السبت، 12 سبتمبر 2015

إبليس توفيق الحكيم


لا شكّ في أنّ إبليس، بحسب ما تتناوله الروايات الكثيرة، كائنٌ سيئُ السّمعة، وكريه، وملعونٌ، ومتعجرفٌ، وغيور. أليست الغيرة هي التي أفضت بإبليس إلى التمرّد على تنفيذ أمر السجود لذلك الكائن المستحدَث من خلْطة طينيّة هشّة؟ ويمكن للإنسان أن يُلْبس إبليس ما شاء من أثواب وصفات محتقرة دون أن يشعر ذلك الإنسان أنّه تعدّى حقوقه أو تجنّى على الخنّاس اللاعب بمصائر الناس؟
إنّ سيرة حياة إبليس موجودة في الكتب المقدّسة، وسير الأنبياء، وسير الأولياء، وكتب تاريخ بدء الخليقة على غرار ما نرى في الجزء الأوّل من "تاريخ الرسل والملوك" للطبريّ، كما هي موجودة في حياة الناس، وهذا ما يؤكّد عليه الإمام ابن الجوزيّ في كتابه الطريف " تلبيس إبليس". هناك نقطة من سيرة حياة إبليس، نادراً ما تناولها أحد، ولكنّها موجودة في قصّة قصيرة كتبها الأديب المصريّ توفيق الحكيم بعنوان "الشهيد" وهي مدرجة في مجموعته القصصيّة: "أرني الله" ، تعمّد الكاتب أن يضع تحت العنوان إشارة الى كون نصوص هذا الكتاب تنتمي إلى "القصص الفلسفيّ". قد يخطر ببال القارىء أنّ المقصود بالشهيد، هنا، هو إنسان ما عانى الظلم أو ما شابه، ولكن من أين له أن يفكر أن المقصود بالشهيد في العنوان هو إبليس الباحث عن الخلاص من عذابات الغواية! إنّ كلمة "شهيد" تعني الميت في سبيل قضية ما، كما قد تعني، أيضاً، الشاهد الحيّ الذي يشارك في الرؤية. هل هذا ما أراده توفيق الحكيم من خلال اختياره لهذا العنوان الملتبس؟
 تتكلّم القصّة على معاناة إبليس الذي تعب من الغواية وبثّ الفتن وبذْر الشرور في الأرض كما تعب من اللعب بمصائر الناس، وصار ضميره المثخن بالندم يؤنّبه ويعذّبه من أعمال الشرّ التي ترتكبها يداه،  فشعر، ذات يوم،  كما لو أنّ نوراً قذفه الله – سبحانه-  في قلبه، فشعر بالندم على ما مضى من أمْره وعمْره، وقرّر إعلان التوبة وخلع لباس الشرّ والفتنة، وراح إبليس يحلم بالتوبة على يد الحبْر الأعظم بابا الفاتيكان، كان البابا يحتفل بمولد السيّد المسيح فانتهزها إبليس مناسبة لتكون بمثابة ميلاد جديد له، تقمّص إبليس شخصية رجل جليل ودخل إلى البابا، لم يستطع أحد من الكرادلة أو القساوسة أن يعترض طريق إبليس. وحين وصل أمام البابا أطرق خاشعاً. وما إن وقعت عينا البابا عليه حتى عرفه فوراً، وشعر البابا بارتباك وحيرة  قائلاً للشيطان: ماذا الذي أتى بك إلى هنا أيّها اللعين؟ قال إبليس بصوت مرتجف خفيض: جئت للدخول في حظيرة الإيمان على يديك الطاهرتين يا قداسة البابا، لقد قرّرت أن أتوب، تعب فمي من التفوّه بالإغواءات والوسوسات، أشتهي مذاق الخير، هذا الذي أسمع عنه ولم يذقه فمي، جئت أركع عند قدميك  لتعمّدني بيديك، وستراني من خيرة أبناء الكنيسة الأبرار المخلصين؟ شعر البابا بصدق كلمات إبليس وحرارة رغبته بالتوبة، وهذا ما أوقع البابا في حيرة واضطراب، وارتعد للفكرة، وصاح كالمخاطب نفسه: " لا... لا... لا أستطيع هذا...". ممنوع عليك التوبة أيّها الشيطان. وراحت أفكار البابا تحلّق في آفاق لم تحلّق بها من قبل: وماذا إذا آمن ابليس؟ ففيم إذن، بعد اليوم، مجد الكنيسة؟ وما مصير الفاتيكان ومتاحفه وتحفه ومخلّفاته الدينيّة الكبرى؟ كلّ شيء يفقد معناه وتذهب روعته. رفع البابا رأسه إلى إبليس قائلاً:" إنّ الكنيسة ترفض طلبك" وولاّه ظهره.
 شعر الشيطان بإحباط نفسيّ مرير، وخيبة أمل غير متوقّعة، وذلّ لم يشعر به على امتداد حياته المديدة، ولكنّه لم يفقد الأمل، فقرّر الذهاب إلى الحاخام، وأدرك الحاخام أيضاً أنّ توبة الشيطان توبة خبيثة  حتى ولو كانت توبة نصوحاً، لأنّها تعني زعزعة أركان الإيمان كلّه، ولكن الحاخام وجد مخرجاً يهوديّاً للتخلّص من رغبة إبليس إذ خاطبه قائلاً: "ليس من عادتنا التبشير، حتى ولو كان إبليس، إذهب إلى مكان آخر".
خرج إبليس من عند الحاخام مكسور القلب والخاطر، ولكن لم يدخل القنوط الى نفسه، ظلّ متمسّكاً بالأمل وواثقاً من أنّ للتوبة أبواباً كثيرة، وأنّ الديانة الاسلاميّة لن تخذله كما خذلته المسيحية واليهودية، فاتجه إلى شيخ الأزهر. قال له الشيخ : "إيمان الشيطان عمل طيّب ولكن...!"، ارتاب الشيطان من هذه الـ" لكن"  التي ختم الشيخ بها عبارته، بل فتحها على احتمالات مريبة، فعقّب إبليس قائلاً: "أليس من حقّ الناس أن يدخلوا في دين الله أفواجاً؟" وتابع إبليس حديثه المتلهّف للتوبة: "سأسبّح بحمد الله واستغفره وأريد أن أدخل دينه خالصاً مخلصاً وأكون قدوة صالحة للمهتدين". شرد شيخ الأزهر قليلاً وراح يفكّر في العواقب المحتملة التي ستتولد عن إيمان إبليس المستجدّ، وهي عواقب، كما أدرك الشيخ، وخيمة لأنّها ستقلب المعايير رأساً على عقب، وسيعتري الدنيا اختلال لا أحد يعرف مداه. وتساءل الشيخ: كيف سيتلى القرآن لو أسلم الشيطان؟ وما موقف المسلم من آيات كثيرات من قبيل"أعوذ بالله من الشيطان الرجيم"؟ ما مبرّر الاستعاذة ساعتئذ؟ كيف يستطيع شيخ الأزهر أن يقبل إسلام إبليس دون أن يمسّ بذلك كيان الإسلام كلّه؟ فما كان من الشيخ إلاّ أن صارح إبليس قائلاً:" اختصاصي هو إعلاء كلمة الاسلام، والمحافظة على مجد الأزهر، وأنّه ليس من اختصاصي أن أضع يدي في يدك".
يتابع توفيق الحكيم رحلة توبة إبليس فيصعد معه إلى السماء واصفاً مشاعره التي لا تختلف عن مشاعر" شحّاذ صائم يقرع باباً من أجل لقمة عند الغروب"، وهناك يلتقي إبليس بجبريل معلناً رغبته في التوبة، ولكن لم تكن إجابة جبريل مغايرة عن إجابة البابا والحاخام وشيخ الأزهر، فيرفض جبريل بدوره، قبول التوبة معتبراً أنّ إبليس جاء قبل الأوان، ويخاطب جبريل إبليس قائلاً: إنّ الخير محظور عليك، إنّه الشجرة المحرّمة، ولن تجد من يعينك على قطف ثمرة التوبة المحرّمة".  ويتابع جبريل المبرّرات التي تمنع من قبول توبته:" زوالك من الأرض يزيل الأركان، ويزلزل الجدران، ويضيع الملامح، ويخلط القسمات، ويمحو الألوان، ويهدم السمات، فلا معنى للفضيلة بغير وجود الرذيلة، ولا للحقّ بغير الباطل، ولا للطيّب بغير الخبيث، ولا للأبيض بغير الأسود، ولا للنور بغير الظلام، بل ولا للخير بغير الشرّ"، وينهي جبريل كلامه بالقول:" يجب أن تظلّ ملعوناً الى آخر الزمان، إذا ما زالت اللعنة زال كلّ شيء...". ولا يوجد أيّ إنسان أو ملاك يحتمل زوال كلّ شيء!
بلال عبد الهادي







ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق