الاثنين، 19 أغسطس 2013

كتابة الصاحب بن عبّاد


قلت لأبي عُبيد النصراني ببغداد، وكان سهل البلاغة حلو اللفظ، حسن الاقتضاب، غريب الإشارة، مليح الفصل والوصل: كيف ترى كتابة ابن عباد؟
فقال: هي شوهاء فيها شيء في غاية التنقيح، وفيها شيء في غاية الركاكة، وبينهما فُتور راكد، بمذاهب المعلمين الحمقى المتعاقلين أشبه منها بمذاهب السلف الأولين من الكتّاب وأصحاب الدواوين.
قال: السّجع الذي يَلْهَج به هو مما يقع في الكلام، ولكن ينبغي أن يكون كالطّراز في الثوب، والصَّنفة في الرداء، والخط في العَصب، والملح في الطّعام، والخال في الوجه؛ ولو كان الوجهُ كله خالاً لكان مقلياً.
قال: وبديعه في هذا الفن لا تُستَر ركاكته في سائر فنون الكلام، فإن فنون الكلام محصَّلة على التقريب بين البدَد والسجع والوزن، وما يُسمّيه قوم تجنيساً وتطبيقاً.
قال: ومنها شيء يجب أن يُسمّى المسلسل، وأمثلته في كلام أبي عُثمان موجودة، ثم قال: والذي ينبغي أن يُهجَر رأساً، ويُرغب عنهجُملة التكلُّف والإغلاق، واستعمال الغريب والعَويص، وما يستهلك المعنى أو يفسده أو يُحيله، ويجب أن يكون الغرض الأول في صحّة المعنى، والغرض الثاني في تخيّر اللفظ، والغرض الثالث في تسهيل النّظم وحلاوة التأليف، واجتلاب الرّونق، والاقتصاد في المواخاة، واستدامة الحال، ليستمر الثاني على الأول، والثالث على الثاني، وأن تتوفَّى الفضاء الذي يَعرض بين الفضل والفصل.
قلت: ما معنى الفَضاء؟ قال: عَدَم الرِّباط بين المتقدِّم والمتأخِّر، وهو النُّبُوُّ العارض في النَّفس عند سماعه وتحصيله.
قال: والهُجنة التي ليس بعدها هُجنة، والركاكة التي ليس فوقها ركاكة، الوَلوعُ بالغريب، وما يُشكل فيه الإعراب، ويتجاذبه التأويل؛ فإنَّ هذا وما شاكله كُلفة على النفس عند سماعه، ومؤونة على الطَّبع عند تخيّره، ومشقّة على اللّسان عند اللّفظ به.
ثم قال: فخَيْر الكلام - على هذا التصفُّح والتحصيل - ما أيّده العقل بالحقيقة، وساعده اللفظ بالرّقة، وكان له سهولة في السّمع، ووَقْع في النّفس، وعذوبة في القلب، ورَوْح في الصدر؛ إذا ورد لم يُحجب، وإذا صدر لم يُنْسَ، وإذا طال لم يُملّ، وإذا قصُر لك يُحقر، له غَنج كغنج العين، ودلّ كدلِّ الحبيب، ولذّة كلذّة الغِناء، وانقياد كانقياد الذّليل، وتيهٌ كتيه العزيز، وجَمْشٌ كجمش الغانية، ووقارٌ كوقار الشّيخ، وحلاوة كحلاوة العافية، ولينٌ كلين الصّيّب، وأخذٌ كأخذ الخمر، وولوجٌ كولوج النسيم، ووقعٌ كوقع القطر، وريحٌ كريح العِطر، واستواءٌ كاستواء السَّطر، وسبْكٌ كسبك التِّبر، يجمعُ لك بين الصّحة والبهجة والتّمام.
فأما صحته فمن جهة شهادة العقل بالصواب، وأما بهجته فمن جهة جوْهر اللّفظ، واعتدال القسمة، وأما تمامه فمن جهة النّظر الذي يستعير من النفس شغفها، ويستثير من الرُّوح كَلَفها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق