصال العديد من الرسائل الهامة. فقد تم إفراد الإفطار لأنه الوجبة الوحيدة التي يجتمع عليها الأبناء مع أبيهم، وهذا أقرب شيء لجلسة عائلية. وتظهر الأطباق المقدمة خلفية العائلة الاجتماعية، بل وحتى هويتها القومية. فالبيض، والفول، والجبنة، والليمون المخلل، والبهارات، وأرغفة الخبز الساخن تضع العائلة في أعالي الطبقة المتوسطة، بينما يمثل حضور الفول رمزا قومياً مصرياً. أما أكل الوجبة على طاولة منخفضة الارتفاع تنتشر حولها مخدات صغيرة للجلوس عليها، فيدل مرة أخرى على عائلة صاعدة لأعالي الطبقة المتوسطة، وليس مثلاً على عائلة نازلة إليها من طبقة أعلى. فلو كانت الأخيرة لتمسكوا بمظاهر الطاولة والكراسي. أما التفاعل بين الأب والأولاد الثلاثة، أعضاء العائلة الوحيدين الذين يسمح لهم بالأكل معه، فإنه يبرز جوانب في شخصيته، وخلفيته الثقافية والتعليمية، وعلاقته بأولاده.
وبالرغم من أن الأم لايسمح لها بالأكل معهم، فإن وظيفتها لاتنتهي بإحضار صينية الإفطار. بل إنها تقف في الغرفة بجرة ماء استعداداً لتلبية أي طلب. فالأم الحاكمة بسلطة مطلقة في الدور الأرضي، تقبع في الدور الأوسط كائناً صامتاً مهمشاً. إلا أن وجودها الصامت أثناء مراسيم الإفطار هذه يمنحها تميزاً لايتوفر لغيرها من نساء العائلة. وبالرغم من تضور الأولاد الثلاثة جوعا، إلا أنهم يتحكمون في أنفسهم، منتظرين حتى يبدأ الأب بالأكل، ثم يبدأون تسلسلاً عمرياً، فيبدأ ياسين، ففهمي، ثم كمال. ويظهر هذا تصرفهم الرسمي في حضرة سلطة أبيهم، ودرجة التفاعل الهرمي داخل العائلة، والذي أكده الكاتب حين غير المنظور السردي، واصفاً الأحداث من وجهة نظر كمال، أصغر الأولاد. فهو اشدهم خوفاً من الأب، وأكثرهم حذراً وقلقاً أثناء الأكل، كما أنه يشعر بقلق لعدم قدرته على المنافسة على نصيبه من الطعام مع أخويه النشيطين، وخصوصاً حين يغادر الأب، وتتبعه الأم، مما يتسبب في انهيار نظام الأكل، محولاً الغرفة من مكان رسمي ذي سلطة هرمية، إلى أخرى ذات طبيعة بيتية، حيث يتصارع الإخوان على الطعام في منظر يختلف تماماً عن سابقه، حتى يحسمه كمال بالعطس عمداً على صحون الإفطار، فيمتنع الأخوان الكبيران عن الأكل تقززاً، ويفوز كمال بما تبقى من الإفطار. وهذا التغيير مؤشر آخر على الديناميكية (الحركية) الداخلية للعائلة.
تجهز مغادرة الأب المبكرة القارئ لخاتمة مشهد الطعام، فحين يذهب لغرفته، تتبعه الأم، بكوب يحتوي على ثلاث بيضات نيات مخفوقة بحليب وعسل. ويفتح السرد هنا على عالم مختلف من طبخات ومقويات؛ فبعضها يعد للأب لفتح شهيته، إو لإثارته، في حين تعمل بعض وصفات هذا المطبخ لتسمين البنات وتجميلهن. كما أنه يقدم للقارئ هدفين متعارضين للرجال والنساء في هذا المحيط. فبينما تبرع الأم في مهاراتها الغذائية في مجال المقويات، يقدم لنا الأب ، من خلال تسلسل أفكاره، براعته في الخمور والحشيش، فيبرز الطعام (الوسيلة/المتعة) كفارق بين الشخصيتين.
وهناك تباين هام آخر بين اجتماع العائلة الذي يشرف عليه الأب (الإفطار)، والآخر الذي تشرف عليه الأم (ساعة القهوة) قبيل المغرب. ففي الأخير يحل التواصل الديموقراطي الأمومي محل النظام الكبتي الأبوي. ففي حين يتم الإفطار في الدور الأعلى، وهو محصور على ذكور العائلة، تتم ساعة القهوة في الدور الأول، وهي مفتوحة للجميع، ماعدا الأب الذي يتوجه بعد إقفال المحل لسهراته المعتادة. وبالرغم من أنه ليس كل فرد في العائلة يسمح له بشرب القهوة، فالكل له دور في هذا الحدث الاجتماعي، الذي يقربهم من بعضهم، ويحقق حاجياتهم المختلفة. أما مشهد الافطار، بهرميته المطلقة، فيقدم من وجهة نظر أحادية. وحين يغير المؤلف منظور السرد، ليكون من خلال كمال، وذلك في الجزء الأخير من مشهد الإفطار، فإنه يريد أن يمثل على صرامة هذا النظام الأبوي. في حين يمثل مشهد ساعة القهوة تداخل الأصوات، وتعدد أبعاد السرد، ومنظوراته.
فالسياسات العائلية تظهر في الثلاثية من خلال الطقوس الاجتماعية للأكل وشرب القهوة، وكذلك في رمزية التوزيع المكاني لهذه الطقوس. فالإفطار في الدور العلوي، حيث سلطة الأب المطلقة. فالجميع يأتي لأرضه، ويتصرف بناء على قوانينه. ونستطيع قول مثل ذلك بشأن الدور الأرضي، مملكة الأم المطلقة، وكذلك الدور الأوسط حيث ساعة القهوة. ولكن بما أن الوقت والتغير هما الأبطال الحقيقيين للثلاثية، فإن التوزيع المكاني يتغير، وبتغيره تختلف أهمية الوجبات التي تتم فيه.
ففي قصر الشوق انتقلت ساعة القهوة من الدور الأوسط، للدور الأرضي، بعد موت فهمي، وبعد زواج البنتين، مما يبين كيف أن هذين الحدثين الهامين أثرا في عالم الأم، وقطعا مصدراً هاماً لسعادتها الاجتماعية. إلا أن الضربة القاضية لتناغم هذا البيت تأتي من المكان المقابل له في الجزء الثاني، وهو بيت آل شداد. فإن زخارف الحداثة في منزل عايدة هامة مثل أهمية اختلاف الأطعمة التي تجلبها في الرحلة للأهرام، حيث تدمج العلمانية والفرعونية . فالطعام هنا يظهر بوضوح الطبقة الاجتماعية، والخلفية الثقافية، بل وحتى التغيرات الزمنية في الأنماط السلوكية والذوق، وكل ذلك يبشر بالتغيير التصوري في حياة كمال.
أما في السكرية، فإن عودة ساعة القهوة للدور الأوسط استخدمت للدلالة على تغير هام في العلاقة. فإن تسلسل المصائب على أجمل البنتين (عائشة) يعطيها مجالاً للحرية اكتسبته من طريق الألم، مثل التدخين علناً، والمشاركة الكاملة في ساعة القهوة مع ذكور العائلة. فساعة القهوة الآن ترفع النساء من الدور الأرضي للأوسط، موجدة شبه تكافؤ بين جميع أفراد العائلة.
ويمكن ذلك تدهور صحة الأب، ونزوله من الدور العلوي للأوسط. فهو الآن يأكل عشاءه (والذي يتكون من زبادي وبرتقالة) في البيت، فلم يعد يستطيع الانغماس في ملذات المأكل والمشرب التي طالما استمتع بها في سهراته. وعندما يشتد ضعفه، ينزل إلى الدور الأرضي، وينتهي به الحال في سريره، معتمداً على زوجته، وبهذا يكتمل هبوطه الرمزي. أما أمينة فإنها تبقى في غرفتها في الدور الأوسط إلى النهاية. ولاحقاً يمثل غياب ساعة القهوة مؤشراً هاماً في العائلة/الرواية، تماماً كما كان وجودها.
أختم بضرورة توجه النقد العربي للدراسة التحليلية للطعام وصوره في الأدب العربي سواءً نثراً أم شعراً. فالطعام مؤشر ثقافي مهم لمدلولات رئيسية مثل: الزمان، المكان، الطبقة، المكانة الاجتماعية، القومية، العرق، الدين، الجنس، الشخصية، والذوق العام، وكل هذه الأشياء هي في قلب كل عمل نقدي، يروم سبر أغوار العمل الأدبي، وكشف دلالاته الثقافية والاجتماعية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق