جثّة حصان صينيّ
العلاقات العربيّة الصينيّة
علاقاتٌ قديمةٌ جدّاً يُعيدها البعض إلى ما قبل الإسلام، ولكنّها لم تكن علاقات ثقافيّة
في يوم من الأيّام. فالإنسان العربيّ القديم آمن بثقافة الهنديّ والفارسيّ
واليونانيّ ولكنّه لم يؤمن بثقافة الصينيّ. اعتبر العربيّ أنّ الصينيين أهل صناعة
لا أهل ثقافة ولا أهل فكر وحكمة، هذا ما نلمحه في تعليقات كتاب عرب قدامى مثل أبي
حيّان التوحيديّ أو صاعد الأندلسيّ أو ابن بطوطة الذي عاش سنوات وسنوات بين
ظهرانيهم ونقل انطباعاته عنهم في رحلته الممتعة. وإذا ما التفتّ الى كتب "الملل
والنحل" تجد الغياب الفادح لثقافة الصين الدينيّة والروحيّة والفكريّة.
من
سوء حظّ العرب في عصرهم الذهبيّ الغابر عدم وجود شخصيّة كبيرة تهتمّ بالصين على
غرار أبي الريحان البيرونيّ العالم الجليل الذي اهتمّ بالهند فتناول عاداتها ومعتقداتها
ولسانها وإنسانها في كتابه البديع: "تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة" وذلك من وجهة نظر
انترولوجية موضوعية سمحاء كما يتبدّى في عنوان الكتاب نفسه. وما ساعده على وضع
كتابه معايشته المديدة للهنود في عقر ديارهم، وإتقانه، بشكل كامل، للغتهم
السنسكريتيّة وهي لغة لها فضل، رغم انقراض استعمالها، على بلورة علم اللغة الحديث.
علاقتنا
بالأسماء تفصح عن علاقتنا بالأشياء، وهنا أشير إلى مسألة لا تزال مثار استغراب وهي
عدم وجود اسم لكونفوشيوس بالعربيّ في النصوص العربيّة القديمة، وقد يقول لي قائل:
ولكنك تدين نفسك بنفسك في هذه العبارة. كيف تقول ليس لكونفوشيوس اسم بالعربيّ، وها
أنت قد ذكرت للتوّ اسم كونفوشيوس بالعربيّ؟ .أعطيت اسم كونفوشيوس كمثال لا أكثر.
مصدر المعرفة هو الذي يحدّد معنى المعرفة. هل وصلنا اسم كونفوشيوس من الصين
وعربناه بهذه الطريقة أم جاءنا من مصدر غير صينيّ؟ ومتى جاءنا اسم كونفوشيوس؟
ولماذا جاءنا بهذه الصيغة؟ وما معنى أن يكون له هذه الصيغة وليس للمقطع الأخير"يوس"
من اسمه صلة باللغة الصينية؟ كونفوشيوس مفردة مترجمة عن اللغة اللاتينيّة لا عن
اللغة الصينيّة، فأفلاطون وأرسطو وسقراط أسماء علَم دخلت معجم اللغة العربية من
اللغة اليونانية أو السريانيّة مع بدايات عصر الترجمة في أيام عزّ العرب، أمّا اسم
كونفوشيوس فلم يدخل العربية من بوّابة اللغة الصينية وإنّما من البوّابة الغربيّة
بصياغته اللاتينيّة، واسمه الصينيّ هو " كونغ فو تزه".
ولا
يمكن نكران أنّ الاهتمام العربيّ بالثقافة الصينية بدأ حديثاً يظهر شيئاً فشيئاً،
وترجمة بعض كتب التراث الصينيّ الغنيّ بدأت تظهر أيضاً ولكنّ أكثرها يترجم من لغة
وسيطة ثالثة هي الفرنسيّة او الإنكليزيّة او الألمانيّة بقلم من لا يعرف رمزاً من
رموز اللغة الصينيّة فتأتي ترجمته مشوبة بأخطاء كثيرة ولا سيّما في كتابة الاسماء.
المعروف
أنّ أقدم كتاب موجود في العالم عن الإستراتيجيا هو كتاب صينيّ اسمه " فنّ
الحرب أو " بينغ فا" لـ"سْوِنْ تْزِهْ". كتاب وجيز، والإيجاز
فنّ صينيّ بامتياز، والسبب أنّ الإيجاز يسمح للقارىء باستخدام خياله وإضافة شروحات
وتفاسير ونظرات جديدة، والإيجاز كالنحت يقوم على فنّ الحذف. كما أنّ هناك كتاباً
آخر أشدّ وجازة من كتاب سون تزه واسمه:" ستّ وثلاثون خطّة عسكرية" وهو
مجهول المؤلّف، والكتاب قديم جدّاً ولكنّه كان من الكتب الضائعة التي تمّ العثور
عليه عام 1941، فكان بمثابة اكتشاف كنز استراتيجيّ لا يقدّر بثمن، وهو يحتوي على
36 خطة عسكرية مكتوبة بأسلوب مجازيّ، ليّن، والليونة جزء من جوهر الفكر الصينيّ،
وكلّ استراتيجيّة هي عبارة عن جملة أو مثل من أربع كلمات ما عدا الاستراتيجيّات
الستّ الأخيرة التي تتألف جملتها من ثلاث كلمات.
في
هذا المقال سأتوقّف عند استراتيجيّة من أربع كلمات، تقول الاستراتيجية :" ضع
الزهر على الشجرة" ويقصد بالقول:" ضع أزهاراً اصطناعية على شجرة غير
مزهرة". الإيجاز يستدعي الاطناب او التفصيل لإزالة غموضه او الكشف عن معناه،
وعادة ما يكون التفسير مقتطفا من واقعة حقيقية او أقصوصة خرافية. حين قرأت العبارة
وتفصيلها وجدت انه بالامكان ايجاد أبدال لها من تراثنا العربيّ في الامثال
الشعبية، فوجدت المثل العربيّ الشعبيّ الذي يقول: " لبّس المكنسي بتصير ستّ
النسي". ما معنى هذا المثل العربيّ؟ هذا المثل يضمر هجاء، ولكنه يحمل، فضلاً
عن الهجاء، مضموناً لا يخلو من مقدرة سحريّة، وهو أنّ المكنسة ليست مكنسة وإنّما
هي، بقدرة الملابس الساحرة، حسناء بل سيّدة الحسناوات.
تقول
الحكاية الصينية إنّ ملكاً من الملوك القدامى كان ولوعاً بالخيول، وكان يحلم باقتناء
أفضل جواد موجود في مملكته، جواد أسطوريّ كأبجر عنترة العبسيّ. ما هي الطريقة التي
تمكنه من الحصول على الجواد الأفضل؟ عرض ألف ليرة ذهبيّة لمن يحضر له ذلك الحصان،
ولكن لم يحصل على الجواد رغم هذا المبلغ المغري. كان الملك متقدّماً في السنّ فعاش
مغموماً لأنّه خشي على نفسه من الموت قبل تحقيق أمنيته تلك. كان رئيس المراسيم في
بلاط الملك رجلاً حكيماً ومحنّكاً فاقترح على الملك أن يتكفّل بتحقيق رغبة الملك
شخصيّاً، وبعد بحث مضنٍ عثر رئيس المراسيم على الحصان المطلوب، ولكن حين وصل الى
مكان وجود الحصان اكتشف ان الحصان مات منذ ساعات قليلة، رغم ذلك قرّر رئيس
المراسيم شراء جثة الفرس، بمبلغ500 ليرة ذهبيّة، وعاد مسرورا الى الملك واخبره
بانه حصل على الحصان الأصيل بـ500 ليرة ذهبيّة، سرّ الملك بالخبر، وعندما طلب رؤية
الفرس ورآه جثّة هامدة جنّ جنونه، ولم يفهم شيئاً من سلوك الحكيم الأرعن. اين
حكمتك أيّها الحكيم؟ ما هذا الجنون؟ ماذا أفعل بجثّة حصان؟ فأمر الملك في لحظة نزق
برمي الحكيم في الزيت المحميّ ليتخلّص من حماقاته، إلاّ أنّ الحكيم وقبل تنفيذ
رغبة الملك الحارقة، قال: يا مولاي ما هو المبلغ الذي يدفعه شخص ثمن حصان حيّ يرزق
إذا كان قد دفع ثمن جثّة حصان أصيل 500 ليرة ذهبيّة ؟ أوتظنّ أنّ الناس لن يسمعوا
بالخبر؟ تريثْ قليلاً وستجد عشّاق الذهب يأتون بأفضل ما عندهم من جياد لعرضها عليك
يا مولاي؟ وبالفعل انتشر خبر ثمن الحصان الميّت، فسال لعاب الناس، وبدأوا بالحضور على
صهوات جيادهم على أمل بيعها للملك، وما كاد عام يمضي حتى كان إسطبل الملك يحوي ليس
أفضل حصان وإنّما أفضل ثلاثة أحصنة موجودة في مملكته.
فالميّت فخّ قد لا يأمن الحيّ من الوقوع في شراك
جثمانه!
بلال
عبد الهادي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق