الثلاثاء، 7 مايو 2013

المطبخ الأدبي و دلالات الطعام فــي الروايـــة المعاصــــرة

ملحق ثقافي
17/4/2007م
آدم غوبنيك ترجمة د. علي محمد سليمان
من السهل تفسير إهتمام الرواية بالطعام بكل عناصره و طقوسه. فالطعام نشاط إنساني حيوي يمكن له أن يقدم دلالات هامة في رسم أبعاد الشخصية الروائية و العالم المحيط بها.


 
‏‏

و لكن كيف يمكن تفسير و قراءة ذلك الاختلاف الذي طرأ على طريقة حضور الطعام و توظيفه تعبيرياً في الرواية عبر مراحل تطورها التاريخي و الأسلوبي؟ و هل يمكن لتغير إحتفاء الرواية بالمذاقات و الروائح و الأطباق و طقوس التحضير و الطبخ أن يشير إلى بعض ملامح تغير الأسلوبيات الروائية و الحساسية الفنية التي تميز كل عصر روائي؟ في البداية لا بد من الإشارة إلى حقيقة واضحة تميز الرواية المعاصرة في علاقتها مع الطعام.‏‏
لقد تطور حضور الطعام في الرواية المعاصرة من مجرد توظيف لعنصر دلالي يوظفه الروائي لرسم ملامح ما في الشخصية الروائية أو في العالم الروائي إلى حالة إحتفاء مكثف بعناصر ثقافة الطعام و الطبخ و بأكثر تفاصيلها دقة و تخصصية.‏

 

لقد أصبح الكثير من الروايات المعاصرة يفرد العديد من الصفحات و مقاطع كاملة لسرديات تحتفي بشغف و تفصيل غامض بطقوس و روائح الطعام، و هذا ما دفع بعض النقاد إلى مقارنة هذا الشغف باحتفاء رواية الستينيات و السبعينيات بالجنس.‏‏
فهل الطعام بديل روائي معاصر للجنس في رواية الستينيات و السبعينيات من القرن الماضي؟ و كيف حدث هذا التحول الروائي؟ هناك أربعة أنواع من الطعام في الرواية: طعام يقدمه الروائي لشخصيات لا ينتظر منها أن تتذوقه؛ طعام يقدمه الروائي لشخصياته ليظهر من هي؛ طعام يحضره الروائي لشخصياته و يشترك معها في تناوله؛ و مؤخراً في الروايات المعاصرة طعام يحضره الروائي لشخصياته و لكنه في الحقيقة يقدمه للقارئ. في روايات القرن التاسع عشر الكلاسيكية حضور للنوع الأول. يقدم الروائي في هذه الروايات أطباقه للشخصيات في وجبات تتتالى بمعزل عن تجربة التذوق أو التحضير و كأنها مجرد محطات في تتابع السرد و مجرد علامات لاستمرار الحياة و التحولات الاجتماعية، و ليست تجربة متعة او لذة بحد ذاتها.‏

 

أما النوع الثاني من الطعام الروائي فيتجلى في بعض الروايات الحديثة. هنا يقدم الروائي أصنافاً معينة من الطعام لشخصياته بهدف إظهار من هي، ملامحها و هويتها. و يعتبر كل من مارسيل بروست و هنري جيمس مثالاً نموذجياً على هذا النوع. تحضر لدى بروست تفاصيل دقيقة حول الطعام و مكوناته بحيث يمكن إستخراج وصفات دقيقة لبعض الأطباق من رواياته. و رغم حضور هذه التفاصيل فإن توظيف بروست الدلالي لها لا يتعلق جوهرياً بتجربة شخصياته الروائية بالتذوق. إن بروست يوظف دلالات تجربة الطعام ليضفي ملامح و ألواناً معينة على بيئة و محيط الشخصية. إنه يستخدم الطعام كعلامة على شيء آخر، و هذا ما يفعله الكتاب الإجتماعيون دائماً. و هناك أيضاً نوع من الروائيين يمكن وصفه بالنهم في توظيفه للطعام في الرواية. يصور هؤلاء الروائيون بتفصيل دقيق و بإسهاب سردي كل التفاصيل المتعلقة بما تتذوقه الشخصيات الروائية من أطباق. و يعكس إيان فليمينغ شغفاً بالطعام يصل حد الهوس و الشهوة و يشكل لحظة حاسمة في تجربة شخصياته. أما النوع الأخير و الذي تتزايد أمثلته في الرواية المعاصرة فهو الذي يتجلى في النزوع نحو تصوير إحتفاء الشخصية الروائية ليس بمذاق الطعام فقط، بل أيضاً بكل التفاصيل المتعلقة بتجربة تحضيره و العناصر المكونة له. في العديد من الروايات المعاصرة يقدم السرد تفاصيل دقيقة حول المقادير و طريقة مزجها، ما هي كمية الثوم المطلوب: كيفية تقطيعه و الوقت المناسب لوضعه في المقلاة مع السمك. لقد أصبح بالإمكان إستخراج وصفات كاملة لأطباق و وجبات من الروايات المعاصرة بحيث يمكن القول دون تردد أن هناك مطبخ روائي غني يحتوي دائماً على أطباق جديدة يبدعها الروائيون. و في الحقيقة لقد أصبح الكثير من القراء في أوربا و أمريكا يتابعون ما يجود به خيال الروائيين من أطباق و وصفات جديدة بمثل الشغف الذي يتابعون فيه ما يقدمه الروائيون من قصص و شخصيات جديدة. و أكثر من ذلك إنتشرت عادة التطبيق العملي لوصفات الروائيين حيث أخذ القراء يطبخون الأطباق الروائية و يتذوقونها في الواقع. فما هي دلالات هذه التجربة المعاصرة؟ في رواية “سمك الفلاوندر” للألماني غونتر غراس الحائز على جائزة نوبل للآداب وصفات عديدة لطهو سمك الفلاوندر. تقدم هذه الرواية تصويراً ملحمياً لتاريخ المانيا من خلال رمزية القصة التي ترويها سمكة مشؤومة، رجل ساذج، إمرأة خلوقة و كثير من البطاطا. يسيطر على سمكة الفلاوندر في الرواية هاجس أن نوعها لم يعد يؤكل و أن هناك تقصير شائع في تحضيرها كوجبة. تقدم الرواية وصفاً مطولاً و تفصيلياً لكيفية إعداد أطباق من سمك الفلاوندر. و يتشعب السرد و يتداخل وصف الوجبات مع إستعارات و رموز تحاكي تاريخ ألمانيا إلى أن تقدم سمكة الفلاوندر نفسها وصفة محددة لتحضيرها. و هنا يتحول الطعام إلى رموز و علامات تكتسب دلالاتها من خلال توظيفها في السرد الروائي و تتداخل مع القراءة المعاصرة لتاريخ المانيا فتتحول البطاطا مثلاً من خلال ما تعد به من غذاء رخيص في متناول الجميع إلى رمز للوهم الخادع لعصر التنوير الألماني. أما صلصة الخردل بطعمها الحاد فإنها تأكيد على ما تبقى من العبقرية الألمانية في منطقة البافاريا. في رواية “يوم السبت” لإيان ماكيوان الحائز على جائزة بوكر توظيف جديد لتجربة الطعام و طقوسه تعبر عن مأزق الوعي و التواصل الذي يعيشه الإنسان المعاصر. تقوم الشخصية الرئيسية في هذه الرواية هنري برون بتحضير وجبة تسمى سمك ستيو بويلابايز بينما يتأمل بشرود مشاهد في التلفاز تتعلق بالحرب الأمريكية على العراق. إن هنري يثق بإمكانياته في الطبخ، لكنه يعترف أنه ينتمي إلى مدرسة معينة و هي تعتمد على مبدأ جمع العناصر بعشوائية و رميها في القدر دون دقة في المقادير. و في هذا المقطع من الرواية يحضر هنري الطماطم و يقطع السمك في نفس الوقت الذي يبدأ به في تحضير المكونات الأخرى لوجبته. يأتي بقرون فلفل أحمر جافة، يطحنها بيده فوق البصل و الثوم قبل أن يضيف بعض الزعفران و أوراق الباي الإستوائية و قطع برتقال و بهارات. و في هذه الأثناء يستمر في تقطيع السمك و الجمبري و تجهيز عدة قواقع بحرية. تتم كل هذه التفاصيل التي تقدمها الرواية بتفصيل و إسهاب بينما ينظر هنري إلى تلفاز خفيض الصوت إلى درجة الصمت يعرض مشاهد لمظاهرة في لندن تحتج على الحرب الأمريكية البريطانية على العراق و لمداخلة يلقيها كولن باول في الأمم المتحدة حول الحرب. إن ماكيوان يصور هنا عزلة و اغتراب الفرد المعاصر الذي تنشغل يداه بالسمك بينما تنظر عيناه بشرود إلى مشاهد الحرب و الرعب. لكن بلاغة هذا المشهد و دلالاته الروائية تكمن في أنه لا يمكن أن يحدث بهذه الطريقة في الواقع. ذلك أنه لا يمكن واقعياً لإنسان أن ينغمس بكل ذلك الشغف و كل تلك التفاصيل في عملية الطبخ و أن يحتفظ في نفس الوقت بقدرته على التأمل و التفاعل مع مشاهد الحرب و الرعب و مآسي الحياة الحديثة. عندما يحضر إنسان ما طبق البويلابايز فإنه يفكر بال بويلابايز و ليس بمشاكل الحياة المعاصرة، بل إنه يصنع البويلابايز فقط و لا يفكر لا به و لا بأي شيء آخر. و هنا تكمن المفارقة في توظيف عملية إعداد الطعام كخلفية لتدفق تيار الوعي. إن فعل الطبخ و تحضير الطعام هنا هروب من الوعي و أقرب ملجأ للإنسان المعاصر يمارس فيه إحساسه بالوجود النابع من الضرورة. إن وصفات الطعام في الرواية المعاصرة، أو ما أصبح يعرف بالمطبخ الروائي، لها دلالات و وظائف أدبية. إن أحد أهم هذه الوظائف يتجلى في تشكيل خلفية التفكير و الوعي. كل عصر يتميز بفعل قادر على تشكيل تلك الخلفية كما كان الحال مع العصر الكلاسيكي حيث كان المشي فعل يؤدي بالشخصية إلى التفكير و التأمل. لكن المشي كفعل تأملي إنتهى روائياً مع جيمس جويس و فرجينيا وولف. لقد استبدلت الرواية الأمريكية فعل المشي بقيادة السيارة. و كل من المشي و قيادة السيارة فعل يمتلك خصائص طبيعية تمكنه من تشكيل خلفية يرصد من خلالها تيار الوعي و التفكير لدى شخصية روائية معينة. أما في حالة فعل الطبخ كما تصوره الروايات المعاصرة، فإن الفعل لا يشكل إطاراً للتفكير بل يشكل بديلاً له. ناقد أمريكي. نشرت هذه المقالة في مجلة نيويوركر الأمريكية في عددها الصادر في 9 نيسان 2007.‏‏







ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق