الأحد، 13 سبتمبر 2015

الصائغ المجهول والخاتم المسحور


تروي حكاية قديمة أن أحد الملوك كان يملك خاتماً لا تقدّر قيمته بثمن، وهو مصنوع من حجر كريم نادر بين الأحجار إذ تشع من أضلاعه ألوان متموجة تفتن العين، ولم تكن ألوانه الفاتنة وحدها هي ما يميّزه، فلقد كانت له خاصية خفية وهي ان حامله يشعر برضى داخلي وسعادة نفسية غامرة. لم يكن الملك يخلع خاتمه خشية ان تغادره تلك الطمأنينة السارّة، الى حد أنه كان يتعامل مع الخاتم كما لو كان جزءًا من جلدة إصبعه.
كان للملك ثلاثة أبناء بررة، لا يختلف واحدهم عن الآخر في حسن السيرة ونقاء السريرة. حين دنت منيّته فكر في الولد الذي سيرث الخاتم، فهو للأسف لا يملك إلاّ خاتماً واحداً غير قابل للقسمة، وعليه لا بد من ان يكون من نصيب أحد الأبناء. قرر الملك إعطاء الخاتم لأحبّ أبنائه الى قلبه، ولكن هنا انتابته حيرة شديدة، لأنه استفتى قلبه ولكن من دون ان ينال أي جواب، لم يستطع قلب الملك تحديد الابن الذي سيرث الخاتم، وجد ان قلبه لا يميل الى واحد أكثر من الآخر، فمحبّته لأبنائه الثلاثة متساوية تماماً كأسنان المشط بحيث أنه كلما خطر بذهنه اسم واحد منهم قفز الآخران الى ذهنه، فأربكا قدرته على أخذ القرار.
إهتدى في الأخير الى وسيلة تجنبه الإحساس بتأنيب الضمير، او بالتمييز بين فلذات كبده، فاستدعى صائغاً معروفاً بتفوّقه في مهنته، وطلب منه ان يصنع له خاتمين اثنين لا يختلفان عن الخاتم الأصل ولا في أي تفصيل. قبل الصائغ الماهر هذا التحدّي، وكرّس أياماً طوالاً في صياغة الخاتمين، ثم عاد الى الملك وقدم له الخواتم الثلاثة. إرتسمت في عيني الملك دهشة عارمة بعد ان راح يتأمل الخواتم، واحداً واحداً، ويقلبها في كفّيه ويتحسس ملامسها لأنه هو نفسه عجز عن معرفة خاتمه الذي رافق إصبعه لسنوات طوال. خانته حاسة اللمس كما خانته حاسة النظر. وكان كلما وضع خاتماً في إصبعه شعر بأنه يضع خاتمه الأصلي. فرح الملك بمهارة الصائغ الذي أنقذه من حيرة أبوية كادت تعصف بروحه وتعكّر صفو شيخوخته.
راح الملك يستدعي كل ولد منفرداً، ويقول له: إني آثرتك على أخويك وخصّصتك بخاتمي هذا، كل ما أرجوه منك ان تبقي الأمر سراً، ولا تخبر أخويك بذلك، ولا تظهره لأي واحد منهما.
كان الكلام الذي يقوله الملك لكل واحد من أبنائه هو نفسه، لم يغيّر منه حرفاً. كل ولد شعر بغبطة لأنه اعتبر نفسه الابن الأثير لدى أبيه. بعد فترة قضى الملك نحبه واعتبر كل واحد من الأبناء، بينه وبين نفسه، إن الحق له في ان يكون سيد العائلة لأنه يحمل خاتم الوالد. وما إن ووري الأب الثرى حتى بدأ كل واحد يتصرف وكأنه سيد العائلة معتمداً على البرهان الساطع والطالع من ألوان خاتمه الباهرة. وهنا راح كل ولد يخرج من جيبه الخاتم الموروث لتأكيد صوابية سلوكه. ذهل الجميع، وراح كل واحد يتّهم الآخرين بالافتراء وتقويل شفتي الأب بما لم تنطقا به. فالوالد لم يكن يملك إلاّ خاتماً واحداً، وعليه فإن الصواب لا يحتمل، هنا، غير صيغة المفرد. لم يخطر ببال أحد من الأبناء ان لعبة الوالد في المساواة هي مثار الريبة الراهنة، إذ لم يشك أي ولد بقول أبيه. تبرئة الوالد من قبل الأبناء وضعتهم ثلاثتهم في قفص الاتهام. كل واحد كان يقسم بأن الوالد هو من سلّمه الخاتم بيديه، وكان قسم كل واحد منهم، عملياً، في منتهى الصدق. ولكن كيف بمقدور أي منهم إثبات ان الخاتم الذي معه هو الخاتم الذي كان يحمله الوالد؟ والوالد نفسه كان قد عجز عن معرفة خاتمه من بين الخواتم الثلاثة.
إستعر الخلاف بين الأبناء وتوارثت سلالاتهم خلافاتهم، وكانت كل سلالة تؤمن إيماناً لا يزعزعه شك بأن خاتمها الموروث هو الخاتم الأصلي الذي يحمل رائحة الملك في حين ان الخاتمين الآخرين مطعون في نسبهما الكريم. كان الأبناء قد استعانوا، حسماً للخلاف، بخيرة الصياغين ولكن لم يستطع أي صائغ تبيان النسخة الأصلية من النسخة المزيفة. ثمّة من يضيف بعض التفاصيل على الحكاية منها ان الصائغ الذي قام بصنع الخاتمين هو السبب في بلبلة خبرات الصياغين وعجزهم عن معرفة الخاتم الأصلي لأنه وجد من الأسلم والأسهل عليه صناعة ثلاثة خواتم بدلاً من اثنين. الصائغ خشي من ان تخونه مهارته فلا يتوصل الى صياغة خاتمين يتطابقان تطابقاً كلياً مع الخاتم/الأصل، لذا قرر إخفاءه واستبداله بآخر من صنعه. لم ينتبه الملك الى لعبة الصائغ التي لا تختلف كثيراً، في أي حال، عن لعبة الملك نفسه. وهي اللعبة التي ورّطت الأبناء في خلافات لا تنتهي بخلاف ما كانت عليه رغبة الملك البريئة النابعة من عاطفة أبوية صادقة وحانية لم ينكرها عليه أحد من عارفيه

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق