الخميس، 16 مايو 2013

سميّة عزّام في رسالتها للدبلوم: البنية وتطوّر الرؤية في خمس عشْرة قصة عند سعيد تقيالدين، قراءة سيميائية سرديةواجتماعية.


 يستحقّ سعيد تقي الدين أكثر من رسالة ماجستير أو رسالة دكتوراه، فأدبه لا يزال حيّاً، حارّاً، بل وحارقاً. تناول أموراً كثيرة لا تزال تحرق قلوبنا وأخضرنا الهشّ. ورسالة الطالبة سمية عزّام: " البنية  وتطوّر الرؤية في خمس عشْرة قصّة عند سعيد تقي الدين، قراءة سيميائية سرديّة واجتماعية" تقدّم إضاءة قيّمة هي ثمرة " الصعوبات" البحثية التي واجهت الطالبة وتخطّتها باقتدار بيّن، وهي صعوبات عرضتها الطالبة في الصفحة الثامنة عشرة منها إنّ الموضوع المطروق كما تقول يتطلّب" ثقافة شموليّة في التاريخ والسياسة، وعلم الاجتماع والفلسفة"، وبمعنى ما فإنّ التخصّص الذي لا يعتمد على خلفيّة موسوعيّة لا يمكن له أن يكون إلاّ تخصّصاً في السطوح!

تغريني النهايات، نهايات الكتب؟ كما تغري البعض الجمل الأولى من الكتب وهو ما يسمّى بالفرنسيّة (incipit). ولكن ما هي نهاية كتاب؟ طبعاً هي مقدّمته، أغلب الأحيان، ولهذا أقرأ المقدّمة ثمّ أقفز إلى النهاية المجازيّة التي تحدّدها أرقام الصفحات. ومن النهاية المجازيّة سأبدأ، من صفحة الملاحق تحديداً، حيث استوقفني نصّ اعتبره إضاءة سخيّة على كتابات وقصص سعيد تقيّ الدين، وهو النصّ الذي تتفرّع عنه، حسب ظنّي، تفرع الأصابع من الراحات أغلب قصص سعيد تقي الدين. فلقد استشهدت الطالبة بواقعة طريفة وردت في الملحق الأوّل ( ص 295 ) من أطروحتها المسمّى: "شواهد حيّة من حياة الكاتب، وفي طباعه المرحة". وطبعه المرح طبّع لاسع، لاذع، كما يبدو من شاهدَين: الأوّل وضعت له الطالبة عنواناً هو "الارتجال والخلق" ، ويقول ما يلي:" دعي – أي سعيد تقيّ الدين- لإلقاء محاضرة في إحدى الجامعات، وذلك في موضوع الطائفيّة. قبل البدء، وزّع أوراقاً  بيضاء على الحاضرين، وطلب إليهم أن يدوّن كلّ منهم أسماء اللحّام والحلاّق والبائع الذين يتعامل معهم. وبعد جمع الأوراق، وضعها جانباً من غير قراءتها، وخاطب الجمهور قائلاً: أنا متأكّد من أنّ من يسكن في المنطقة الشرقية قد كتب أسماء جورج والياس وايلي، ومن يسكن في المنطقة الغربية قد كتب اسماء عليّ وحسين ومحمّد. هنا مكمن الطائفية، وبدأ محاضرته في هذا الموضوع".

نلحظ من هذا النصّ الجارح ان الكاتب استطاع أن يقرأ الأوراق البيضاء من دون أن يلقي أي نظرة في الأوراق، ومن دون أن يرتكب أي خطأ. وليس سهلاً قراءة ورقة بيضاء من دون أن يلحن القارىء أو يخطىء!

والثاني تحت عنوان:" وصيته" ويقول فيها:

"اتركوا تابوتي مفتوحاً، لكي أقدر أن أقوم وألبط من يؤبّنني". وبين التأبين والتأنيب فرق صوتيّ بسيط وخبيث! ولا أعرف لماذا تذكّرت وأنا اقرأ " عبارة "التابوت المفتوح" عنوان كتاب امبرتو ايكو" النصّ المفتوح"؟ هل لأنّ النصّ المفتوح نصّ لا يموت؟ كما لم يمت جثمان سعيد تقيّ الدين المسجّى، فالجثمان الذي يقوم ويلبط ليس جثّة فيما أتصوّر. ويعترف بحركته فعل اللبط، وفعل التأنيب لم يأت إلاّ من حاسّة سمع يقظة تحسن الإصغاء! ولا تخلو كتابات سعيد تقي الدينيّ من "لبط"، وما كنت استعملت هذا الفعل لو لم يكن من معجم الكاتب الذي هو محور هذه الرسالة. الطريف في أمر سعيد انّه تعلّم أن لا يلوذ بالصمت بعد الموت من والده، وهذا ما يقوله شاهد آخر من قوله الذي لا يخلو، بدوره، من كناية  في صغري آويت إلى فراشي أبي أود أن أنام إلى جانبه وكانت يداي ملوثتين فزجرني أبي يقول : " لا تضطجع إلى جانبي إلا وأنت نظيف اليدين " ، وأمس زرت ضريح أبي فسمعته يردّد " لا تضطجع إلى جانبي إلاّ وأنت نظيف اليدين".

 وأشير هنا عرضاً إلى غياب امبرتو ايكو عن مصادر الطالبة على الرُغم من أنّه علَم في علم السيمياء، والسيمياء كانت من أدوات الطالبة في تحليل قصص سعيد تقيّ الدين الشيّقة؟ كما يقول عنوان رسالتها الفرعيّ "قراءة سيميائية سردية واجتماعية" وهذا يعني انها دخلت الى السرد والمجتمع من باب السيمياء. والغياب، كما الحضور، دالّ. من وحي "السكون" في اللغة العربيّة، والسكون بمصطلح النحو غياب دالّ، والغياب يحمل كما يقول بعض النحاة العرب " علامة عدميّة ". هذه الإشارة العابرة، لا تنقص أبداً من إعجابي بأطروحتها، صياغةً وتحليلاً وعمقاً. إعجاب مقرون بمتعة قراءة النصّ الذي عرّفني عن قرب حميم بأدب تقيّ الدين، وعناوين مجاميعه القصصية الجاذبة والحاضنة للأضداد كما في " الثلج الأسود" و"موجة نار" و" ربيع الخريف". وكانت دراسة الكاتبة في الفصل الرابع، الجزء الأوّل الموسوم " سيمياء العناوين والأسماء وحسن الملاءمة" (ص 231 ) موفقة وضروريّة حيث تظهر أهميّة ما يعرف " عتبات النص" بحسب المصطلح الذي سبكه الناقد الفرنسيّ الفذّ جيرار جينيت، في كتابه "عتبات" الذي أشارت الطالبة اليه في هامش الصفحة 231.  فالأسماء ليست اعتباطية إطلاقاً على أقلام الكتاب، بل هي إضافات دالّة وتلوينات تمليها رؤية الكاتب للشخصيّات. فالأسماء تعليق على الأحداث، أو أحداث تتحوّل إلى أقدار أو سخرية أقدار يتوسّلها الكاتب لتوصيل مراداته. ولفت نظري إشارتها إلى الأبطال الذين تحتضن أسماؤهم المتحوّلة والمراوغة تحوّلاتِ حياتهم الشخصيّة في حالتي السلب والإيجاب، وتكون بمثابة مجاز مرسل عفيّ، كما في التبدّل في اسم "ياشاوا" ص 100 إلى " فرنندس" في قصة " الملك فرنندس". الزمن يبدل الأسماء والانتماءات والمواقف، كما نرى في اسم قاسم، ابن حمود الذي يصير غاستون. ص67

كما توقفت الكاتبة عند تلك الأسماء المبتكرة التي وضعها سعيد تقي الدين لبعض أعلام قصصه كـ" طعبروس" أو " دِرمدس" الهنديّ، ولهذه الأسماء طبيعة المخلوقات المشوّهة، والأسماء شديدة الأهمية بحيث إن امبرتو ايكو قال، ذات مرّة، انه في حال فرض عليه الذهاب إلى جزيرة مهجورة، وفرض عليه أن يختار كتاباً يتيماً لمرافقته في وحدته المديدة فإنّه كما قال لا يصحب معه الاّ كتاباً واحداً ليس فيه من حيث تعريف الكتاب أو النصّ أي صفة من صفات الكتب وهو" دليل الهاتف"، وعلّل اختياره بالقول : لأنّه كتاب مكتظّ بالأسماء. الأسماء جليس أنيس في وحدة امبرتو ايكو.

وكما كانت الطالبة موفّقة في قراءة التحوّلات المندسّة بشكل خفيّ في الأشياء، فـ"صورة أم فريد" ناطقة في هجرتها القسريّة، وزاجرة حين تعرض للبيع في معرض الصور. فالمشهد، على بساطته، حمّال أوجه ودلالات، البيع هنا ليس بيعاً لصورة إنّما بيع لتاريخ، وبيع لنسب وصلات أرحام. وكذلك الأمر في تحوّلات الأمكنة، ودلالاتها في مجرى السرد والأحداث، ففي قصّة "حمّود"، لفتني تحوّل الأرض الثابتة إلى سيّارة، سيّارة أجرة. الثابت الأصيل/الأرض تقايض، عمليّاً، إلى متحوّل هشّ. السيارة مكان جوّال بخلاف الأرض. الباخرة كحيّز مكانيّ صاخب الدلالات هي جسر عبور ورحم تحولّات سلبية أو إيجابية بحسب النظر إليها، ولقد استطاعت الطالبة بمهارة سيميائيّة سحب الدلالات من الأشياء التي تشكّل ما يمكن أن يسمّى نبض السرد وديناميته.

وأظهرت الطالبة مقدرة وجلداً على التحليل في الفصل الثاني من أطروحتها" البناء السردي"، ووضع الترسيمات العاملية بإتقان، ورسمت شبكة العلاقات السخيّة لكلّ قصّة، وتلك التحوّلات الكامنة في مجرى القصّ والسرد (  86 وغيرها)

مآخذ:

ثمّة كلمة أتعب شفتيّ وعينيّ، وهي مصطلح من علم اللغة الاجتماعيّ، عرّبتها الطالبة بـ " سوسيولكت". مسائل المصطلحات لم يحسم أمر التعامل معها في اللغة العربيّة إلى اليوم بسبب تمزّق أديم اللغة العربية عبر تمزّق الجغرافيّة العربية نفسها. بالنسبة لمصطلح "سوسيولكت"  المنحوت في الفرنسية من مفردتين: سوسيولوجي وديالكت. كنت اتمنى لو ان الطالبة وجدت مفردة أكثر سلاسة، وإن كانت واضح الدلالة، فعبارة مثل: "سوسيولكتة الأقوام المنتمية الى الثقافات المعتبرة شرقيّة: الهندية والعربية" ص 180، " أو في حالة الجمع كما في العبارة التالية:" ترد فئتان من السوسيولكتات ترهصان بصراع ايديولوجي " ص 180، اظن ان القارىء يشعر بثقل في التلفّظ بالمفردة، وهي مفردة ليست من صلب القصّ أو من مفردات سعيد تقيّ الدين، لنقول إنّ للكاتب سعيد تقيّ الدين مآرب سيميائية من ورائها على سبيل المثال، كان من الممكن تبني الترجمة الحرفية للمصطلح التي اختارها الدكتور رمزي بعلبكيّ في "معجم المصطلحات اللغويّة" وهي" اللهجة الاجتماعية"، وهذا المصطلح هو الذي اختاره، أيضاً، الدكتور عبده الراجحي في كتابه: "اللغة وعلوم المجتمع".

وثمّة مسألة أيضاً، كنت أتمنى لو أن الطالبة انتبهت إليها وهي مسألة المصطلح الموحّد، فهي حين تتناول "التحليل العامليّ في البناء السرديّ" تستعمل تركيبن اثنين لإحالة على مسألة واحدة او مرجع واحد. فهي تستخدم  تركيب " العامل المعاون"، في بعض الأحيان،  وتستعمل "العامل المساعد" في أحيان أخرى. وأحياناً تسحب كلمة "عامل" من التداول وتكتفي بكلمة " مساعد" أو "معاون".  وأظنّ انهما ترجمة لمصطلح فرنسيّ واحد من مصطلحات العالم االسيميائيّ غريماس. كان يفضّل أن يتمّ الاعتماد على صيغة واحدة،  وتبنّي خيار واحد خصوصاً أنّ هذه العبارات تدخل تحت حيّز المصطلحات. مصطلح واحد.95 وصفحة 100 . والأمر نفسه بالنسبة لمصطلح "العامل المناوىء" الذي يرد أحياناً تحت تسمية "العامل المعاكس".

وفي الختام لا يسعني إلاّ الثناء على الجهد الذي بذلته الطالبة وهو جهد يستحقّ التقدير، وعلى زرعها الذي أينع وأثمر ثمراً جنيّاً طيّب المذاق.

 

 

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق