الخميس، 10 سبتمبر 2015

المدينة الفارغة













ثمّة رواية تاريخية صينيّة بعنوان "الممالك الثلاث"، كتبها " لْيُوْ كوَاْنْ تْشُوْنْغْ" في القرن الرابع عشر، وهي من الروائع الأدبية التي أنتجتها الإمبراطوريّة الصفراء. يقارنها البعض بالإلياذة اليونانيّة أو بالمهابهاراتا الهندية. وهي مترجمة إلى أكثر اللغات الغربيّة، ولكنّها لم تعرف بعد، للأسف، طريقها إلى لغة الضَّاد.
"الممالك الثلاث" رواية لا تنتمي إلى الأدب الشعبيّ ولا إلى الأدب الرسميّ، فهي تقيم على تخوم الأدبين، وثمّة تصنيف طريف، فيما يبدو، في الصين للأنواع الأدبيّة، وهو أنّ الرسميّ والشعبيّ على تماسّ حميم، بل إنّ كثيراً من القصائد الشعبيّة، تبوّأت على يد "كونفوشيوس" مقاماً عليّاً في كتاب "الأغاني".
الممتع في "الممالك الثلاث" أنها أشبه بتطبيق عمليّ وحَذِق لنظريّة الاستراتيجيّ القدير "صْوِنْ تزه" التي سردها في كتابه الفاتن "فنّ الحرب". والرواية ليست خرافيّة، أبطالها أناس عاشوا وكافحوا وحاربوا، وهي مليئة بصنوف الخدع الحربيّة، التي تحوّلت قوانينَ استراتيجيّةً، لا تزال صالحة، في غالبيتها، للحياة اليوميّة والتجاريّة وليس فقط الحربيّة، كما إنّ الرواية تمثّل بامتياز الروح الصينية في التعامل مع صنوف الأخطار.
بطل الرواية "تْشُوْ كُوْ لْيَاْنْغْ"( ومعناه نور العقل 诸葛亮 zhū gé/gě liàng) من مواليد القرن الثاني للميلاد) وهو سيّد التكتيك الحربيّ، واستراتيجيّ ماكر من طراز نادر. وثمّة حكاية في "الممالك الثلاث" تروي كيف أنّ "لْيَاْنْغْ" انتصر في لحظة كان من المستحيل الانتصار فيها. المعركة، ظاهريّاً، محسومة سلفاً، الخسارة واقعة لا محالة، ومع هذا يرى أن الانتصار ممكن، بفضل ما أوتيه من دهاء، والوسيلة هي زرع الشكّ في قلب الخصم، بلبلة ذهنه، زعزعة يقينيّاته، عدم تصديقه ما يرى! اظهر حقيقتك من غير أن تعلن أنّها حقيقتك. إنّ الخدعة أيّ خدعة تقوم على تمييع الحدود بين الظاهر والباطن، ومحو الفواصل بين الخفيّ والجليّ. إذا كنت ضعيفاً أظهر أنّك ضعيف فيظنّ البعض أنّ ضعفكَ خدعةٌ، أو فخّ، فيتعامل معك على أساسِ أنّك تبطن قوّة(رغم عدم وجودها). هذا جزء من فحوى فصل من رواية "الممالك الثلاث". وهي مليئة بالفصول الاستراتيجيّة المضمرة في تضاعيف سرد مشوّق وجذّاب.
المهارة تكمن في توصيل رسالة إلى عدوّك، مفادها أنّ الظاهر ليس بالضرورة هو الباطن، والأمر ليس سهلاً وليس ممتنعاً في آن. ونحن، إلى اليوم، لا نزال نسقط في فخّ المظهر الخلّب رغم أنّ باطنه، أحياناً، مسطّح وهشّ. حوصرت في إحدى المرّات مدينة الداهية " تْشُوْ كُوْ لْيَاْنْغْ"، حين كان جيشه خارج المدينة، وليس في الروح الصينيّة ولع بالعمليّات الانتحاريّة، العمليّات الانتحاريّة ليست، في عيني الصينيّ، بطولات مثمرة. ماذا يفعل "ليانغ" وهو محاصر أو على وشك أنْ يطبق عليه الحصار، وليس في المدينة إلاّ العجائز والصغار؟ هل يقاوم؟ أليست المقاومة، هنا، بطولة خاسرة لأنّها لن تبقي أحداً؟ أليس من الأفضل له تحويل عجزه إلى "وهم شرس" في عين عدوّه ؟ هل يستسلم؟ وفي الاستسلام مهانة لا تليق بحنكته المشهود له بها في كلّ الممالك الصينية. لقد اعتمد على استراتيجية "المدينة الفارغة"، ومفهوم "الفراغ" مفهومٌ مختلف عما هو مألوف لدينا.(كلمة "لا شيء" غير موجودة في اللغة الصينية!) الفراغ، في نظر الصينيّ، أهمّ من الامتلاء. الفراغ ليّن كالأفعى، سيّال كالماء، مطواع كالعجين أو كالتنّين. ولكنّ هذه الاستراتيجيّة هي بمثابة الملاذ الأخير حين لا تكون هناك أيّ وسيلة أخرى، لأنها تشبه اللعب بالنار. قام "ليانغ" الداهية بتنظيف المدينة وغسل شوارعها، وفتح بواباتها، وطلب من الباقين في المدينة الوقوف على الأبواب لاستقبال الغازي. ارتبك ذهن الخصم فهو، أوّلاً، يجهل أنّ المدينة خالية من الجنود، وهذا تعزيز لاستراتيجية ليانغ، وثانياً، إنّ فتح الأبواب لاستقباله قد لا يكون أكثر من ترحاب مخادع. هنا تحوّل الضعف علامة استفهام ملغومة، صارت الرسائل تصل إلى الخصم مشوّشة، غامضة النوايا، تقرأ طرداً وعكساً (رغم أنها واضحة تماماً!). صارت قراءتها الأولى تعني احتمال كونها فخّاً. ما الحلّ؟ خاف القائم بحصار المدينة من أن يكون محاصراً، شعر أنّ فتح الأبواب ظاهر خدّاع، (ولكنّه، في الواقع، ظاهر حقيقيّ!). وجد الخصم أنّه من الأسلم له أن لا يدنو من الأبواب، ويرضى من الغنيمة بالإياب!
يشير كاتب الرواية إلى أنّ هذه الاستراتيجية لا يمكن تطبيقها كيفما اتفق. العدوّ هو الذي يحدّد لك مسار استراتجيّتك اللينة المتعرّجة كمجرى نهر، وفعاليّة "استراتيجية المدينة الفارغة" تكون ناجعة مع خصم حذر. هنا تنقلب طبيعة الحذر الايجابية إلى طبيعة سلبية، خصوصاً أنّ الأشياء والمفاهيم كلّها، من وجهة نظر صينيّة، تشبه سحابة لا يرضيها أن تحبس في شكل واحد !

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق