السبت، 26 سبتمبر 2015

توبة نملة




ثمّة من يسقط في فخّ النهايات أو بالأحرى في وهمها فتتحّول إلى معتقل للأفكار والأنظار والتفاسير. ولكن ثمّة من يتمرّد منذ البداية على النهايات المزعومة أو الموهومة. بعض المخرجين السينمائيين ممّن لا يحبّون السقوط في هذا الفخّ، ولا يحبّون إيقاع المشاهدين أيضاً في أحابيل النهايات، يريحون المشهد الأخير في الفيلم من كلمة "النهاية"، أي ينتهي الفيلم، عمليّاً، ولا ينتهي. وهكذا تبقى النهاية، طيّعة، مفتوحة على احتمالاتها الغنيّة، وكأنّ بالمخرج لا يريد أن يصادر فكر المشاهد أو خياله، وهذه ناحية لا تخلو من متعة. ولكن بعض المخرجين يصرّون على ترصيع الشاشة بكلمة "نهاية" إلا أنّ المشاهد يتمرّد على النهاية المكتوبة، يمحوها بعينيه ويتابع المشهد، يضيف إليه ما يعطيه معنى آخر، مناهضاً أحياناً، للمعنى الأوّل المبتور. وهذا ما يحاول أن يقوم به أيضاً بعض الكتّاب المتمردّين على زوايا النهايات الحادّة.

 وهنا أشير إلى حكاية النملة والصرصور(أو الزيز)، النملة النشيطة الدؤوب التي تهزأ بالصرصور الكسول الخمول! وترفض أن تقدّم له ما يقيم أوده في فصل الشتاء، وتنهره بقولها: إذا كنت تغنّي في الصيف فاذهب وارقص الآن. القصة مشهورة خلاصتها أنَّ النملة تلقّن الصرصور درساً في الأخلاق، وهو أنّ عليه الالتفات إلى مصلحته والأكل من عرق جبينه لا أن يكون عالة على تعب غيره. ولكن الشاعر والكاتب حسن عبد الله الذي يكتب للصغار والكبار معاً، لم يحبّ نهاية هذه القصّة، فيما يبدو، لا لأنه يكره النمل وسلوكه المتعالي أو لأنّه يتعاطف مع الصراصير وإنّما لأنّه ذهب إلى ما وراء الأمثولة فرأى أنها تهدم عنصراً هامّاً وممتعاً من عناصر الحياة، وهدم أيّ عنصر مخلّ بأمن الدنيا.

يأتي حسن عبد الله إلى نهاية حكاية "لافونتين" التي لم تنل استحسانه، يفتقها، يكرّ خيوطها، ويعيد حياكتها (أو حكايتها) من جديد، وهذا يعني عمليّاً نقضاً لها. يقول حسن عبد الله إنّ الصرصور استيقظ ضميره حين سمع سخرية النملة فراح يعمل بجدّ أين منه جدّ النملة نفسها. اعتزل الفن (بحسب التعبير الشائع) لأنّه لا يطعم خبزاً. كبح رغبة حنجرته في الغناء وحولها إلى طاقة عملية. ولكن سرعان ما لاحظ المسؤول عن العمّال في مملكة النمل أنّ الخمول دبّ في أقدام النمل فقلّ سعيه وإنتاجه. انشغل بال مملكة النمل. ماذا حدث ؟ من أين جاء مرض الخمول؟ أيّ فيروس ملعون اندسّ في أوصال المملكة ؟ أين النشاط السابق الذي صار مضرب مثل؟ أين الفرح الذي كان يرافق كالدندنة دبيب النمل؟ هل دعا الصرصور على النمل دعوة ليس بينها وبين السماء سحابة فاستجيبت دعوته؟

 بدأ أهل النظر في مملكة النمل يدرسون الأمر ويحاولون سبر الأسباب والعلل لاستئصال هذا الكسل الطارىء. كيف انتقل الكسل من جسد الصرصور إلى جسد النمل؟ انتبهوا إلى أنّ صوت الصرصور غاب عن السمع. ظنّوا أنّ في الأمر مؤامرة حاكت خيوطها الصراصير انتقاماً من عنجهيّة النمل مع صرصور يعضّه الجوع. أرسلوا عيونهم وجواسيسهم لرصد خيوط المؤامرة. لم يلحظوا ما يريب بل على العكس استقبلت الصراصير النمل بـ"الأهلا والسهلا "، والاعتراف بالجميل للدرس الذي لقنته النملة للصرصور لأنّها أيقظته من غفوته وغفلته، ونبّهته إلى ضرورة العمل والأكل من عرق جبينه لا من مدّ يده. ولم يكن كلام الصراصير للتمويه على جريمة ارتكبوها بحقّ النمل أو لتغطية الحقيقة بمعسول الكلام بل كانت الصراصير تتكلّم بمنتهى المحبة والامتنان.

ظلّت الحيرة كما الكسل يسريان في عروق النمل. والنمل كالبشر لا يرعبه شيء كما يرعبه أن يجهل ما حصل له وكيف حصل، وبطلان العجب لا يكون إلا بمعرفة السبب. لقد اكتشفوا إنّ كسلهم هو وليد صمت الصرصور، كان الصرصور يغنّي، وكان غناؤه يحرّك قدرات النمل وشهوته على العمل. اكتشفوا إنّ فضل صوت الصرصور على نشاطهم من الأمور التي كانوا يجهلونها. الصمت رهيب ومجلبة للخمول والكآبة. والحياة بلا أصوات خرساء، شلاّء، فتّاكة بالقدرات. من هنا قرّر النمل إرسال وفد إلى الصراصير للاعتذار منه وفتح صفحة جديدة تتمثّل بعقد صفقة غير قابلة للفسخ. طلبوا من الصراصير العودة إلى سنّة أصواتهم أي إلى الغناء لقاء تكفّل النمل بتكاليف حياة الصراصير.يبدو أنّ الصراصير طيّبة القلب وافقت على اقتراح النمل وعادت إلى الغناء وعاد النمل إلى العمل بنشاطه المعهود ولكن بخلاف جوهري وهو أنّ الصرصور لم يعد يأكل بعرق جبين النمل وإنما بعرق حنجرته.

 لن أسقط في فخّ النهايات لأنّي على شبه يقين بأنّ الكلمات الأخيرة من الحكاية ليست نهايتها وإنّما بداية جديدة. لأنّ كلّ نهاية عبارة عن بداية مموّهة. تجدر الإشارة إلى أنّ غناء الصراصير يذكّر أيضاً بحبّ الإبل للطرب وهو ما دعا إلى ولادة ما يعرف عند العرب بـ"حُداء الإبل"، وسكّان الصحراء يعرفون جيّداً فعل إيقاعات تفاعيل الرجز في تنشيط أخفاف الإبل.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق