الأربعاء، 8 مايو 2013

خياط أعور/ من مقالات كتاب لعنة بابل


أراد أحد الشعراء أنْ يظهر عجز الإنسان أمام معنى الكلام فنظم بيتين بسيطين من الشِّعْر. وأراد هذا الشاعر أيضاً أن يلفت النظر إلى أنّ معنى الكلام لا يمكن له أن يتحقّق بفصله عن مقامه وسياقه. عزل الكلام عن سياقه وأسباب قوله يصير أشبه بلغز لا يمكن لأيّ قارىء أو سامع أن يدّعي نزع القناع عن وجهه.

لم يتفنّن الشاعر، إمعاناً في تأكيد وجهة نظره، كثيراً في انتقاء ألفاظه، لم يلجأ إلى الكلمات الزئبقيّة التي تثير الحيرة وتفتح المجال لتآويل لا تنتهي، وإنّما اكتفى بمفردات معروفة، واضحة الدّلالة، لا يمكن أنْ يختلف حولها شخصان. ومع هذا فإنّه لا يمكن لأيّ شخص، مهما أوتي من قوّة البيان، أن يحسم دلالة البيتين. هنا الإنسان عاجز، لا محالة، عن فهم ما يسمع، واللغة أيضاً عاجزة عن توصيل ما تريد. عجز مزدوج بشريّ ولغويّ في آن. والطريف أنّ العجز ليس بسبب أنّ السامع أو القارىء أمام لغز من الألغاز اللغويّة التي برع العرب قديماً في صياغتها نثراً وشعراً، وإنّما أمام نصّ بسيط أقرب إلى النَّظْم العلميّ منه إلى النَّظْم الشعريّ، إلاّ أنّه نظم يوقع مخيّلة القارىء في مأزق دلاليّ، لأنّ الشاعر عمد إلى إبقاء قصده في بطنه.

قصّة البيتين هي التالية: أراد الشاعر أن يفصّل قَباء (ثوب يشبه العباءة) فذهب عند خيّاط أعور، وبعد فترة استلم الشاعر قَباءه، ولكنه لم يصرّح لنا إنّ كان القباء قد نال استحسانه أم لا. لم يقل لنا شيئا عن براعة الخيّاط أو رداءته. وإنّما اكتفى بالتعليق على صنيع الخيّاط الأعور بهذين البيتين:

خاط لي عَمْرُو قَباء               ليت عينيه سواء!

فاسأل الناس جميعاً               أمديح  أم  هجاء؟

إنّ الشاعر يعرف أنّه ألقى في هذين البيتين أمام القرّاء عملاً تعجيزيّاً، وإلاّ لما طلب من القارىء أن يستعين، ليس بشخص واحد أو شخصين، وإنّما بالناس جميعاً، في إزالة الالتباس وتوضيح دلالة البيتين المتضاربة، علماً أنّ الشاعر يعرف مسبقاً بأنّ الناس مثلهم مثل السامع عاجزون عن تحرير المعنى من أسره، وفكّ أغلال معناه.

النصّ على وجازته شديد الغنى والدلالات، ويفسح المجال أمام أسئلة كثيرة، قد لا تختلف أجوبتها كثيراً، في أيّ حال، عن مصير المعنى المعمّى للبيتين.إنّ الخياط أعور أي أنّه فاقد لنصف قدرته البصريّة، أمّا القارىء هنا فصحّة عينيه الحائرتين والزائغتين لا تختلف كثيراً عن عين الخيّاط العوراء، لأنّه لا يرى أيّ بصيص ضوء، إنّ المعنى أمام ناظريه مظلم ودامس على رغم وضوح المفردات.

وثمّة، في النصّ، ذكر واضح لاسم الخيّاط عمرو، واختيار الاسم دالّ، وهو ليس نكرة، إذ لعمرو في عالم النحو حضور بارز، وله حكايات كثيرة تثير الشفقة، فهو وزيد متلازمان في كتب النحو مثل "توم" و"جيري" في مسلسل الرسوم المتحرّكة، إذ لا يكاد يخلو كتاب من كتب النحو القديمة من هذا المثل" ضرب زيد عمرا". هل تكشف لنا حياة عمرو النحويّة عن شكل القباء؟ ربّما، وخصوصاً إذا عرفنا أن عَمْراً في الأمثال النحويّة هو الذي يمثّل دور الضحيّة باستمرار، وهو الذي يتلقّى الضرب المبرح من صاحبه اللدود زيد!

هل كان عمرو النحويّ في ذهن الشاعر حين نظم هذين البيتين؟ ربّما! فقد يكون البيتان عمليّة ثأر ليس من شرّاح الشعر ونقّاده الذين يدّعون امتلاك ناصية المعنى وإنّما أيضاً من النُّحاة الذين ظلموا كثيراً عمراً، كما ظلموا الشعراء أيضاً. وشكوى كلّ من الفرزدق والمتنبّي من النحاة كانت معروفة، وعلاقتهما بالنحويّين لم تخلُ من تشنّج دامٍ أحياناً.

ومع هذا، لا أحد يستطيع أن يقول أنّ الشاعر لم ينسج بيتيه على منوال النحاة الذين أذاقوا عمراً الأمرّين. ولا احد يمكنه القول إن الشاعر قام بدور زيد النحويّ أمام عمرو الأعور، وسبب الالتباس الدلالي هو جهلنا بمدى إتقان الخيّاط في تفصيل اللباس!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق