الأحد، 6 سبتمبر 2015

حكاية من حكايات اليشب الصينيّ


العنقاء والحجر


المستحيلات، في نظر العربيّ القديم، ثلاثة: الغول والعنقاء والخلّ الوفيّ. لا يخلو إدراجُ الخِلّ الوفيّ في خانة المستحيلات من نظرة تشاؤميّة سوداء (البعض يراها واقعيّة). لكنّ الشعوب لم تُجمع على هذه المستحيلات. ولعلّ مجرّد وجود أسماء لها هو مبرّر كافٍ لوجودها، إن لم يكن ذلك على مستوى الحقيقة العلميّة فهو وجود على مستوى الواقع الأسطوريّ، وللوقائع الأسطوريّة سلطان يفوق، في بعض الأحيان، سلطان الحقائق! يبدو أنّ لكلّ حضارة، فيما يخصّ الطائر الأسطوريّ، فينيقها أو عنقاءها. والتسمية العربية للعنقاء مستلّة، كما يقول المفسّرون، من عنق هذا الطائر الطويل والجميل. والأساطير التي دارت حول هذا الطائر لا تخلو من دلالات جميلة منها نهوضه من موته ورماده أي قدرته على الولادة المتجددة.

 إحدى الحكايات التي تدور حول العنقاء صينيّة المنشأ وهي تربط بين اكتشاف حجر "اليَشَم" المعروف بالـ"جاد" (Jade) وطائر العنقاء. تقول الحكاية إنّ أحد الحِرفيّين رأى طائر العنقاء يحطّ على رأس جبل. والعنقاء، إذا أخذنا ببعض تفاصيل الأسطورة العربية، ليس طائراً خرافياً مائة بالمائة. فهو طائر نادر الظهور، يزور الأرض آتياً من مكان قصيّ مجهول كلّ خمس مائة سنة. وعليه فإنّ رؤيته لا تتيسّر لكلّ إنسان. والعنقاء، في نظر الصينيين، كائن جميل ونبيل وكريم، لا يضاهيه جمالاً ونبلاً وألواناً أيُّ طائرٍ آخرَ. ولعلّ ولعَ الصينيين الراهن بالطيور غُصْنٌ من أسطورة العنقاء.

حين رأى ذلك الحِرفيّ الطائر وهو يحطّ على قمة الجبل لم ينبهر بجماله فقط وإنما افتتن بالمكان الذي حطّت عليه قدما العنقاء. قرّر الحرفيّ أن يصعد الجبل، على مشقّة الصعود، لأخذ الحجر الذي وقف عليه طائر العنقاء، معتبراً أن هذا الطائر النبيل يستحيل أن يضع قدميه على حجر لا يليق بمكانته ومخالبه. ومن هنا، اعتقد الحرفيّ اعتقاداً راسخاً بأنّ هذا الحجر لا بدّ من أن يكون من الأحجار الكريمة النادرة.

       حمل الحرفيّ واسمه "بْيانْ خُهْ" الحجر بكلّ فرح إلى الملك لتقديمه هديّة، وهنا طلب الملك من خبير بالأحجار الكريمة تقييم هذا الحجر الكريم، قال الخبير بعد إلقاء نظرة على الحجر: إنّه حجر عادي ولا صلة له بالكرم لا من قريب ولا من بعيد. اعتبر الملك الحرفيّ الذي أحضر الحجر مخادعاً وكذاباً وأراد الاستخفاف بعقل الملك والضحك عليه، فغضب الملك وانزل بالحرفيّ عقاباً صارماً لا تمحى آثاره إذ أمر بقطع رجله اليسرى.

دارت الدنيا دورتها ومات الملك فاعتلى ابنه العرش. عاد الحرفيّ مجدداً حاملا حجره الكريم وقدمه للملك الجديد الذي طلب بدوره من خبير في البلاط أن يفحصه لامتحان معدنه. فقال الخبير: إنّه حجر عاديّ ليس له أيّ صلة نسب بالأحجار الكريمة فغضب الملك وسار على نهج أبيه آمراً بقطع رجل الحرفيّ اليمنى. خسر الحرفيّ بسبب هذا الحجر قدميه. مات الملك الجديد وخلفه ابنه. وكان الحرفيّ قد شاخ وهرم ومع هذا لم يؤثر بتر قدميه على إيمانه بمحتِد الحجر النبيل ذرّة واحدة. ولكنه فقد الثقة بالملوك فلم يذهب إلى الملك الذي خلف أباه وإنما اتجه إلى سفح الجبل الذي حطّ عليه طائر العنقاء وراح يبكي، بقي واقفاً يبكي ثلاثة أيام بلياليها وهو يحتضن حجر اليشم حتى تقيأ الدم من فرط حزنه.

سمع الملك ببكاء الرجل فبعث إليه من يسأله عن سبب بكائه، ظنّ من رآه أنّه يبكي حزناً لفقدان قدميه، ونيله قصاصاً لا يستحقّه إخلاصه. قال مبعوث الملك للحِرَفيّ معزّياً: هناك عدد كبير من الناس قطعت أرجلهم، فلماذا تحزن وتبكي أيّها الشيخ؟

 قال الحرفيّ: "أنا لست حزيناً بسبب قطْع رِجْلَي، وإنّما لأنّ هناك من يقول إنّ الحجر الكريم هذا هو حجر عادي، والمواطن الصالح والصادق كاذبٌ ومخادعٌ، والبريء يعامل معاملة مرتكبي كبائر الذنوب، هذا هو سبب حزني الحقيقي يا سيّدي!"

 أمر الملك، حين علم بحكاية الحرفيّ الذي ضحّى بقدميه لأجل حجر، على الفور بفحص الحجر والتدقيق فيه فانفلق قلب الحجر عن يَشَمٍ باهر، يشم بهر ضياؤه عينَي الملك فأكرم الحرفيّ وعوّضه خسارة قدميه. وقد ذاع صيت يشم الحرفيّ بين الممالك التي تنافست على اقتنائه إلى أن استقرّ في مملكة "جاو". وعندما علم الملك تْشِيْنْ (221 – 207 ق. م) مؤسّس الإمبراطوريّة الصينيّة بخبر هذا الحجر عرض مقايضته بخمس عشرة مدينة من مدن إمبراطوريته. وقد قبلت مملكة "جاو" بهذا العرض السخيّ.

 نادراً ما عرف حجر كريم مصيراً كمصير يشم الحرفيّ، وهو مصير دالّ، في أي حال، على قيمة حجر اليشم أو الـ"جاد" ليس فقط الجماليّة وإنّما أيضاً القيمة العلاجيّة للنفس والجسد إذ يقال إنّ لحجر الجاد قدرةً على إصدار ذبذبات مهدّئة بمقدورها خلق حالة من التوازن بين جسد المرء وروحه. وللعالم العربيّ الكبير أبي الريحان البيرونيّ (372 - 440هـ.) كتاب علميّ طريف بعنوان:" الجَماهِر في معرفة الجواهر" يتطرّق فيه إلى الفوائد الصحيّة، النفسيّة والجسميّة، لبعض الأحجار الكريمة.

بلال عبد الهادي



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق