السبت، 19 يناير 2013

الطعام والشراب في التراث العربي للدكتورة سهام الدبابي الميساوي

حضارة الشعوب لا تقاس بالكتب والإكتشافات ، بل إن المأكل والمشرب والملبس ونمط البناء والفنون ، هي شكل من أشكال التعبير عن الحضارة الإنسانية ، فما من نمط مميز محدد واحد جامع لأي من حضارات الشعوب المختلفة ، فلكل حضارة رئيسية أشكالها ونمطها المختلف بشكل أو بآخر ، كذلك فإن لكل حضارة فرعية أخرى داخل نفس الحضارة الرئيسية ، فأنماط الطعام والمشرب والملبس ، أو الفنون في اليمن ليست نفسها في السعودية أو العراق أو الشام أو مصر ، أو المغرب العربي ، لكنها رغم إختلافها تلتقي في أصولها وأسسها ، وربما أن العامل البيئي الجغرافي هو الأصل في غالبية الإختلافات وإنعكاساتها ،نتيجة الإختلاف الطبيعي في أنماط الحياة اليومية المعيشية للمجتمعات المختلفة .



والإنسان جدلية يبن اللذة والحاجة ، فإذا أشبع حاجته حضرت لذته ، وبين الحاجة واللذة فترة إشباع لا بد منها .الحاجة تجعل الإنسان مشدوداً من رمقه ، لا غنى عنها ، والإنسان في تناسله حاجة ، وفي نومه حاجة ، وفي أكله وشربه حاجة ، ولكن الحاجة إلى الأكل والشرب جعلت الإنسان يتفنن في أساليب الطبخ ، ويرتقي بحاجته إلى اللذة ، وصنف في ذلك وأحدث الطقوس ، وقدم القربان ، وإحتفل بالأعياد والمناسبات وأولع بذلك .والعرب كانت تتأدم بأصناف من الأكل إرتكزت أساساً على عنصر التمر واللبن ، كمادة رئيسية وأساسية على موائدها . فتفننت فيه حتى عرف العرب بأنهم أمة تامرة ولابنة ، فصنعوا من التمر واللبن أصنافاً وألواناً من الطعام ، إختلفت حسب أصناف وأنواع التمر واللبن.

وفي هذا المجال خصصت الدكتورة سهام الدبابي الميساوي ، أستاذة اللغة والآداب العربية ،كتاباً مهماً يتضمن أطروحة دكتوراه دولة في اللغة والآداب والحضارة العربية بإشراف الأستاذ عبد المجيد الشرفي بعنوان ( كتاب الطعام والشراب في التراث العربي ) تبحث فيه الأنساق اليومية والظواهر الطقسية والإحتفالية في الثقافة العربية والإسلامية في نصوص من التراث العربي المهم ، وقد بدأت دراستها منذ الشجرة المحظورة ، شجرة الهبوط ، حين سمح الله لآدم وزوجته في الجنة بالأكل الرغد ونهاهما عن شجرة ، وأعطت الدكتورة سهام تأثير تلك الشجرة -التي إختلف المفسرون على نوعها ، في المتخيل الإسلامي بين الغذاء المحدد لهوية الإنسان ، يأكل ما يصنع ويصنع ما يعرف ، والثمرة التي ولدت الوعي بالأنا ، وإكتشاف الجسد وحاجاته .وقد قسمت الدكتور سهام الميساوي دراستها إلى أبواب تتفرع منها فصول ، تبحث في الحلال والحرام في الخبائث والطيبات .النيء والمطبوخ في الطبيعة والثقافة .النافع والضار في الصحة والمرض .اليومي والإحتفالي في الإلف واللعب.

التمور والألبان

« فمن اللبن تصنع العرب الأقط والزبد والسمن ، فيخلط السمن مع الزيت ، أو التمر والأقط ، أو الدقيق ، أو الجراد ، أو اللبن الحليب ، ويصنع من الزبد واللبن الدليك ، ومن الرطب والزبد اللوقة ، ومن الأقط الحيس والبكيلة والربيكة ، ولشدة ما ألفت العرب اللبن والسمن ، فأصبح هذان الغذاءان رمزاً على البداوة والعروبة ».

هذا وللتمر إحتفاء شديد لدى العرب وكانت تأكله «بسراً ورطباً وتمراً وقسباً ، وهي كثيرة في بلادها خاصة في اليمامة ويثرب وهجر وخيبر ، وهي أنواع يستطاب منها الصفري والبرني والتعضوض والبردي والجدامية ، والنرسيانية ، والصيحاني ، وقد جاء في التراث الإسلامي تفضيل العجوة على سائر التمور ، والعجوة تعتبر أم التمر بالحجاز ، وهي تضرب إلى السواد».

ومازالت سنة أكل التمر لدى العرب في رمضان متواصلة إقتداء بعادات العرب في الحجاز .فالصائم لا بد أن يفطر على التمر ، رغم توفر ألوان أخرى ألذ وأشهى ، لكن يبقى التمر كالتعويذة يبدأ بها وإليها المنتهى .تصبيرة في إفتتاحية الأكل وتحلية في خاتمته .

٭ اللحم والدقيق

وتطرقت الكاتبة إلى اللحم والدقيق ، « قد جاء في التراث العربي أن العرب قوم لاحمون شاحمون ، يأكلون لحوم الصيد من أرنب ، وحمار وحش ، وظبي ، ونعام ، وطير ، ويقرمون إلى لحوم الإبل والغنم والماعز ، ويحبون شحومها ، ولكنهم لا يفضلون على لحوم الإبل لحماً ، فهي حيوانهم الذي يعتمدون عليه في معاشهم ، خاصة أهل الوبر منها ».

وللعرب طرق في طبخ اللحم ما زلنا نتبع أكثرها إلى اليوم « فاللحم يكون قديراً يطبخ في الماء والملح ، وقد يتولبون ماء القدر ، ومع علمنا بإنتاج اليمن للتوابل ، وبوجود الأفاوية في أسواق مكة ، ويجلب بعضها من الهند .وقد تضيف العرب إلى اللحم القدير الحمص والقرع أو الدباء .ويطبخ أهل اليمن اللحم بالخل ، ويبقى الطعام في القدر شهراً أو شهرين جامداً لا يفسد ، وإذا أسخن ، تظهر فيه رائحة يومه .وتكون قدور العرب من معدن أو فخار أو حجارة منحوتة .وقد يقلى اللحم وتستعمل المقلاة لذلك .وغالباً ما يشوى ».

« وتحب العرب الجنيد …وهي كلمة تدل على الشواء عموماً ، أم على طريقته ، أم على درجة إنضاج اللحم ، فقد جاء أن الجنيد هو الذي يقطر ماؤه وقد شوي .وهو الشواء الذي لم يبلغ في نضجه ».

وأطيب اللحم عند العرب العوذ ، ولعل طيبه ناتج عن المتعة التي تحصل لأكله ، يشد القطعة بين يديه ، يلامسها ، فينظر غليها ويدبر كيف يأكلها ، فينهش اللحم ، ينتزعه بالثنايا ، ويخلل ما على العظم ، فيتمخمخه ، ويمتص ما فيه ، ويمضغه إذا كان هشاشاً ، ويحقق حيوانيته نهشاً ومضغاً ومصاً.

« تأكل العرب اللحم طرياً ومجففاً ، تشرحه قطعاً طوالاً فيكون قديداً ، وعراضاً فيكون صفيفاً ، وتقطعه صغاراً فيكون متمماً ، وتغلي اللحم بالملح إغلاءه قبل تجففه فيكون وشيقاً ، وتقدم سناب البعير شطانب ، وتجفف الكرش فتملؤها لحماً وشحماً مقددين مطبوخين ، وتصب عليهم الودك حتى يجمد ، وتحفظها في حوالق تخزنها ».

و تظهر الكاتبة في بحثها تفضيل العرب للحم السمين تماماً كما ما زالوا اليوم ، لكن يشمل ذلك التفضيل جميع أنواع اللحوم فتقول :

«لا تميل العرب إلى اللحم الغثيث ( الهزيل ) كما لا تحب المرأة الهزيلة، ولا الرجل الغث ، وتستطيب العرب الآلية والشحم فتأتدم بالشحم (ما أذيب من الآلية ) وتفضل اللحم السمين تجتمله ، كما تستديف الشحم ، وتستلذ المرقة المتحيرة ، والمدومة والدوامة».

« يستلذ العربي كل سمين ، الناقة التي روعها الكلا، والمرأة الروعاء التي يرويها الطعام ويروعها بالسمن ، والتامر الذي فيه إهالة وجميل ، مثل جميل الكبش السمين ، يوحل فيه الضارس ويغيب ، فالسمن والشحم والزبد أغذية دسمة تسوغ في الحلق تلسب لسباً وتمطخ مطخاً ، وتلمص لمصاً ، فتمص الأصابع عند أكلها وتلحس ، ويبقى لعوقها في اللسان كأنه يتتبع بقية من الطعام بن السنان ، كما ترمز هذه الأغذية إلى الوفرة والثروة والطاقة الحيوية ، وهي أطعمة ثمينة في ثقافة يكون فيها الحيوان قطب الوجود».

٭ الكمأة والجراد والهبيد والضباب

وخصصت الباحثة فصلاً عن الكمأة ( الترفاس ) التي تعتبر من أقدم ما أكله الإنسان ، يستطيبها العرب كما يستطيبها الرومان والمصريون القدامى .تمل العرب الكمأة ثم تقشرها وتأكلها بالملح وقد تشرب اللبن عليها .ولعل البعض كان يجففها ويطبخها ويخبزها .

كذلك الجراد الذي يقبل عليه العرب وتعودت القبائل صيده .ولئن كان الجراد قوة مهددة هالكة لا تدع شيئاً في الأرض إلا حسته ، فإن الناس لا ينتفعون به إلا أن يصيب غيثاً لأنه عنذئذ يسمن .لذلك أطلقت العرب على العام الخصيب المشهور بالكلا والكمأة والجراد : عام الماء .

أما الضباب وهو دويبة صغيرة برية فهي تكثر في بادية العرب وتتخذ مساكنها في الأرض الصلبة وتقتات من الشجر الشائك والذباب والفاكهة والهوام والحشرات ، وتصبر على الجوع والماء ، وتبيض من العشرين إلى الستين بيضة فما فوق ،ويسهل صيد الضباب إذا ألف العربي إحتراشها .

٭ العصائد والأحساء والهرائس والأخباز

«تصنع العرب من الدقيق العصائد والهرائس والأخباز… ويأكل الحبوب والباز الحضر الذين يعيشون في الأراضي الخصيبة ، ويعتمدون الزراعة مثل عرب اليمن واليمامة وسكان يثرب وخبير والطائف وواحات شمال الجزيرة العربية من بادية الشام ، كما تقبل على الخبز والدقيق القبائل التي تمتهن التجارة تشتؤيها من داخل الجزيرة ، وتستوردهما من خارجها».

«تصنع العرب من الدقيق العصيدة … والعصيدة دقيق يلت بسمن ويطبخ في ماء القدر على أن ينضب ، فيكون في هذه الحال المسواط خشبة يحرك بها الدقيق في القدر تحريكاً ، حتى ينقلب ما في القدر ولا يبقى شيء منه إلا إنقلب عندما ينضب الماء».

«ويتخذ من الدقيق الحسو، ومنه ما يكون رقيقاً كالرغيفة ، ومنه ما يكون خاثراً بين الحسو العصيدة ، ومن الأحساء ما يكون من ماء ، ومنها من لبن كالفجينة والحريرة ، ومن الحنطة تصنع الجشيشة ، وتخلط البسيسة ، ويكون السويق طعاماً يلت ويبس بالماء أو الأدم وشراباً ، ويمكن أن يسف سفاً ، وقد يكون منقوداً ، وهو طعام المسافر ، وطعام العجلان ، وغذاء المبكر ، ومن الدقيق والعسل والسمن يكون الخبيص».

« وقد كانت الخزيرة والنفيتة والحريقة من الأطعمة التي يتوسع بها صاحب العيال لعياله إذا غلبه الدهر ، وغلا السعر ، وعجف المال ، وقد عيرت قريش بأكل السخينة ، وجاء أنها تقتصر عليها عند غلاء الأسعار حتى صار هذا اللفظ لقباً لها ، وورد أنه كانت تكثر من أكل السخينة ، فعيرت بها ، حتى سميت قريش سخينة ».

إن الثقافات قد تحتفظ بأغذية المجاعة في أساطيرها وطقوسها إذا كانت المجاعة حدثاً تاريخياً مأسوياً ، أو حالة مرتبطة بمعجزة غيرت حياة أمة من الأمم …وليست أطعمة المواسم والأعياد وحدها محددة لهوية آكليها ، بل يعبر الطعام اليومي الذي تكثر منه المجموعات عن الإنتماء إلى عصبية أو جهة أو فئة ، أو ثقافة ، وعن هوية المجموعات ، إن السخينة رديئة على لسان المعير الذي لم يقصد من خلال الوحدة الغذائية رداءة الطعام بقدر ما قصد صاحبه ، وعندما تهجى عصبية من العصبيات في عنصر من العناصر المكونة لهويتها ، غذاء كان أو لباساً أو سكناً أو غير ذلك من الوحدات اليومية ، فإن التشبث بتلك الوحدة يكون تشبثاً رمزياً بهويتها وإختلافها .

« وتختلف أخبار العرب عن أخبار العبرانيين ، وسكان بلاد الرافدين ، ومصر القديمة ، وبلاد الشام ، خاصة تلك التي تطبخ في التنور والملة ، والفطير يميز المجتمعات الرعوية ، فقد إستجاب طبخه لنمط عيش الرحل الذين لا ينتظرون العجين يختمر حتى يطبخ .والعرب كغيرهم من سكان الشرق الأدنى القديم وحوض البحر البيض المتوسط ، يأكلون الأخباز طرية ويابسة وأديمة وقفارا ….فيتعدد الخبز ويتنوع تعدد الأدم ، ويبل الخبز بالماء فيؤكل مبروداً ، تقبل عليه النسوة ليسمن …ويميل العرب إلى الخبز أديم شحم وألية ، كما يحبون دلكه بالسمن ، فأشهى ما يكون الخبز أبيض من البر الأسمر ملبقاً بالسمن ، ورغيفاً أديم شاة مشوية .وصلاء وكركر وسنام وصناب ، وأطيب ما يكون ثريداً ».

٭ الثريد

« إعتبر الثريد طعام العرب وسيد الأطعمة ، والثريد من الثرد وهو الهشم والفت والكسر ، ومنه قيل لما يهشم ويبل بالمرق وغيره ثريداً ، وإذا كانت كلمة « المرق » تفيد الشيء الذي يمرق من اللحم ، فإن « غيره» تحيل على شيء آخر يثرد به الخبز ، فكلما كانت العرب تصنع الثريد من اللحم وعراقه والقديد ، كانت تعالجه بالزيت والسمن وتتخذه من التمر ، ولعلها تثرد الخبز بالزيت زمن الشدة».

وتقدم الكاتبة معلومات عن أنواع متعددة من الثريد عند العرب ، منها الزريقاء ، وثريد التمر ، وثريد الرغيف والماء ، وحسب المعاجم غالباً ما يكون الثريد من لحم ، وقد أرخت كتب السيرة والمغازي للحياة اليومية بمكة ، وإشتركت في وصف طعام سادة قريش وأشرافها الذين كانوا يذبحون الجذور ، ويثردون بمرقها الخبز طعاماً في مواسمهم ولأضيافهم ، كما وصفت هذه المصادر ما كان يقدم للنبي وما كان يفضل من المآكل ، وكان الثريد باللحم أكثر ما يهدى إليه ، وأحسن ما يستطيب ، فغدا الثريد الحجازي ثريد السادة والأشراف .وأضحى اللحم رمز الثريد يطلق عليه مجازاً حتى إن غاب اللحم من القدر ، وجعل فيها عراقة أو القديد أو الشحم ، أو أغلي فيه الزيت أو اللبن أو الزبد أو السمن ليثرد به الخبز ، لايكون ذلك طعاماً آخر غير الثريد .

« ويعتبر ثرد الخبز وبله من النماذج الشرقية والمتوسطية القديمة ، فقد كان العبرانيون يبلون الأخباز بماء القدر ، أو يجعلونها قديرة ، وكان الأغريق يثردونها وينقعوها في الخمر ، والبيزنطيون يجعلونها في المرق .وسكان بلاد الرافدين يصبون عليها الماء والخل والملح والزيت .فالثريد العربي أصل من أصول الطبخ القديم ، يذكر في مكوناته بالأحساء والعصائد والهرايس ، وفي هيئته بالعصيدة الأولية المغذية المخصبة ، التي تفرع منها الخبز يبله ماء القدر ، فيغيبه ، ويرجعه رمزياً على الأصل ، فيكون صنع الثريد في مرحلته الأخيرة محاكاة لحركة أولية ظهرت معها الثقافة ، في حين يعبر طبخ الخبز قبل أن يثرد عن أوج تطورها».

وقد إقترن الثريد في الثقافة الإسلامية بهاشم ، فقيل أنه أول من ثرد الثريد ، وتجمع المصادر أنه أتى بالدقيق والكعك من الشام ، ولئن بدت رحلة هاشم إلى الشام حدثاً تاريخياً ، فهي لا تخلو من أبعاد رمزية ، فرواية هشم الخبر تشير على رحلة سكان أرض لا زرع فيها أضناهم القحط فطلبوا شيئاً آخر غير ما تجود به إبلهم ، ورغبوا في تحقيق حلم إبراهيم القادم من الشام ، يدعو إبنه إلى تغيير عتبة بيته عساه ينعم بالحب والولد ، قصد هاشم الشام حتى يأتي بالغرائر المملوءة خبزاً ودقيقاً ، فيحقق أول خصب أهل مكة ، فالخبز هو رمز لنشاط الإنسان وفعله في الطبيعة ، وسيطرته عليها تثرده قريش ، فتخرج العرب من البداوة إلى التحضر والتمدن ، وتؤسس لثقافة جديدة ، يكون الفضل كل الفضل فيها للأب ( إبراهيم /قصي /هاشم ) الذي جاء محمد من صلبه .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق