شربنا على ذكرِ الحبيبِ مدامة ً | سَكِرْنا بها، من قبلِ أن يُخلق الكَرمُ |
لها البدرُ كأسٌ وهيَ شمسٌ يديرها | هِلالٌ، وكم يبدو إذا مُزِجَتْ نَجمُ |
ولولا شذاها ما اهتديتُ لحانها | ولو لا سناها ما تصوَّرها الوهمُ |
ولم يُبْقِ مِنها الدَّهْرُ غيرَ حُشاشَة ٍ | كأنَّ خَفاها، في صُدورِ النُّهى كَتْمُ |
فإنْ ذكرتْ في الحيِّ أصبحَ أهلهُ | نشاوى ولا عارٌ عليهمْ ولا إثمُ |
ومنْ بينِ أحشاءِ الدِّنانِ تصاعدتْ | ولم يَبْقَ مِنْها، في الحَقيقَة ِ، إلاّ اسمُ |
وإنْ خَطَرَتْ يَوماً على خاطِرِ امرِىء ٍ | أقامَتْ بهِ الأفْراحُ، وارتحلَ الهَمُ |
ولو نَظَرَ النُّدمانُ ختْمَ إنائِها، | لأسكرهمْ منْ دونها ذلكَ الختمُ |
ولو نَضَحوا مِنها ثَرى قَبْرِ مَيتٍ، | لعادَتْ إليهِ الرُّوحُ، وانْتَعَشَ الجسْمُر |
ولو طرحوا في فئِ حائطِ كرمها | عليلاً وقدْ أشفى لفارقهُ السُّقمُ |
ولوْ قرَّبوا منْ حلها مقعداً مشى | وتنطقُ منْ ذكري مذاقتها البكمُ |
ولوْ عبقتْ في الشَّرقِ أنفاسُ طيبها | وفي الغربِ مزكومٌ لعادَ لهُ الشَّمُّ |
ولوْ خضبتْ منْ كأسها كفُّ لامسٍ | لما ضلَّ في ليلٍ وفي يدهِ النَّجمُ |
ولوْ جليتْ سرَّاً على أكمهٍ غداً | بصيراً ومنْ راو وقها تسمعُ الصُّمُّ |
ولو أنّ ركْباً يَمّمَوا تُرْبَ أرْضِها، | وفي الرَّكبِ ملسوعٌ لماضرَّهُ السمُّ |
ولوْ رسمَ الرَّقي حروفَ اسمها على | جبينِ مصابٍ جنَّ أبرأهُ الرَّسمُ |
وفوقَ لِواء الجيشِ لو رُقِمَ اسمُها، | لأسكرَ منْ تحتَ الِّلوا ذلكَ الرَّقمُ |
تُهَذّبُ أخلاقَ النّدامى ، فيَهْتَدي، | بها لطريقِ العزمِ منْ لالهُ عزمُ |
ويَكْرُمُ مَنْ لم يَعرِفِ الجودَ كَفُّهُ، | ويَحلُمُ، عِندَ الغيظِ، مَن لا لَهُ حِلْمُ |
ولو نالَ فَدْمُ القَوْمِ لَثْمَ فِدامِها، | لَأكسَبَهُ مَعنى شَمائِلِها اللّثْمُ |
يقولونَ لي صفها فأنتَ بوصفها | خَبيرٌ، أجَلْ! عِندي بأوصافِها عِلْمُ |
صفاءٌ، ولا ماءٌ، ولُطْفٌ، ولاهَواً، | ونورٌ ولا نارٌ وروحٌ ولا جسمُ |
تقدَّمَ كلَّ الكائناتِ حديثها | قديماً، ولا شَكلٌ هناكَ، ولا رَسْمُ |
وقامَتْ بِها الأشْياءُ، ثَمّ، لحِكْمَة ٍ، | بها احتجبتْ عنْ كلِّ منْ لالهُ فهمُ |
وهامتْ بها روحي بحيث تمازجا اتّـ | حاداً ولا جرمٌ تخلَّلهُ جرمُ |
وكَرْمٌ ولا خَمْرٌ، ولي أُمُّها أُمُّ | وكرمٌ ولا خمرٌ وفي أمِّها أمُّ |
ولُطْفُ الأواني، في الحَقيقَة ِ، تابِعٌ | للطفِ المعاني والمعاني بها تنمو |
وقدْ وقَعَ التَّفريقُ، والكُلُّ واحِدٌ، | فأرواحنا خمرٌ وأشباحنا كرمُ |
ولا قبلها قبلٌ ولا بعدَ بعدها | وقبليَّة ُ الأبعادِ فهيَ لها حتمُ |
وعَصْرُ المَدى منْ قَبْلِهِ كان عصْرها، | وعهدُ أبينا بعدها ولها اليتمُ |
محاسِنُ، تَهْدي المادِحينِ لِوَصْفِها، | فَيَحسُنُ فيها مِنهمُ النَّثرُ والنّظمُ |
ويَطرَبُ مَن لم يَدرِها، عندَ ذِكرِها، | كمُشْتاقِ نُعْمٍ، كلّما ذُكِرَتْ نُعْمُ |
وقالوا شربتَ الإثمَ كلاَّ وإنَّما | شَرِبتُ التي، في تَرْكِها، عندي الإثمُ |
هنيئاً لأهلِ الديرِ كمْ سكروا بها | وما شربوا منها ولكنَّهمْ همُّوا |
وعنديَ منها نشوة ٌ قبلَ نشأتي | معي أبداً تبقي وإنْ بلى َ العظمُ |
عليكَ بها صرفاً وإنْ شئتَ مزجها | فعدلكَ عنْ ظلمِ الحبيبِ هوَ الظُّلمُ |
فدونَكَها في الحانِ، واسْتَجلِها بهِ، | على نغمِ الألحانِ فهيَ بها غنمُ |
فما سَكَنَتْ والهَمّ، يوماً، بِمَوضِعٍ، | كذلِكَ لم يَسكُنْ، معَ النّغْمِ، الغَمُّ |
وفي سكرة ٍ منها ولو عمرَ ساعة ٍ | تَرى الدَّهْرَ عَبداً طائِعاً، ولَكَ الحُكْمُ |
فلا عيشَ في الدُّنيا لمنْ عاشَ صاحياً | ومنْ لمْ يمتْ سكراً بها فاتهُ الحزمُ |
على نفسهِ فليبكِ منْ ضاعَ عمرهُ | وليسَ لهُ فيها نصيبٌ ولا سهمُ |
الأحد، 4 أغسطس 2013
مدامة ابن الفارض
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق