بسم الله الرحمن الرحيم
أصلح الله أمركم , وجمع شملكم , وعلمكم الخير , وجعلكم من أهله.
قال الأحنف بن قيس: يا معشر بني تميم لا تسرعوا إلى الفتنة فإن أسرع الناس إلى القتال أقلهم حياء من الفرار ؛ وقد كانوا يقولون: إذا أردت أن ترى العيوب جمة فتأمل عّياباً فإنه يعيب بفضل ما فيه من العيب, وأول العيب أن تعيب ما ليس بعيب, وقبيح أن تنهى عن مرشد أو تغري بمشفق , وما أردنا بما قلنا إلا هدايتكم وتقويمكم وإلا إصلاح فسادكم , وإبقاء النعمة عليكم , ولئن أخطأنا سبيل إرشادكم فما أخطأنا سبيل حسن النية فيما بيننا وبينكم.
ثم قد تعلمون أنا ما أوصيناكم إلا بما قد اخترناه لأنفسنا قبلكم وشهرنا به في الآفاق دونكم, فما أحقكم في تقديم حرمتنا بكم أن ترعوا حق قصدنا بذلك إليكم وتنبيهنا على ذكر العيوب براً وفضلاً لرأينا أن في أنفسنا عن ذلك شغلاً, وإن من أعظم الشقوة وأبعد من السعادة أن لا يزال يتذكر زلل المعلمين ويتناسى سوء استماع المتعلمين ,ويستعظم غلط العاذلين ولا يحفل بتعمد المعذولين.
عبتموني بقولي لخادمي: أجيدي عجنه خميراً كما أجدته فطيراً ليكون أطيب لطعمه وأزيد في ريعه ؛ وقد قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه ورحمه - لأهله: أملكوا العجين فإنه أريع الطحنتين.
وعبتم علّيَ قولي: من لم يعرف مواقع السرف في الموجود الرخيص لم يعرف مواقع الاقتصاد في الممتنع الغالي؛ فلقد أتيت من ماء الوضوء بكيلة يدل حجمها على مبلغ الكفاية وأشف من الكفاية, فلما صرت إلى تفريق أجزائه على الأعضاء , وإلى التوفير عليها من وظيفة الماء , وجدت في الأعضاء فضلاً على الماء , فعلمت أن لو كنت مكنت الاقتصاد في أوائله , ورغبت عن التهاون به في ابتدائه ؛ لخرج آخره على كفاية أوله ولكان نصيب العضو الأول كنصيب الآخر ؛ فعبتموني بذلك وشنعتموه بجهدكم وقبحتموه, وقد قال الحسن عند ذكر السرف: إنه ليكون في الماعونين الماء والكلإ, فلم يرض بذكر الماء حتى أردفه بالكلإ.
وعبتموني حين ختمت على سد عظيم وفيه شيء ثمين من فاكهة نفيسة ومن رطبة غريبة على عبد نهم , وصبي جشع , وأمة لكعاء , وزوجة خرقاء؛ وليس من أصل الأدب, ولا في ترتيب الحكم , ولا في عادات القادة , ولا في تدبير السادة أن يستوي في نفيس المأكول وغريب المشروب وثمين الملبوس وخطير المركوب والناعم من كل فن واللباب من كل شكل التابع والمتبوع والسيد والمسود, كما لا تستوي مواضعهم في المجلس ومواقع أسمائهم في العنوانات وما يستقبلون به من التحيات؛ وكيف وهم لا يفقدون من ذلك ما يفقد القادر , ولا يكترثون له اكتراث العارف , من شاء أطعم كلبه الدجاج المسمن , وأعلف حماره السمسم المقشر؛ فعبتموني بالختم وقد ختم بعض الأئمة على مزود سويق, وختم على كيس فارغ وقال: طينة.
وعبتموني حين قلت للغلام: إذا زدت في الرق فزد في الإنضاج لتجمع بين التأدم باللحم والمرق ولتجمع مع الإرتفاق بالمرق الطيب , وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا طبختم لحماً فزيدوا في الماء فإن لم يصب أحدكم لحماً أصاب مرقاً ".
وعبتموني بخصف النعال وبتصدير القميص وحين زعمت أن المخصوفة أبقى وأوطأ وأوقى وأنفى للكبر وأشبه بالنسك وأن الترقيع من الحزم وأن الاجتماع مع الحفظ وأن التفرق مع التصنيع, وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يخصف نعله ويرقع ثوبه, ولقد لفقت سعدى بنت عواف إزار طلحة وهو جواد قريش وهو طلحة الفياض, وكان في ثوب عمر رقاع أدم, وقال: من لم يستحى من الخلال خفت مؤنته وقل كبره, وقالوا: لا جديد لمن لا يلبس الخلق, وبعث زياد رجلاً يرتاد له محدثاً واشترط على الرائد أن يكون عاقلاً مسدداً, فأتاه به موافقاً, فقال: أكنت ذا معرفة به قال: لا ولا رأيته قبل ساعته, قال: أفناقلته الكلام وفاتحته الأمور قبل أن توصله إلي؟ قال: لا, قال: فلم اخترته على جميع من رأيته؟ قال: يومنا يوم قائظ ولم أزل أتعرف عقول الناس بطعامهم ولباسهم في مثل هذا اليوم, ورأيت ثياب الناس جددا وثيابه لبسا فظننت به الحزم, وقد علمنا أن الخلق في موضعه مثل الجديد في موضعه, وقد جعل الله عز وجل لكل شيء قدرا وبوأ له موضعاً ؛ كما جعل لكل دهر رجالا ولكل مقام مقالا, وقد أحيا بالسم ومات بالغذاء وأغص بالماء وقتل بالدواء ؛ فترقيع الثوب يجمع مع الإصلاح التواضع, وخلاف ذلك يجمع مع الإسراف التكبر, وقد زعموا أن الإصلاح أحد الكسبين , كما زعموا أن قلة العيال أحد اليسارتين, وقد جبر الأحنف يد عنز, وأمر بذلك النعمان, وقال عمر: من أكل بيضة فقد أكل دجاجة, وقال رجل لبعض السادة: أهدي إليك دجاجة فقال: إن كان لا بد فاجعلها بياضة, وعد أبو الدرداء العراق حر البهيمة.
وعبتموني حين قلت: لا يغترن أحد بطول عمره وتقيس ظهره ورقة عظمه ووهن قوته أن يرى أكرومته ولا يحرجه ذلك إلى إخراج ماله من يديه وتحويله إلى ملك غيره وإلى تحكيم السرف فيه وتسليط الشهوات عليه فلعله أن يكون معمراً وهو لا يدري وممدوداً له في السن وهو لا يشعر, ولعله أن يرزق الولد على اليأس أو يحدث عليه بعض خبآت الدهور مما لا يخطر على البال ولا تدركه العقول فيسترده ممن لا يرده ويظهر الشكوى إلى من لا يرحمه أضعف ما كان عن الطلب واقبح ما يكون به الكسب؛ فعبتموني بذلك وقد قال عمرو بن العاص: اعمل لدنياك عمل من يعيش أبدأ واعمل لآخرتك عمل من يموت غداً, وعبتموني حين زعمت أن التبذير إلى أن التبذير إلى مال القمار ومال الميراث وإلى مال الالتقاط وحباء الملوك أسرع وأن الحفظ إلى المال المكتسب والغنى المجتلب وإلى ما يعرض فيه لذهاب الدين واهتضام العرض ونصب البدن واهتمام القلب أسرع وأن من لم يحسب ذهاب نفقته لم يحسب دخله ومن لم يحسب الدخل فقد أضاع الأصل , وأن من لم يعرف للغنى قدره فقد أذن بالفقر وطاب نفساً بالذل. وزعمت أن كسب الحلال مضمن بالإنفاق في الحلال وأن الخبيث ينزع إلى الخبيث وأن الطيب يدعو إلى الطيب وأن الإنفاق في الهوى حجاب دون الحقوق وأن الإنفاق في الحقوق حجاز دون الهوى, فعبتم على هذا القول, وقد قال معاوية: لم أر تبذيراً قط إلا وإلى جانبه حق مضيع, وقد قال الحسن: إذا أردتم أن تعرفوا من أين أصاب ماله فانظروا في أي شيء ينفقه فإن الخبيث ينفق في السرف.
وقلت لكم بالشفقة مني عليكم وبحسن النظر لكم وبحفظكم لآبائكم ولما يجب في جواركم وفي ممالحتكم وملابستكم: أنتم في دار الآفات والجوائح غير مأمونات حنيفة من طريق فإن أحاطت بمال أحدكم آفة لم يرجع إلى بقية فأحرزوا النعمة باختلاف الأمكنة حنيفة من طريق فإن البلية لا تجري في الجميع إلا مع موت الجميع, وقد قال عمر - رضي الله عنه - في العبد والأمة وفي ملك الشاة والبعير وفي الشيء الحقير اليسير: فرقوا بين المنايا, وقال ابن سيرين لبعض البحريين: كيف تصنعون بأموالكم قال: نفرقها في السفن فإن عطب بعض سلم بعض, ولولا أن السلامة أكثر لما حملنا خزائننا في البحر, قال ابن سيرين: تحسبها خرقاء وهي صناع.
وقلت لكم عند إشفاقي عليكم: إن للغنى سكراً وإن للمال لنزوةً, فمن لم يحفظ الغنى من سكر العنى فقد أضاعه ومن لم يرتبط المال بخوف الفقر فقد أهمله, فعبتموني بذلك, وقال زيد بن جبلة: ليس أحد أفقر من غني أمن الفقر, وسكر الغنى أشد من سكر الخمر.
وقلتم: قد لزم الحث على الحقوق والتزهيد في الفضول حتى صار يستعمل ذلك في أشعاره بعد رسائله وفي خطبه بعد سائر كلامه, فمن ذلك قوله في يحيى بن خالد:
عدو تلاد المال فيما ينوبه **
منوع إذا ما منعه كان أحزما ..
ومن ذلك قوله في محمد بن زياد:
وخليقتان: تقى وفضلُ تحرمٍ **
وإهانة في حقه للمالِ ..
وعبتموني حين زعمت أني أقدم المال على العلم لأن المال به يغاث العالم وبه تقوم النفوس قبل أن تعرف فضيلة العلم وأن الأصل أحق بالتفضيل من الفرع وأني قلت: وإن كنا نستبين الأمور بالنفوس فإنا بالكفاية نستبين وبالخلة نعمى, وقلتم: وكيف تقول هذا وقد قيل لرئيس الحكماء ومقدم الأدباء: آلعلماء أفضل أم الأغنياء قال: بل العلماء. قيل: فما بال العلماء يأتون أبواب الأغنياء أكثر مما يأتي الأغنياء أبواب العلماء قال: لمعرفة العلماء بفضل الغنى ولجهل الأغنياء بفضل العلم, فقلت: حالهما هي القاضية بينهما, وكيف يستوي شيء ترى حاجة الجميع إليه وشيء يغي بعضهم فيه عن بعض ؟!
وعبتموني حين قلت: إن فضل الغني على القوت إنما هو كفضل الآلة حنيفة الدار إن احتيج إليها استعملت وإن استغنى عنها كانت عدة, وقد قال الحضين بن المنذر: وددت أن لي مثل أحد ذهباً لا أنتفع منه بشيء, قيل: فما ينفعك من ذلك قال: لكثرة من يخدمني عليه, وقال أيضاً: عليك بطلب الغنى فلو لم يكن لك فيه إلا أنه عز في قلبك وذل في قلب غيرك لكان الحظ فيه جسيماً والنفع فيه عظيماً.
ولسنا ندع سيرة الأنبياء وتعليم الخلفاء وتأديب الحكماء لأصحاب الأهواء:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر الأغنياء باتخاذ الغنم والفقراء باتخاذ الدجاج, وقال: " درهمك لمعاشك ودينك لمعادك ", فقسموا الأمور كلها على الدين والدنيا, ثم جعلوا أحد قسمي الجميع الدرهم, وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: إني لأبغض أهل البيت ينفقون رزق الأيام في اليوم, وكانوا يبغضون أهل البيت اللحمين, وكان هشام يقول: ضع الدرهم على الدرهم يكون مالاً, ونهى أبو الأسود الدؤلي وكان حكيماً أديباً وداهياً أريباً عن جودكم هذا المولد وعن كرمكم هذا المستحدث فقال لابنه: إذا بسط الله لك الرزق فابسط وإذا قبض فاقبض, ولا تجاود الله فإن الله أجود منك, وقال: درهم من حل يخرج في حق خير من عشرة آلاف قبضاً, وتلقط عرنداً من بزيم فقال: تضيعون مثل هذا وهو قوت امرئ مسلم يوماً إلى الليل, وتلقط أبو الدرداء حبات حنطة فنهاه بعض المسرفين فقال: ليهن ابن العبسية, إن مرفقة المرء رفقه في معيشته.فلستم علي تردون ولا رأي تفندون, فقدموا النظر قبل العزم, وتذكروا ما عليكم قبل أن تذكروا ما لكم, والسلام.
أصلح الله أمركم , وجمع شملكم , وعلمكم الخير , وجعلكم من أهله.
قال الأحنف بن قيس: يا معشر بني تميم لا تسرعوا إلى الفتنة فإن أسرع الناس إلى القتال أقلهم حياء من الفرار ؛ وقد كانوا يقولون: إذا أردت أن ترى العيوب جمة فتأمل عّياباً فإنه يعيب بفضل ما فيه من العيب, وأول العيب أن تعيب ما ليس بعيب, وقبيح أن تنهى عن مرشد أو تغري بمشفق , وما أردنا بما قلنا إلا هدايتكم وتقويمكم وإلا إصلاح فسادكم , وإبقاء النعمة عليكم , ولئن أخطأنا سبيل إرشادكم فما أخطأنا سبيل حسن النية فيما بيننا وبينكم.
ثم قد تعلمون أنا ما أوصيناكم إلا بما قد اخترناه لأنفسنا قبلكم وشهرنا به في الآفاق دونكم, فما أحقكم في تقديم حرمتنا بكم أن ترعوا حق قصدنا بذلك إليكم وتنبيهنا على ذكر العيوب براً وفضلاً لرأينا أن في أنفسنا عن ذلك شغلاً, وإن من أعظم الشقوة وأبعد من السعادة أن لا يزال يتذكر زلل المعلمين ويتناسى سوء استماع المتعلمين ,ويستعظم غلط العاذلين ولا يحفل بتعمد المعذولين.
عبتموني بقولي لخادمي: أجيدي عجنه خميراً كما أجدته فطيراً ليكون أطيب لطعمه وأزيد في ريعه ؛ وقد قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه ورحمه - لأهله: أملكوا العجين فإنه أريع الطحنتين.
وعبتم علّيَ قولي: من لم يعرف مواقع السرف في الموجود الرخيص لم يعرف مواقع الاقتصاد في الممتنع الغالي؛ فلقد أتيت من ماء الوضوء بكيلة يدل حجمها على مبلغ الكفاية وأشف من الكفاية, فلما صرت إلى تفريق أجزائه على الأعضاء , وإلى التوفير عليها من وظيفة الماء , وجدت في الأعضاء فضلاً على الماء , فعلمت أن لو كنت مكنت الاقتصاد في أوائله , ورغبت عن التهاون به في ابتدائه ؛ لخرج آخره على كفاية أوله ولكان نصيب العضو الأول كنصيب الآخر ؛ فعبتموني بذلك وشنعتموه بجهدكم وقبحتموه, وقد قال الحسن عند ذكر السرف: إنه ليكون في الماعونين الماء والكلإ, فلم يرض بذكر الماء حتى أردفه بالكلإ.
وعبتموني حين ختمت على سد عظيم وفيه شيء ثمين من فاكهة نفيسة ومن رطبة غريبة على عبد نهم , وصبي جشع , وأمة لكعاء , وزوجة خرقاء؛ وليس من أصل الأدب, ولا في ترتيب الحكم , ولا في عادات القادة , ولا في تدبير السادة أن يستوي في نفيس المأكول وغريب المشروب وثمين الملبوس وخطير المركوب والناعم من كل فن واللباب من كل شكل التابع والمتبوع والسيد والمسود, كما لا تستوي مواضعهم في المجلس ومواقع أسمائهم في العنوانات وما يستقبلون به من التحيات؛ وكيف وهم لا يفقدون من ذلك ما يفقد القادر , ولا يكترثون له اكتراث العارف , من شاء أطعم كلبه الدجاج المسمن , وأعلف حماره السمسم المقشر؛ فعبتموني بالختم وقد ختم بعض الأئمة على مزود سويق, وختم على كيس فارغ وقال: طينة.
وعبتموني حين قلت للغلام: إذا زدت في الرق فزد في الإنضاج لتجمع بين التأدم باللحم والمرق ولتجمع مع الإرتفاق بالمرق الطيب , وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا طبختم لحماً فزيدوا في الماء فإن لم يصب أحدكم لحماً أصاب مرقاً ".
وعبتموني بخصف النعال وبتصدير القميص وحين زعمت أن المخصوفة أبقى وأوطأ وأوقى وأنفى للكبر وأشبه بالنسك وأن الترقيع من الحزم وأن الاجتماع مع الحفظ وأن التفرق مع التصنيع, وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يخصف نعله ويرقع ثوبه, ولقد لفقت سعدى بنت عواف إزار طلحة وهو جواد قريش وهو طلحة الفياض, وكان في ثوب عمر رقاع أدم, وقال: من لم يستحى من الخلال خفت مؤنته وقل كبره, وقالوا: لا جديد لمن لا يلبس الخلق, وبعث زياد رجلاً يرتاد له محدثاً واشترط على الرائد أن يكون عاقلاً مسدداً, فأتاه به موافقاً, فقال: أكنت ذا معرفة به قال: لا ولا رأيته قبل ساعته, قال: أفناقلته الكلام وفاتحته الأمور قبل أن توصله إلي؟ قال: لا, قال: فلم اخترته على جميع من رأيته؟ قال: يومنا يوم قائظ ولم أزل أتعرف عقول الناس بطعامهم ولباسهم في مثل هذا اليوم, ورأيت ثياب الناس جددا وثيابه لبسا فظننت به الحزم, وقد علمنا أن الخلق في موضعه مثل الجديد في موضعه, وقد جعل الله عز وجل لكل شيء قدرا وبوأ له موضعاً ؛ كما جعل لكل دهر رجالا ولكل مقام مقالا, وقد أحيا بالسم ومات بالغذاء وأغص بالماء وقتل بالدواء ؛ فترقيع الثوب يجمع مع الإصلاح التواضع, وخلاف ذلك يجمع مع الإسراف التكبر, وقد زعموا أن الإصلاح أحد الكسبين , كما زعموا أن قلة العيال أحد اليسارتين, وقد جبر الأحنف يد عنز, وأمر بذلك النعمان, وقال عمر: من أكل بيضة فقد أكل دجاجة, وقال رجل لبعض السادة: أهدي إليك دجاجة فقال: إن كان لا بد فاجعلها بياضة, وعد أبو الدرداء العراق حر البهيمة.
وعبتموني حين قلت: لا يغترن أحد بطول عمره وتقيس ظهره ورقة عظمه ووهن قوته أن يرى أكرومته ولا يحرجه ذلك إلى إخراج ماله من يديه وتحويله إلى ملك غيره وإلى تحكيم السرف فيه وتسليط الشهوات عليه فلعله أن يكون معمراً وهو لا يدري وممدوداً له في السن وهو لا يشعر, ولعله أن يرزق الولد على اليأس أو يحدث عليه بعض خبآت الدهور مما لا يخطر على البال ولا تدركه العقول فيسترده ممن لا يرده ويظهر الشكوى إلى من لا يرحمه أضعف ما كان عن الطلب واقبح ما يكون به الكسب؛ فعبتموني بذلك وقد قال عمرو بن العاص: اعمل لدنياك عمل من يعيش أبدأ واعمل لآخرتك عمل من يموت غداً, وعبتموني حين زعمت أن التبذير إلى أن التبذير إلى مال القمار ومال الميراث وإلى مال الالتقاط وحباء الملوك أسرع وأن الحفظ إلى المال المكتسب والغنى المجتلب وإلى ما يعرض فيه لذهاب الدين واهتضام العرض ونصب البدن واهتمام القلب أسرع وأن من لم يحسب ذهاب نفقته لم يحسب دخله ومن لم يحسب الدخل فقد أضاع الأصل , وأن من لم يعرف للغنى قدره فقد أذن بالفقر وطاب نفساً بالذل. وزعمت أن كسب الحلال مضمن بالإنفاق في الحلال وأن الخبيث ينزع إلى الخبيث وأن الطيب يدعو إلى الطيب وأن الإنفاق في الهوى حجاب دون الحقوق وأن الإنفاق في الحقوق حجاز دون الهوى, فعبتم على هذا القول, وقد قال معاوية: لم أر تبذيراً قط إلا وإلى جانبه حق مضيع, وقد قال الحسن: إذا أردتم أن تعرفوا من أين أصاب ماله فانظروا في أي شيء ينفقه فإن الخبيث ينفق في السرف.
وقلت لكم بالشفقة مني عليكم وبحسن النظر لكم وبحفظكم لآبائكم ولما يجب في جواركم وفي ممالحتكم وملابستكم: أنتم في دار الآفات والجوائح غير مأمونات حنيفة من طريق فإن أحاطت بمال أحدكم آفة لم يرجع إلى بقية فأحرزوا النعمة باختلاف الأمكنة حنيفة من طريق فإن البلية لا تجري في الجميع إلا مع موت الجميع, وقد قال عمر - رضي الله عنه - في العبد والأمة وفي ملك الشاة والبعير وفي الشيء الحقير اليسير: فرقوا بين المنايا, وقال ابن سيرين لبعض البحريين: كيف تصنعون بأموالكم قال: نفرقها في السفن فإن عطب بعض سلم بعض, ولولا أن السلامة أكثر لما حملنا خزائننا في البحر, قال ابن سيرين: تحسبها خرقاء وهي صناع.
وقلت لكم عند إشفاقي عليكم: إن للغنى سكراً وإن للمال لنزوةً, فمن لم يحفظ الغنى من سكر العنى فقد أضاعه ومن لم يرتبط المال بخوف الفقر فقد أهمله, فعبتموني بذلك, وقال زيد بن جبلة: ليس أحد أفقر من غني أمن الفقر, وسكر الغنى أشد من سكر الخمر.
وقلتم: قد لزم الحث على الحقوق والتزهيد في الفضول حتى صار يستعمل ذلك في أشعاره بعد رسائله وفي خطبه بعد سائر كلامه, فمن ذلك قوله في يحيى بن خالد:
عدو تلاد المال فيما ينوبه **
منوع إذا ما منعه كان أحزما ..
ومن ذلك قوله في محمد بن زياد:
وخليقتان: تقى وفضلُ تحرمٍ **
وإهانة في حقه للمالِ ..
وعبتموني حين زعمت أني أقدم المال على العلم لأن المال به يغاث العالم وبه تقوم النفوس قبل أن تعرف فضيلة العلم وأن الأصل أحق بالتفضيل من الفرع وأني قلت: وإن كنا نستبين الأمور بالنفوس فإنا بالكفاية نستبين وبالخلة نعمى, وقلتم: وكيف تقول هذا وقد قيل لرئيس الحكماء ومقدم الأدباء: آلعلماء أفضل أم الأغنياء قال: بل العلماء. قيل: فما بال العلماء يأتون أبواب الأغنياء أكثر مما يأتي الأغنياء أبواب العلماء قال: لمعرفة العلماء بفضل الغنى ولجهل الأغنياء بفضل العلم, فقلت: حالهما هي القاضية بينهما, وكيف يستوي شيء ترى حاجة الجميع إليه وشيء يغي بعضهم فيه عن بعض ؟!
وعبتموني حين قلت: إن فضل الغني على القوت إنما هو كفضل الآلة حنيفة الدار إن احتيج إليها استعملت وإن استغنى عنها كانت عدة, وقد قال الحضين بن المنذر: وددت أن لي مثل أحد ذهباً لا أنتفع منه بشيء, قيل: فما ينفعك من ذلك قال: لكثرة من يخدمني عليه, وقال أيضاً: عليك بطلب الغنى فلو لم يكن لك فيه إلا أنه عز في قلبك وذل في قلب غيرك لكان الحظ فيه جسيماً والنفع فيه عظيماً.
ولسنا ندع سيرة الأنبياء وتعليم الخلفاء وتأديب الحكماء لأصحاب الأهواء:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر الأغنياء باتخاذ الغنم والفقراء باتخاذ الدجاج, وقال: " درهمك لمعاشك ودينك لمعادك ", فقسموا الأمور كلها على الدين والدنيا, ثم جعلوا أحد قسمي الجميع الدرهم, وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: إني لأبغض أهل البيت ينفقون رزق الأيام في اليوم, وكانوا يبغضون أهل البيت اللحمين, وكان هشام يقول: ضع الدرهم على الدرهم يكون مالاً, ونهى أبو الأسود الدؤلي وكان حكيماً أديباً وداهياً أريباً عن جودكم هذا المولد وعن كرمكم هذا المستحدث فقال لابنه: إذا بسط الله لك الرزق فابسط وإذا قبض فاقبض, ولا تجاود الله فإن الله أجود منك, وقال: درهم من حل يخرج في حق خير من عشرة آلاف قبضاً, وتلقط عرنداً من بزيم فقال: تضيعون مثل هذا وهو قوت امرئ مسلم يوماً إلى الليل, وتلقط أبو الدرداء حبات حنطة فنهاه بعض المسرفين فقال: ليهن ابن العبسية, إن مرفقة المرء رفقه في معيشته.فلستم علي تردون ولا رأي تفندون, فقدموا النظر قبل العزم, وتذكروا ما عليكم قبل أن تذكروا ما لكم, والسلام.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق