السبت، 19 سبتمبر 2015

جلالة الملك المعظّم الذي يشتري كلام الناس


تروي حكاية قديمة قصّة ملك ضاق ذرعه وصدره من نقد الرعيّة له. فلم يعد يطيق النقد. راح يفكر بطريقة  يتخلّص فيها من كلام الناس من دون أن يسفك نقطة دم. ما هي الطريقة التي تقتل فيها انساناً دون أن تقتله؟ راح الملك يبحث في مخيلته السورياليّة عن فكرة يقضي فيها على كلام الناس. عنّت على باله فكرة، وهي أن يحقّق مرامه بالتجارة. قال: سأتاجر مع شعبي، التجارة عالم واسع، وسأحوّل علاقتي معهم إلى لعبة تنعش الحركة في المملكة، لعبة كلاميّة بها نتسلّى.

 يقال ان الانسان يبيع كلّ شيء في سبيل المال، كلّ شيء، ولكلّ شيء سعر، يرتفع السعر أو ينخفض، ولكنك تصل، في الأخير، الى شراء ما يطيب لك. البعض يظنّ أنّه لا يباع ولا يشترى، من يقول هذا الكلام  إنّما يقوله لأنّه لم يحصل على المبلغ الذي يبرّر له النزول عن شيء من أشيائه، ومع هذا لم يفكّر الملك في شراء أشياء الناس، لم يفكّر الملك في شراء أشياء الناس، الاشياء التي تعبوا في الحصول عليها، وجنوها بعرق جبيتهم. عرق الجبين مكلف. لن يشتري بيوتهم ولا عقاراتهم، ولا سيّارتهم، قال سأشتري منهم الكلمات.

 من يتابع عالم الكلام، يعرف ان هناك من يبيع كلامه بثمن بخس. وهناك كتّاب " زنوج" يبيعون كلامهم لمن يدفع، وهناك من يمدح لقاء مال أو يهجو لقاء مال. الهجاء والمديح في شعرنا العربيّ كان لهما ثمن. الكلام المجاني قليل، ونادر. قلّة تفيض مشاعرها بالمديح أو تستفيض في الهجاء دون مقابل. ماذا فعل المال بألسنة الشعراء، وأهل الصحافة ، وكتاب مرموقين؟ التكسّب ظاهرة قديمة، وأراد الملك أن يتكسب شعبه بالكلام. راح الملك يستجمع في ذاكرته كلام الناس عن المال، الآسر، الساحر، المعبود الخفيّ. وتذكر شعراً كان قد قرأه ذات يوم عن ولع الناس بالمال:


أظهروا للناس نسكاً 
     وعلى الدينار داروا

وله صَلَّوا وصَامُــوا  
        وله حَجُّـوا وزاروا

لــو رأوه في الثـــريا   
      ولهـم رِيشٌ لطاروا


لقد قرّر الملك شراء كلمات الناس، لم يكن الملك غريباً عن بيع الأصوات وشرائها في لحظات مصيرية من حياة الناس، وكان يقول: كلّ اللحظات المصيرية إنّما هي لحظات " مصاريّة".

أصدر الملك ، ذات يوم، مرسوماً ملكياً فريداً من نوعه ، لم يسبقه اليه أحد من الملوك أو الحاكمين،  يتضمّن المرسوم جهوزية الملك لشراء أيّ كلمة يرغب المواطن في بيعها، وجيّش حملة دعائيّة لا مثيل لها، وراحت الإعلانات تملأ حيطان المملكة عن رغبة الملك في شراء الكلمات.

فرح الناس فرحاً عظيماً بهذا الخبر المدرار. وماذا نفعل بالكلمات، ليس بالكلام يحيا الانسان؟ لقد قام الملك بتحديد سعر كلّ كلمة، فالكلمات كالناس مقامات، الكلمات الأكثر تداولاً هي الأغلى، وكان الملك قد اعتمد على دراسات لغويّة ليعرف ما هي الكلمات الأكثر تواتراً، ليحدّد أسعارها. مارس الملك ديمقراطية قصوى في شراء الكلمات، لم يكره أحداً على بيع أي كلمة يجد انه يحبّ أن يحتفظ بها. قام الملك أيضا بتحديد سعرها بحسب طبيعتها اللغوية، فالكلام اسم وفعل وحرف. الحرف هو ما لا يدلّ على معنى في نفسه، وإنما يدلّ على معنى في غيره، أي أنه ليس للحرف معنى قائم برأسه، لا أحد يفكّر على سبيل المثال بتسمية ابنه بـ"جرف جرّ"، فلم أسمع عن شخص أسمه " منذ" أو " إلى"!

 قرّر الملك أن يكون حرف الجرّ وأسماء الإشارة الأغلى ثمناً، فأي حرف من حروف الجرّ مثلاً سعره يفوق عشرة أضعاف  على الأقلّ أي اسم أو فعل. استغرب كثير من الناس، طريقة الملك في وضع التسعيرة . أيعقل أن يكون ثمن حرف لا يعني شيئاً في نفسه أغلى من كلمات معناها يطفر من كلّ حرف من حروفها؟ وكذلك فعل بتحديد سعر كلّ اسم، وكلّ فعل، قد تجد " فعلا " أغلى من " أسم" ، وقد تجد " اسما" أغلى من فعل. لم يفقه الناس، تماما، الخلفية التي اعتمدها الملك في تحديد الأسعار، ولكنهم لم يعيروا الأمر كبير اهتمام.

 بدأ الناس يتدفقون على مراكز بيع الكلمات، صرت ترى الناس طوابير، البعض ينتظر الساعات والساعات، ولكنّه انتظار مريح، فالملك ليس في عجلة من أمره، من جهة، كما قام بتجهيز قاعات الانتظار بالمقاعد حتّى يؤمن أقصى درجة من درجات الرفاهية، الأماكن مكيّفة، وموسيقى ناعمة كالحرير، وكان حركة البيع منظمة بشكل مدهش، فما ان يصل راغب في بيع بعض الكلمات  يسحب رقماً وينتظر مجيء دوره ليذهب الى صندوق البيع حيث تستقبله موظّفة بترحاب شديد، وبسمة جذّابة. كان هناك شروط بسيطة على من يبيع كلمة من الكلمات التي يريدها وهي ان يتكفّل بعدم استخدامها بمجرّد أن يقبض ثمنها إذ تصير ملكا حصرياً لجلالة الملك المعظّم. في الأيام الأولى، باع كثيرون كلاماً كانوا يشعرون أنّه لا طعم له، ولا ضرورة. جاء أحدهم وباع عددا من الكلمات خطرت بباله كيفما اتفق، فليس مضطراً ان يبيع كل كلماته في يوم واحد، بل ليس بمقدوره أن يبيع كلّ الكلمات التي يعرفها ويستعملها في يوم واحد، من يعرف كلّ الكلمات التي يعرفها، ومن بمقدروره أن يخرج من فمه كلّ الكلمات التي يستعملها؟ الذاكرة خؤون، ثمّ لا يخطر ببالك في لحظات مناسبة ان تخرج من ذاكرتك كلّ الكلمات التي تعرفها. جرّب بنفسك سترى ان الامر ليس سهلا. خذ ورقة وقلما أو افتح صفحة بيضاء على وورد وجرّب ان تكتب كل الكلمات التي تعرفها، ستكتشف ان ذاكرتك لعوب بك، وستكتشف بعد صفحة او صفحتين او ثلاث صفحات ان رأسك جفّ من الكلام.

 جاء أحد الأشخاص وراح يسرد للبائع الكلمات التي يريد بيعها: كان الشخص طماعا فبدأ بحروف الجر: " من "، " في"، " على"، " إلى "، وتوقّف هنيهة ليسترجع أنفاسه وكلماته، ولكنّه لم يعد يذكر شيئاً من حروف الجرّ، تبخّر ما تبقى من رأسه، لم يرد إضاعة الوقت في التذكّر. فالكلام، هنا، من ذهب، والصمت خسارة فادحة ثمّ راح يتابع سرد الكلمات التي يريد بيعها: " كتاب"، "دفتر"، "ممحاة"،" قلم"، "مسطرة". كان البائع أمياً وشعر ان بيع كلمة  " كتاب " و" قلم " وغيرهما من مفردات القرطاسية لن يغيّر شيئاً، أخذ البائع نفساً عميقاً ثمّ تابع كرّ المفردات من بين شفتيه: " سماء "، " بحر"، "نهر"، " جاء "، " ذهب "، " باع " ، " اشترى ". تعب البائع من سرد الكلمات، وجد ان البيع ليس سهلا. اكتفى ببيع هذه الكلمات ثمّ انصرف مسرورا بما جنى.

 بقيت مراكز بيع الكلمات مزدحمة بالناس لأيام وشهور. الناس لم ييأسوا ولكنهم بدأوا يعانون من شحّ في الكلمات، مخزونهم اللغوي بدأ ينفد، واكتشفوا ان لغتهم بدأت بالتهلهل والركاكة. ماذا يفعل انسان باع كل حروف الجر؟ فقدانه لحروف الجرّ جعله يرتبك باستخدام الافعال المتعدية. " مِن" التي استسخف حضورها احد الذين باعوها، وجد صعوبة في تشكيل جملة بسيطة: نزلت "من" البيت مثلاً. أو جئت " من " الشغل، الذين باعوا كل الكلمات التي يعرفونها، وجدوا ان حياتهم لن تسير على ما يرام إلاّ بوجود معجم لغوي في المترادفات بين أيديهم. انتعشت كلمات ميتة لا تجدها إلاّ في القواميس، نفضوا الغبار عن كلمات كانت في مطاوي النسيان، كان الملك يقوم بتوزيع المعاجم مجانا على المواطنين. صارت حياتهم أشبه بحلّ الكلمات المتقاطعة.

كانت الكلمات الميتة والمهجورة تنتعش بفضل الاستعمال ثمّ تجد نفسها، في آخر المطاف، كما زميلاتها في خزينة الملك.

اصطاد الملك كلّ الكلمات، لم يعد في أفواه الناس كلمة جديدة، بعضهم نفدت جعبتهم من القول قبل غيرهم. فاستنجدوا لتدبير شؤون حياتهم بلغة الإشارات.

مرّ زمن، امتلأت خزائن الملك بالكلمات، وامتلأت أفواه الناس بالصمت.

بلال عبد الهادي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق