حضارة الشعوب لا تقاس بالكتب والإكتشافات ، بل
إن المأكل والمشرب والملبس ونمط البناء والفنون ، هي شكل من أشكال التعبير عن
الحضارة الإنسانية ، فما من نمط مميز محدد واحد جامع لأي من حضارات الشعوب المختلفة ، فلكل حضارة رئيسية
أشكالها ونمطها المختلف بشكل أو بآخر ، كذلك فإن لكل حضارة فرعية أخرى داخل نفس
الحضارة الرئيسية ، فأنماط الطعام والمشرب والملبس ، أو الفنون في اليمن ليست نفسها
في السعودية أو العراق أو الشام أو مصر ، أو المغرب العربي ، لكنها رغم إختلافها
تلتقي في أصولها وأسسها ، وربما أن العامل البيئي الجغرافي هو الأصل في غالبية
الإختلافات وإنعكاساتها ،نتيجة الإختلاف الطبيعي في أنماط الحياة اليومية المعيشية
للمجتمعات المختلفة .
والإنسان جدلية يبن اللذة والحاجة ،
فإذا أشبع حاجته حضرت لذته ، وبين الحاجة واللذة فترة إشباع لا بد منها .الحاجة
تجعل الإنسان مشدوداً من رمقه ، لا غنى عنها ، والإنسان في تناسله حاجة ، وفي نومه
حاجة ، وفي أكله وشربه حاجة ، ولكن الحاجة إلى الأكل والشرب جعلت الإنسان يتفنن في
أساليب الطبخ ، ويرتقي بحاجته إلى اللذة ، وصنف في ذلك وأحدث الطقوس ، وقدم القربان
، وإحتفل بالأعياد والمناسبات وأولع بذلك .والعرب كانت تتأدم بأصناف من الأكل
إرتكزت أساساً على عنصر التمر واللبن ، كمادة رئيسية وأساسية على موائدها . فتفننت
فيه حتى عرف العرب بأنهم أمة تامرة ولابنة ، فصنعوا من التمر واللبن أصنافاً
وألواناً من الطعام ، إختلفت حسب أصناف وأنواع التمر واللبن.
وفي هذا المجال خصصت الدكتورة سهام
الدبابي الميساوي ، أستاذة اللغة والآداب العربية ،كتاباً مهماً يتضمن أطروحة
دكتوراه دولة في اللغة والآداب والحضارة العربية بإشراف الأستاذ عبد المجيد الشرفي
بعنوان ( كتاب الطعام والشراب في التراث العربي ) تبحث فيه الأنساق اليومية
والظواهر الطقسية والإحتفالية في الثقافة العربية والإسلامية في نصوص من التراث
العربي المهم ، وقد بدأت دراستها منذ الشجرة المحظورة ، شجرة الهبوط ، حين سمح الله
لآدم وزوجته في الجنة بالأكل الرغد ونهاهما عن شجرة ، وأعطت الدكتورة سهام تأثير
تلك الشجرة -التي إختلف المفسرون على نوعها ، في المتخيل الإسلامي بين الغذاء
المحدد لهوية الإنسان ، يأكل ما يصنع ويصنع ما يعرف ، والثمرة التي ولدت الوعي
بالأنا ، وإكتشاف الجسد وحاجاته .وقد قسمت الدكتور سهام الميساوي دراستها إلى أبواب
تتفرع منها فصول ، تبحث في الحلال والحرام في الخبائث والطيبات .النيء والمطبوخ في
الطبيعة والثقافة .النافع والضار في الصحة والمرض .اليومي والإحتفالي في الإلف
واللعب.
التمور والألبان
« فمن اللبن تصنع العرب الأقط
والزبد والسمن ، فيخلط السمن مع الزيت ، أو التمر والأقط ، أو الدقيق ، أو الجراد ،
أو اللبن الحليب ، ويصنع من الزبد واللبن الدليك ، ومن الرطب والزبد اللوقة ، ومن
الأقط الحيس والبكيلة والربيكة ، ولشدة ما ألفت العرب اللبن والسمن ، فأصبح هذان
الغذاءان رمزاً على البداوة والعروبة ».
هذا وللتمر إحتفاء شديد لدى العرب
وكانت تأكله «بسراً ورطباً وتمراً وقسباً ، وهي كثيرة في بلادها خاصة في اليمامة
ويثرب وهجر وخيبر ، وهي أنواع يستطاب منها الصفري والبرني والتعضوض والبردي
والجدامية ، والنرسيانية ، والصيحاني ، وقد جاء في التراث الإسلامي تفضيل العجوة
على سائر التمور ، والعجوة تعتبر أم التمر بالحجاز ، وهي تضرب إلى السواد».
ومازالت سنة أكل التمر لدى العرب في
رمضان متواصلة إقتداء بعادات العرب في الحجاز .فالصائم لا بد أن يفطر على التمر ،
رغم توفر ألوان أخرى ألذ وأشهى ، لكن يبقى التمر كالتعويذة يبدأ بها وإليها المنتهى
.تصبيرة في إفتتاحية الأكل وتحلية في خاتمته .
٭ اللحم والدقيق
وتطرقت الكاتبة إلى اللحم والدقيق ،
« قد جاء في التراث العربي أن العرب قوم لاحمون شاحمون ، يأكلون لحوم الصيد من أرنب
، وحمار وحش ، وظبي ، ونعام ، وطير ، ويقرمون إلى لحوم الإبل والغنم والماعز ،
ويحبون شحومها ، ولكنهم لا يفضلون على لحوم الإبل لحماً ، فهي حيوانهم الذي يعتمدون
عليه في معاشهم ، خاصة أهل الوبر منها ».
وللعرب طرق في طبخ اللحم ما زلنا
نتبع أكثرها إلى اليوم « فاللحم يكون قديراً يطبخ في الماء والملح ، وقد يتولبون
ماء القدر ، ومع علمنا بإنتاج اليمن للتوابل ، وبوجود الأفاوية في أسواق مكة ،
ويجلب بعضها من الهند .وقد تضيف العرب إلى اللحم القدير الحمص والقرع أو الدباء
.ويطبخ أهل اليمن اللحم بالخل ، ويبقى الطعام في القدر شهراً أو شهرين جامداً لا
يفسد ، وإذا أسخن ، تظهر فيه رائحة يومه .وتكون قدور العرب من معدن أو فخار أو
حجارة منحوتة .وقد يقلى اللحم وتستعمل المقلاة لذلك .وغالباً ما يشوى ».
« وتحب العرب الجنيد …وهي كلمة تدل
على الشواء عموماً ، أم على طريقته ، أم على درجة إنضاج اللحم ، فقد جاء أن الجنيد
هو الذي يقطر ماؤه وقد شوي .وهو الشواء الذي لم يبلغ في نضجه ».
وأطيب اللحم عند العرب العوذ ، ولعل
طيبه ناتج عن المتعة التي تحصل لأكله ، يشد القطعة بين يديه ، يلامسها ، فينظر
غليها ويدبر كيف يأكلها ، فينهش اللحم ، ينتزعه بالثنايا ، ويخلل ما على العظم ،
فيتمخمخه ، ويمتص ما فيه ، ويمضغه إذا كان هشاشاً ، ويحقق حيوانيته نهشاً ومضغاً
ومصاً.
« تأكل العرب اللحم طرياً ومجففاً ،
تشرحه قطعاً طوالاً فيكون قديداً ، وعراضاً فيكون صفيفاً ، وتقطعه صغاراً فيكون
متمماً ، وتغلي اللحم بالملح إغلاءه قبل تجففه فيكون وشيقاً ، وتقدم سناب البعير
شطانب ، وتجفف الكرش فتملؤها لحماً وشحماً مقددين مطبوخين ، وتصب عليهم الودك حتى
يجمد ، وتحفظها في حوالق تخزنها ».
و تظهر الكاتبة في بحثها تفضيل
العرب للحم السمين تماماً كما ما زالوا اليوم ، لكن يشمل ذلك التفضيل جميع أنواع
اللحوم فتقول :
«لا تميل العرب إلى اللحم الغثيث (
الهزيل ) كما لا تحب المرأة الهزيلة، ولا الرجل الغث ، وتستطيب العرب الآلية والشحم
فتأتدم بالشحم (ما أذيب من الآلية ) وتفضل اللحم السمين تجتمله ، كما تستديف الشحم
، وتستلذ المرقة المتحيرة ، والمدومة والدوامة».
« يستلذ العربي كل سمين ، الناقة
التي روعها الكلا، والمرأة الروعاء التي يرويها الطعام ويروعها بالسمن ، والتامر
الذي فيه إهالة وجميل ، مثل جميل الكبش السمين ، يوحل فيه الضارس ويغيب ، فالسمن
والشحم والزبد أغذية دسمة تسوغ في الحلق تلسب لسباً وتمطخ مطخاً ، وتلمص لمصاً ،
فتمص الأصابع عند أكلها وتلحس ، ويبقى لعوقها في اللسان كأنه يتتبع بقية من الطعام
بن السنان ، كما ترمز هذه الأغذية إلى الوفرة والثروة والطاقة الحيوية ، وهي أطعمة
ثمينة في ثقافة يكون فيها الحيوان قطب الوجود».
٭ الكمأة والجراد والهبيد والضباب
وخصصت الباحثة فصلاً عن الكمأة (
الترفاس ) التي تعتبر من أقدم ما أكله الإنسان ، يستطيبها العرب كما يستطيبها
الرومان والمصريون القدامى .تمل العرب الكمأة ثم تقشرها وتأكلها بالملح وقد تشرب
اللبن عليها .ولعل البعض كان يجففها ويطبخها ويخبزها .
كذلك الجراد الذي يقبل عليه العرب
وتعودت القبائل صيده .ولئن كان الجراد قوة مهددة هالكة لا تدع شيئاً في الأرض إلا
حسته ، فإن الناس لا ينتفعون به إلا أن يصيب غيثاً لأنه عنذئذ يسمن .لذلك أطلقت
العرب على العام الخصيب المشهور بالكلا والكمأة والجراد : عام الماء .
أما الضباب وهو دويبة صغيرة برية
فهي تكثر في بادية العرب وتتخذ مساكنها في الأرض الصلبة وتقتات من الشجر الشائك
والذباب والفاكهة والهوام والحشرات ، وتصبر على الجوع والماء ، وتبيض من العشرين
إلى الستين بيضة فما فوق ،ويسهل صيد الضباب إذا ألف العربي إحتراشها .
٭ العصائد والأحساء والهرائس
والأخباز
«تصنع العرب من الدقيق العصائد
والهرائس والأخباز… ويأكل الحبوب والباز الحضر الذين يعيشون في الأراضي الخصيبة ،
ويعتمدون الزراعة مثل عرب اليمن واليمامة وسكان يثرب وخبير والطائف وواحات شمال
الجزيرة العربية من بادية الشام ، كما تقبل على الخبز والدقيق القبائل التي تمتهن
التجارة تشتؤيها من داخل الجزيرة ، وتستوردهما من خارجها».
«تصنع العرب من الدقيق العصيدة …
والعصيدة دقيق يلت بسمن ويطبخ في ماء القدر على أن ينضب ، فيكون في هذه الحال
المسواط خشبة يحرك بها الدقيق في القدر تحريكاً ، حتى ينقلب ما في القدر ولا يبقى
شيء منه إلا إنقلب عندما ينضب الماء».
«ويتخذ من الدقيق الحسو، ومنه ما
يكون رقيقاً كالرغيفة ، ومنه ما يكون خاثراً بين الحسو العصيدة ، ومن الأحساء ما
يكون من ماء ، ومنها من لبن كالفجينة والحريرة ، ومن الحنطة تصنع الجشيشة ، وتخلط
البسيسة ، ويكون السويق طعاماً يلت ويبس بالماء أو الأدم وشراباً ، ويمكن أن يسف
سفاً ، وقد يكون منقوداً ، وهو طعام المسافر ، وطعام العجلان ، وغذاء المبكر ، ومن
الدقيق والعسل والسمن يكون الخبيص».
« وقد كانت الخزيرة والنفيتة
والحريقة من الأطعمة التي يتوسع بها صاحب العيال لعياله إذا غلبه الدهر ، وغلا
السعر ، وعجف المال ، وقد عيرت قريش بأكل السخينة ، وجاء أنها تقتصر عليها عند غلاء
الأسعار حتى صار هذا اللفظ لقباً لها ، وورد أنه كانت تكثر من أكل السخينة ، فعيرت
بها ، حتى سميت قريش سخينة ».
إن الثقافات قد تحتفظ بأغذية
المجاعة في أساطيرها وطقوسها إذا كانت المجاعة حدثاً تاريخياً مأسوياً ، أو حالة
مرتبطة بمعجزة غيرت حياة أمة من الأمم …وليست أطعمة المواسم والأعياد وحدها محددة
لهوية آكليها ، بل يعبر الطعام اليومي الذي تكثر منه المجموعات عن الإنتماء إلى
عصبية أو جهة أو فئة ، أو ثقافة ، وعن هوية المجموعات ، إن السخينة رديئة على لسان
المعير الذي لم يقصد من خلال الوحدة الغذائية رداءة الطعام بقدر ما قصد صاحبه ،
وعندما تهجى عصبية من العصبيات في عنصر من العناصر المكونة لهويتها ، غذاء كان أو
لباساً أو سكناً أو غير ذلك من الوحدات اليومية ، فإن التشبث بتلك الوحدة يكون
تشبثاً رمزياً بهويتها وإختلافها .
« وتختلف أخبار العرب عن أخبار
العبرانيين ، وسكان بلاد الرافدين ، ومصر القديمة ، وبلاد الشام ، خاصة تلك التي
تطبخ في التنور والملة ، والفطير يميز المجتمعات الرعوية ، فقد إستجاب طبخه لنمط
عيش الرحل الذين لا ينتظرون العجين يختمر حتى يطبخ .والعرب كغيرهم من سكان الشرق
الأدنى القديم وحوض البحر البيض المتوسط ، يأكلون الأخباز طرية ويابسة وأديمة
وقفارا ….فيتعدد الخبز ويتنوع تعدد الأدم ، ويبل الخبز بالماء فيؤكل مبروداً ، تقبل
عليه النسوة ليسمن …ويميل العرب إلى الخبز أديم شحم وألية ، كما يحبون دلكه بالسمن
، فأشهى ما يكون الخبز أبيض من البر الأسمر ملبقاً بالسمن ، ورغيفاً أديم شاة مشوية
.وصلاء وكركر وسنام وصناب ، وأطيب ما يكون ثريداً ».
٭ الثريد
« إعتبر الثريد طعام العرب وسيد
الأطعمة ، والثريد من الثرد وهو الهشم والفت والكسر ، ومنه قيل لما يهشم ويبل
بالمرق وغيره ثريداً ، وإذا كانت كلمة « المرق » تفيد الشيء الذي يمرق من اللحم ،
فإن « غيره» تحيل على شيء آخر يثرد به الخبز ، فكلما كانت العرب تصنع الثريد من
اللحم وعراقه والقديد ، كانت تعالجه بالزيت والسمن وتتخذه من التمر ، ولعلها تثرد
الخبز بالزيت زمن الشدة».
وتقدم الكاتبة معلومات عن أنواع
متعددة من الثريد عند العرب ، منها الزريقاء ، وثريد التمر ، وثريد الرغيف والماء ،
وحسب المعاجم غالباً ما يكون الثريد من لحم ، وقد أرخت كتب السيرة والمغازي للحياة
اليومية بمكة ، وإشتركت في وصف طعام سادة قريش وأشرافها الذين كانوا يذبحون الجذور
، ويثردون بمرقها الخبز طعاماً في مواسمهم ولأضيافهم ، كما وصفت هذه المصادر ما كان
يقدم للنبي وما كان يفضل من المآكل ، وكان الثريد باللحم أكثر ما يهدى إليه ، وأحسن
ما يستطيب ، فغدا الثريد الحجازي ثريد السادة والأشراف .وأضحى اللحم رمز الثريد
يطلق عليه مجازاً حتى إن غاب اللحم من القدر ، وجعل فيها عراقة أو القديد أو الشحم
، أو أغلي فيه الزيت أو اللبن أو الزبد أو السمن ليثرد به الخبز ، لايكون ذلك
طعاماً آخر غير الثريد .
« ويعتبر ثرد الخبز وبله من النماذج
الشرقية والمتوسطية القديمة ، فقد كان العبرانيون يبلون الأخباز بماء القدر ، أو
يجعلونها قديرة ، وكان الأغريق يثردونها وينقعوها في الخمر ، والبيزنطيون يجعلونها
في المرق .وسكان بلاد الرافدين يصبون عليها الماء والخل والملح والزيت .فالثريد
العربي أصل من أصول الطبخ القديم ، يذكر في مكوناته بالأحساء والعصائد والهرايس ،
وفي هيئته بالعصيدة الأولية المغذية المخصبة ، التي تفرع منها الخبز يبله ماء القدر
، فيغيبه ، ويرجعه رمزياً على الأصل ، فيكون صنع الثريد في مرحلته الأخيرة محاكاة
لحركة أولية ظهرت معها الثقافة ، في حين يعبر طبخ الخبز قبل أن يثرد عن أوج
تطورها».
وقد إقترن الثريد في الثقافة
الإسلامية بهاشم ، فقيل أنه أول من ثرد الثريد ، وتجمع المصادر أنه أتى بالدقيق
والكعك من الشام ، ولئن بدت رحلة هاشم إلى الشام حدثاً تاريخياً ، فهي لا تخلو من
أبعاد رمزية ، فرواية هشم الخبر تشير على رحلة سكان أرض لا زرع فيها أضناهم القحط
فطلبوا شيئاً آخر غير ما تجود به إبلهم ، ورغبوا في تحقيق حلم إبراهيم القادم من
الشام ، يدعو إبنه إلى تغيير عتبة بيته عساه ينعم بالحب والولد ، قصد هاشم الشام
حتى يأتي بالغرائر المملوءة خبزاً ودقيقاً ، فيحقق أول خصب أهل مكة ، فالخبز هو رمز
لنشاط الإنسان وفعله في الطبيعة ، وسيطرته عليها تثرده قريش ، فتخرج العرب من
البداوة إلى التحضر والتمدن ، وتؤسس لثقافة جديدة ، يكون الفضل كل الفضل فيها للأب
( إبراهيم /قصي /هاشم ) الذي جاء محمد من صلبه .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق