السبت، 2 نوفمبر 2013

الـ"هيمبا" في صحراء "كأوكلاند"


الـ"هيمبا" في صحراء "كأوكلاند"

يعبرون جسر" الطقوس" الى... الأجداد

الموتى, في قبيلة "هيمبا", لا يرحلون نهائيا من الحياة اذ انهم يتحولون من أحياء يساهمون في حياة الآخرين الى قوة تحل في نشاطات القبيلة, وتبارك الأعمار. فللموتى حرمة لا تمس, وقبيلة "هيمبا" تستنجد بموتاها للاستمرار في حياة هادئة, والا سقط افرادها في تيه, واصابتهم لعنة الأجداد.

فمن هي هذه القبيلة التي تترك للأسلاف ان يكتبوا مصيرها؟

في ناميبيا المتاخمة لجنوب افريقيا, وأنغولا, والمحيط الاطلسي, تعيش قبيلة" الهيمبا", في صحراء "كأوكلاند", حياتها على هامش الحضارات لتمارس حضارتها الخاصة. يتناثرون في الصحراء كالبدو. ينتقلون من مكان الى آخر, بحثا عن الماء, والكلأ, وممارسة حياة وطقوس تلفت النظر ببدائيتها, وبتنظيمها في آن فلا محل, في حياتهم, للعبث, كل شيئ متقن, مقعد, نابع من طقوس تمارس بدقة حتى في ادق التفاصيل. وحياتهم في صحراء قاحلة جعلتهم يعتمدون على الحيوان في حياتهم, ولكن الحيوان عندهم ليس سفينة الصحراء كالجمل, ولكنه ذو صلة عميقة بحياتهم الروحية, وحياتهم الاجتماعية. ومن لا قطيع له يحيا كالمقطوع, ويعيش ذليلا, يقتات من الصيد وبعض الثمار البرية.

شعب"الهيمبا" يستمد استمرارية وجوده من القطيع الذي يملكه, وسبق له, من زمن بعيد, ان فقد كل قطيعه اثر غزو وغارات متلاحقة من قبائل أخرى تدعى"ناما" ففر باجساده العارية, الى أنغولا يعيش في كنف قبائل أخرى, وكانت فترة النفي هذه اقسى الفترار, حيث تشكل اسمهم الحالي بعد ان كانوا فخذا من قبيلة أخرى هي الـ "هيرورو", ولكن غلب عليهم لقب "هيمبا" ومعناه "الشحاذون" خلال فترة نفيهم لأنهم عاشو بلا قطيع, الى ان جاء مخلصهم "فيتا" الذي أعاد اليهم قطيعهم, وأسمالهم الروحي والارضي, واسترد لهم ارضهم فاستعادوا علاقتهم بأجدادهم الذين يمنحونهم الخصب الروحي.

ويعيشون ضمن مجموعات صغيرة, لا يتعدى حجم المجنوعة خمسين شخصا, وكل مجموعة تبني قريتها المؤقتة, ومستقرها الآني في شكل دائري يسمى بالـ"كراعال" والكراعال في الأصل هو اسم الحظيرة التي تحتضن قطعانهم. يخصص الوسط للحظيرة وتنتثر حوله الأكواخ التي تشيد بالاغصان ثم تغلف بالطين المعجون بروث البقر والماعز والاغنام. واما شيخ القبيلة, او القرية, فأنه يبني داره بمواجهة باب الحظيرة, ويخصص المكان الفاصل بين كوخه وباب الحظيرة للنار المقدسة حيث لا يقوم اي طقس ديني دون تواجد النار "تشكل المنطقة المؤلفة من هذا الثالوث المنطقة المقدسة. فالنار جزء من طقوسهم واحتفالاتهم ومباهجهم, وألسنة اللهب ليست ألسنة خرساء انما هي ألسنة تخاطب الأرواح غير المرئية, وتستدعي الأجداد للمساعدة وشد الأزر. واشعالها يتم وفق شعائر خاصة, ويقوم بها رئيس القرية, وهي تتولد من احتكاك قطعتي خشب. ولا يجوز للنار ان تنطفئ. لأن انطفاؤها نذير بالشؤم, ويعتبر مساسا بأرواح الاجداد وقد تصاب القرية كلها, من جرء هذه اللامبالاة, بلعنة الاجداد ونقمتهم وفضلا عن النار المقدسة فهناك اشياء عدة تضاف الى الطقوس او تكون جزءا منها كالطاسة"الخشبية" التي يستعملها رئيس القرية حين يريد لفت انتباه الاجداد لطلب مشورتهم, يملأ رئيس القبيلة هذه الطاسة بالماء وبعض اوراق شجرة"موبان" اي "الشجرة- الفراشة" فيرتشف رشفة ثم يبصقها بعد ان "يتمخمض" بها. وزوجته, عادة, هي المسؤولة عن كل الأواني الطقسية, كما انها مسؤولة عن ابقاء النار مشتعلة.

الحيوان همزة وصل ودليل روحي. والبقرة ذات مضمون ديني, مهني دليل الموتى الى مقر ارواح الاجداد, وما يذبح على ذريح ميت يعبر كذلك عن ىقيمة الميت وغناه. وحين يموت رئيس القبيلة يأتي الرئيس الجديد ببقرة فيحز أذنها بالقرب من الضريح الموجود بعيدا عن القرية ويهديها للارواح, ثم يسقي التراب بالحليب حتى يساعد الميت في الوصول الى مأوى أرواح الاجداد, وحين يتم الطقس يعود الى القرية قاصدا النار فيرش عليها بعض الحليب مثل ان يوزع ما تبقى على نسل الميت.

حياة الـ"الهيمبا" كأغلب القبائل المتناثرة في افريقيا تقوم على اعتناق السحر وممارسة التنجيم. ولكنهم يمتازون عن غيرهم بممارسة تقليد نادرا ما نجده عند غيرهم, ويتلخص هذا التقليد في ان الكاهن الذي يقرأ مصير القرية, يعمد الى عنزة مقتولة, او بقرة ضحى بها ويبدأ في قراءة اشياء لا يجد فيها الانسان العادي اي قدرة تعبيرية, وهذا التقليد شبيه الى حد كبير بقراءة فناجين القهوة عند الشعوب الشرقية ولكن الكاهن في قبيلة"هيمبا" يقراء احشاء الحيوانات, والكاهن غاليا ما يكون امرأة "عجوز" تدني عينيها من امعاء البهيمة المقتولة, وتقعد تتأمل, وتؤؤل, وتستنبط من الون الأحمر وخطوط المعدة اشياء الايام الآتية, تفك معاني الاحشاء معنى معنى وحرفا حرفا, ولا تقرأ الآتي فقط هي قادرة على كشف خبايا حدث ماض ترك أثره اللعين, من مرض أصاب شخصا من القرية, أو بقرة من القطيع لتزيله, وتفك المصاب من السحر وغيره, وهنا لا تعتمد الكاهنة على نفسها فحسب فلا بد من معاون لها خبير في اعطاء الوصفات الصالحة, وفي اي حال, فان شعب"هيمبا" ذو خبرة بالوصفات الطبية المستخلصة من الاعشاب والنباتات النادرة في الصحراء, فهناك ورق الموبان هذه الشجرة التي تدخل كعنصر مهم من عناصر حياتهم الروحية, ويستعمل ورق هذه الشجرة لايقاف النزيف, والساحر أو الذي يشفي الناس من امراض روحية وجسدية يستعين بكل النباتات ومنها ما هو قادر على استدعاء ارواح الاجداد ومنها ما يقوم بوظيفة سحرية كاستخلاص فريسة من فكي تمساح يعيش في نهر"كوتان" الوحيد في منطقتهم والذي يشكل الفاصل الجغرافي بين أنغولا وناميبيا.ولكن اكثر ما يلفت النظر في حياتهم هو وقتهم في تقعيد الاشياء, وفق منطق خاص بهم, بدائي وغني في آن معا, فالانسان لا ياتي اتفاقا, والطفل لا ينمو كيفما اتفق, فكل مرحلة من مراحل العمر ذات طقوس دينية, تختلف عن المرحلة الأخرى. وبين كل مرحلة واخرى جسر من الطقوس تقام حتى يعبر الانسان ضفة الى ضفة. فالمرأة الحبلى حين يجئ أوان الوضع تغادر القرية بصحبة امرأتين, ولان حرم القطيع, ولا يجب ان تتم الولادة داخل أسوار القرية والا فقدت المرأة انسانيتها وتحولت الى حيوان من حيوانات القطيع في نظر بقية اهل القرية. تحول في المعاملة لا في الشكل. وحين تتم الولادة تعود المرأة مع مولودها لتبدء احتفالات تطهيرية خاصة اذا ما اعتبرت الولادة سواءا يخشى منها , على افراد او على القطيع, كولادة توأمين مثلا. فالتوائم حالة مرعبة في حياة القبيلة, ينظر اليها على انها غضب الاجداد, فتلعن المرأة لكونها في معتقدهم حملت من رجلين في آن واحد. فيقوم اذ ذاك الساحر بصناعة أدوية هي خليط من الاعشاب والماء ويدهن بها كل اعضاء القرية, بما في ذلك القطيع او يكتفي بمسح خارج القرية, في حين ان المشيمة تدفن في مكان بعيد عن القرية. وبعد القيام بالطقوس التطهيرية تغسل المرأة من كل اثامها, وتشارك من جديد في حياة القبيلة. ولكن المرأة والطفل يبقيان في رعاية أرواح الاجداد الى ان يتم اختيار اسم للمولود الجديد, فالوليد بلا اسم يظل هشا, معرضا للسوء, ويبقى في المكان الملاصق لكوخ رئيس القبيلة والمخصص للشعائر.

اما الانتقال من الطفولة الى المراهقة فيمر كذلك بعدة طقوس منها ما يختلف حسب الجنس, ومنها ما يتشابه. فنزع الاسنان مثلا يشمل الفتى والفتاة, فعشية نزع الاسنان يقضي الاطفال ليلتهم في كوخ واحد برعاية الاجداد, وحين بزوغ الفجر يجتمع كل افراد القرية لمرافقة الاطفال الى جوار النار المقدسة لتشهد مع افراد القرية اجتياز الاطفال مرحلة الطفولة ويتوسل شيخ القرية الى الارواح التي تملئ فضاء القرية حتى يمر هذا الطقس دون الم كثير, ونزف كثيف, او التهابات ثم ينزع الثنايا الاربع من الفك الاسفل, في حين ان الثنايا العليا تشحذ وتبرد ولا بد للمراهق ان يظهر رباطة جأش, وجلدا واما الثنايا المستاصلة توضع في ورقة من شجر الموبان, وترمى بتجاه مكان الولادة.

وهناك طقس آخر, هو طقس الختان للذكور وهو يتم عادة في سن البلوغ, ولكنه توقيت نسبي, لان البلوغ غير محدد بالبلوغ الفعلي, بل الحاجة الى سواعد الاطفال هي التي تحتم التوقيت, حتى يشاركو الكبار في مسؤولياتهم وعادة يتم الختان في صورة جماعية, يجمعون الاطفال الذين سيجتازون عتبة طفولتهم بالقرب من مكان النار, ويخلعون البستهم, ثم يذهبون خارج القرية تحت ظل شجرة, حيث يتم الختان. ويبقى الاولاد ثلاثة ايام خارج القرية, وحين عودتهم تذبح لهم بعض الحيوانات وتقام الاحتفالات. اما الفتاة فأن الاحتفالات بها تكون حين البلوغ فردية الا في حال بلوغها الفعلي, فتذهب, حينذاك, الى المكان المخصص للشعائر وتبقى في حماية الاجداد الى حين مجيئ رفيقات لها يحملن الهدايا فرحا بها لأنها وصلت إلى سن الأنجاب أما الزواج فأنه لا يحدث بين الأقرباء, من جهة الأم والوصال الجسدي قد يتم في فترة الخطبة. وتقام احتفالات تذبح خلالها الذبائح, ويذوق رئيس القرية الحم احتراما للماشية المقدسة. وبعد الأفراح تنتقل المرأة إلى قرية زوجها لتمارس عاداته, وتحترم محرمات قريته. والمرأة بعد الزواج تعيش لقبيلة زوجها, ولجدها جوهر الذي يبدو غالبا كأنه منحوت من الصلصال بفضل أحجر الدم "الهيماتيت" والمرأة تشقى للحصول على هذا الجدر الذي يشكل جوهر زينتها, اذ أنها أحيانا تضطر للسير أياما عدة للوصول إلى منجم هذا الحجر ذي ألون المائل إلى الحمرة, حيث تطحنه وتخلطه بدهن البقر.. ثم تحتفظ به في جوف قرن من قرون البقر.. لتستعمله في المناسبات, فتمسح به جسدها كله.. وتقعد في الشمس.. فلا تدري أتمثال حجري قدامك ام تمثال من لحم ودم؟ والشعر أيضا لا يمشط كيفما اتفق.. فكل خصلة شعر تحمل دلالة اجتماعية, وتعرف أعمارهم من شعورهم. فالطفلة قبل البلوغ لا تحتفظ إلا بضفيرتين شعر تنسكبان على جبينها.. في حين ان الفتى له ضفيرة واحدة ترخى فوق القذال.. ويتغير العمر بتغير تصفيف الشعر فتكثر الضفائر الصغيرة وتنهمر على وجه الفتاة التي تبلغ سن الرشد. أما الفتى فأنه يقسم الضفيرة الى اثنتين حين يصل سن البلوغ. وفي احتفالات الزفاف فإن أول ما يتغير هو الشعر اذ يخضع العريس الى عملية خاصة بالشعر تأخذ وقتا طويلا, وتتطلب ايضا صبرا على وجع محتمل. فشعره ورشة عمل يشترك اكثر من واحد في تمشيطه ووضع نوه من الدهن الحار عليه. ثم يلف بعمامة الزواج. اما المرأة فإنها تضع بقعة على أعلى الرأس من جلد البقر المقدس حتى يكون زواجها مبرورا, ومباركا من قبل الأجداد وأي خطأ في تصفيف الشعر هو فأل سيئ ينعكس سلبا على حياة زوجية لم تبدأ بعد، أما العروس فأنها بعد الانتهاء من "طقس الشعر" تضع عقدا تتوسطه "صدفة الخصب" .

قبيلة "هيمبا" تعيش حضارتها الآن, او بالأحرى تعيش بدائيتها بقلق, لأنها تخاف على ذاتها وعاداتها من الانقراض بسبب تسرب حضارات الآخرين إلى شبابها, وتأثيرها عليهم.. ولكن الكبار, ما زالوا, رغم حرقة في الروح, يأملون مساندة الأجداد لهم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق