الثلاثاء، 8 سبتمبر 2015

قرد حراسة


من المعروف أنّه حين تضاف كلمة " حراسة " إلى حيوان ما فإنّ الذهن يذهب أوّل ما يذهب إلى استحضار الكلب. فعبارة " كلب حراسة " ليست غريبة على السَّمْع حتّى باستخداماتها المجازيّة. أما الحيوانات الأخرى فليس من عاداتها تأدية مهمّة الحرّاس لدى الآدميين. ولا أعرف لماذا أتذكّر، هنا، فيلماً للأطفال عرض منذ عشر سنوات تقريباً في صالات السينما اللبنانية شاهدته برفقة ابنتي الصغيرة، كان بطله الرئيسيّ خنزيراً ينوب مناب الكلب في حراسة خراف أحد الرعاة، ويشارك الخنزير في مسابقة تقام في القرية عن أفضل كلب حراسة فينال الجائزة الأولى وسط تصفيق الرعيان وإعجابهم ببراعة الخنزير الذي تطبّع بطباع الكلاب!
ولكن ما أتناوله اليوم هو حكاية قرد قام بدور حارس دكّان. ولقد أخبرني هذه الحكاية صيّاد حكايات طاعن في السنّ وطاعن، أيضاً، في الخبرة. لم يسبق أن وقع نظري من قبلُ على نصّ يحكيها. تقول الحكاية إنّ أحد الباعة يملك قرداً، وكان بينه وبين قرده خبز وملح وعِشْرة عمر. كان هذا البائع يضطرّ أحياناً لمغادرة دُكّانه فوجد أنّه من الممكن تعليم القرد حراسة الدكّان في غيابه بدلاً من أن يغلقه وصار البائع يغادر الدُكّان ويتركه في عهدة القرد.
انتبه، ذات يوم، أحد اللصوص إلى وجود القرد بمفرده في المحلّ، واللصّ أحياناً لا يكون على عجلة من أمره، فالعجلة- كما يعرف اللصّ وغير اللصّ- من الشيطان. راح اللصّ، على مدى بضعة أيّام، يراقب صاحب المحل ليعرف مواعيد مغادرته، والمدّة التي يستغرقها الغياب، ثم اختار الفترة الأطول التي يغيب فيها البائع عن محلّه لتكون مسرح عملية السطو التي يخطّط لها، وفي الوقت المحدّد دخل ذلك اللصّ بوجه بشوش يقطر طيبةً ومحبةً وبساطةً حتّى ليظنّ من يراه أنّه من أولياء الله الصالحين. ابتسم اللصّ في وجه القرد ابتسامات تنمّ عن ودّ. وكلّنا يعرف ولع القرود في التقليد، فما كان من ذلك القرد إلاّ أن بادل اللصّ ابتساماً بابتسام، ثمّ سرعان ما بدأ ذلك الرجل بالتثاؤب ( والتثاؤب، كبعض الأمراض، يُعْدي) وراح القرد بدوره يتثاءب، وكان التثاؤب ينبت من بين ابتسامتين تخرجان من وجه اللص كلّه، ثمّ بدأت فترات الابتسام بالتقلّص وفترات التثاؤب بالازدياد. ظلّ الرجل يتثاءب والقرد يتثاءب إلى أن تشتّتت يقظة القرد ونسي أنّه يقلّد ذلك الرجل مجرّد تقليد لا غير. شعر القرد أنّ النعاس بدأ يدبّ في جفنيه وما هي إلاّ هنيهات حتى غلبه النوم واستغرق في سبات عميق، نام كأيّ جسد ميت من النعاس. وعلى رؤوس أصابع قدميه تقدّم اللصّ إلى دُرْج المال وسحب ما سحب ثم انسحب كالشعرة من العجين بلا حسّ ولا خبر.
عاد الرجل إلى محلّه وهو مطمئنّ لأنّه تركه برعاية عين أمينة لا يغمض لها طرْف وما إن وصل إلى الدكّان حتى رأى القرد في عالم آخر غير العالم الذي تركه فيه. وانتبه إلى دُرْج " الغلّة " المفتوح. هجم البائع على القرد وراح يضربه والقرد يقفز قفزاته المعروفة هرباً من ذلك الضَّرْب الذي لم يعرفْ له سبباً، فاليقظة المباغتة تتخلى عنها ذاكرتها ولو للحظات. وحين استعاد القرد ذاكرته ويقظته مرّ أمام عينيه شريط الأحداث التي سبقت النوم، وتألّم القرد لما أصاب صاحبه من خسارة كان هو مسبّبها.
تعلّم القرد من علامات الضرب على جلده أن لا ينام وأن لا يسمح لأحد أن يلعب بعينيه. مرّت الأيام ونسي الرجل مصابه و" عادت حليمة إلى عادتها القديمة " كما يقول المثل، أي عاد الرجل إلى ترك محلّه لفترات في عهْدة القرد.
استمرأ اللصّ فكرة تنويم القرد. فعاد مرّة ثانية إلى المحلّ بمقدّماته المعسولة إيّاها من ابتسام وبشاشة وجه ثمّ بدأ بإدراج تثاؤباته في طيّ ابتساماته وراح القرد بحكم التقليد يبادل اللصّ تثاؤباً بتثاؤب وابتساماً بابتسام وتذبيل عينين بتذبيل عينين وما إن مرّ وقت حتّى بدأ التثاؤب يأخذ مفعوله ولكن هذه المرّة في جفني اللصّ الذي نسي دوره اللصوصيّ وغلبه النعاس حتى سطا عليه سلطان النوم. القرد، فيما يبدو، لا يلدغ من جحْر مرتين! راح يتأمّل اللصّ النائم بعينين يقظتين من بعيد. لم يهجمْ عليه أو ينتقم منه، تركه يسترسل في نومه ومنامه.
تفاجأ الرجل حين رجع إلى دكّانه بوجود ذلك الرجل المستغرق في النوم ولكنْ عرف من إشارات القرْد أنّه الرجل الذي كان وراء مصيبته في المرّة السابقة. صحا الرجل من نومه مذعوراً إثر ضربات فجّة كانت تنهال عليه وهو لا يعرف إنْ كان في علم أمْ في حلم أو بالأحرى في كابوس لو لم يرَ القرد وقهقهاته المجلجلة وضربات يديه التي ترنّ على صدره من فرح له نكْهة الشماتة ومذاقُ الانتقام.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق