الاثنين، 14 سبتمبر 2015

حضرة الفاسد المحترم

الفاسد محترم، تجد من يصفّق له، ويفتح له باب السيارة، ويحرسه برموش العين، ويكتب عن انجازاته الناجحة، وتفتح له الصحف ذراعيها وصفحاتها، وتخصص له مقاعد الصفّ الأوّل في المناسبات السعيدة والحزينة.
الفاسد نجم اجتماعيّ لامع كحذاء طازج، صوره الملونّة تملأ الجدران وتعمر الشرفات وقد تراها على زجاج السيارات!
الفاسد أنيق الهندام، رشيق القوام، فصيح الكلام حتى ولو كانت كلماته تعاني من " البروستات" اللغويّ!
الفاسد مهيوب ، محبوب، مطلوب، مرغوب، مبجّل، تنحني له القامات والهامات، يفتديه الناس بالروح والدم، وتزمجر الحناجر باسمه في الميادين والمهرجانات، وله أتباع وأنصار يذّيلون أسماءهم على اليافطات.
الفاسد لا يرضى بأيّ نمرة سيارة ، يحب النمرة المؤلفة من ثلاثة أرقام، ويعشق الزجاج " المفيّم" الذي يخفيه عن أعين المعجبين وهو يمتطي سيارته المسيلة للشهوات والنزوات.
الفاسد محسود، ومنشود!
الفاسد مثال يحتذى!


وصلني هذا التعليق على هذه التدوينة التي كتبتها، اضعه كما هو:

" جميلة...ولكن حتّى من يتحدث عن "حضرة الفاسد المحترم" ربما هو أفسد منه..!!
ليّته ينتفد نفسه أيضا ويذمها على افعالها وإيذائه للناس...
خصوصا حين يستقوي على من هو دونه، ليظهر مظهر البطل النبيل وصاحب القيم والشهامة، فيتغافل متعمدا عن كلّ جرح وأذى وضرر ألحقه بالآخر، ويشوّه سمعته ويخرّب حياته كرمى لعيني مقامه الشخصي ومكانته...
إنّها حياة العجائب والغرائب...لا ينفد من مآزقها سالما سوى الأندال
ورغم الصدمات والخيبات بطبائع بعض البشر...كما تقولون: الدنيا دولاب !
دام قلمكم ابداعا وخداعا"


تعليق على  التعليق :

كما يرى القارىء الكريم فإنّ هذا التعليق هو ضربة على الحافر وضربة على المسمار.، ويغمز من قناتي كما يقال.، ولست ممن يمنع الناس من اعطاء الاراء ايا كانت، فالمسألة الواحدة ينظر اليها من وجوه كثيرة.
ما أعرفه هو ان الاشياء مهما كانت بسيطة هي اعقد ان يعرف كنهها مخلوق. الواضح ملتبس، وقد يتدثّر ما هو واضح بوضوحه لزيادة البلبلة والحيرة.
مشكلة الانسان الكبرى في الحياة هي التفسير. واقصد بالتفسير طريقة المرء في تفسير ما يسمعه او يراه او يقرأ عنه.
التفسير هو سر الخيبات والنزاعات والتوهمات .
ليس هناك اشق من التأويل، واشق من التفسير.
ومن يلتفت الى كتاب نصر حامد ابو زيد عن التأويل الديني يكتشف كمّ الدروب التي لا تفضي الى مكان.
كما يدهشني كتاب امبرتو ايكو عن " التأويل وفيض التأويل" او التأويل الزائد، التأويل له ضوابط وحدود.
منذ فترة وانا مشغول بكلمة تفسير.
ليس بمعناها اللغوي وانما بمعناها البراغماتي والتداوليّ.
كيف استطيع ان ادّعي انني قادرر على التفسير.
والتفسير يتطلب ادوات ليست في متناول اليد، وليست في متناول اي ايديولوجيا أو دين.
التفسير سلطة.
وليس هناك سلطة مشروعة!
التفسير أسير النقصان.
معرفة المرء ناقصة، مهما كانت الاشياء بسيطة لا نعرف كل استخداماتها. كيف اعرف معنى ما لا اعرف كل استخداماته.
كل تفسير ابتسار!
كل تفسير تشويه ، بدءا من تفسيري أنا.
التفسير الغالب لا يعني انه تفسير صائب.
وفي التعليق هناك " ربما"، ووجود " ربما" مشروع ومحتمل. هل هو حساب لخطّ الرجعة؟
لست ادري!
التفسير رهين واقع ورهين احلام ورهين تطلعات ورغبات مكنونة.
اذكر الان اني حين التفت الى دراسة اللغة العربية انما كان قصدر  هو تفسير القرآن الكريم.
وها قد مضى الشطر الاكبر من عمري وما زلت اتهيب كتابة تفسير شخصيّ .
اذ كل تفسير هو تفسير شخصي! مهما تلفّع بالموضوعية والحيادية.
التفسير هو اختيار، وكل اختيار انما يخضع لامور لا علاقة للمختار فيها.
الحيرة هي الصديق الحميم للحكيم!
واحب جدا فكرة الارجاء عند فرقة المرجئة الاسلامية، ولكني اعطيها المعنى الذي اعطاها الفيلسوف دريدا في نظريته حول ارجاء المعنى!
المعنى مؤجل، او قل ان كلّ معنى هو معنى مؤقت.
كأن الكلمات اشبه بشقق مفروشة او حجرات في الفنادق يتغير سكانها في كل وقت.
المعنى لا يقيم الا في الشقق المفروشة، اعرف هذا تماما.
لا احد يحب ان يخرج من معركة يخوضها وهو خسران.
الانتصار رغبة الجميع!
ولكن لا ينتصر في الاخير الا الموت.
وانتصار الموت لا يعني ابدا ان المرء عليه ان يتقبل الهزيمة.
الانسان اخترع انتصاره الشخصي والبسه لباسا دينيّا، وأسكنه في رحاب الغيب وعالم الآخرة!
ودنيا المعاني ايضا دولاب!
وكنت قد كتبت فيما مضى نصا بعنوان " قاف النقص"
اعيد ادراجه هنا كإجابة على بعض ما ورد في التعليق. اذ انني اعتبر شخصي على غرار نصي مسودة تحتاج لكثير من الاصلاح!

ثمّة عبارة استعملها في ما يخصّ كل ما اقوله او اكتبه. وهي اعتراف منّي لا يقبل النكران، وهي التالية:" كلّ نصّ تتوّسطه قاف"، واقصد بها ان النقص سنّة النصوص وسنّة البشر. كل من لا يعترف بنقصه يكون عنده فائض في النقص. ولقد خطرت ببالي هذ العبارة من اول سنة تعليم جامعي إذ بدأت التعليم الجامعيّ بمادّة جميلة جدّا هي تحليل النصوص عام 1994-1995 . وكانت كلمة نصّ بحكم اسم المادّة من الكلمات الكثيرة الدوران على لساني. ومع الوقت قفزت القاف إلى رأسي طالبة مني إيجاد مكانة لها. فقلت لها: على العين والرأس، فخير الأمور أوساطها لهذا اقترح عليك انت تقعدي في المقعد الوسط بين النون والصاد. وهكذا تم اكتشاف سحر القاف، وهو حرف يرافق كل حرف اكتبه. والدليل اني ما كتبت جملة الا غيرتها في اليوم التالي. فكل نصوصي غير ثابتة، مع كل فرصة لقاء جديد معها تطل القاف برأسها، فاكتشف نقصا هنا، او شائبة هناك، أو ما يستحق الحذف هنالك. ولعلّ هذا ما افهمه من عبارة "النص المفتوح".

وهكذا صرت أكتب النص بهذه الطريقة نـ(قـ)ص دامجا بينه وبين النقص..

حين أنهيت أطروحتي للدكتوراه لم أجد أفضل من نصّ عماد الدين الاصفهاني أبتدىء بها صفحات رسالتي، ونصّه يقول:

إني رأيتُ أنه لا يكتبُ إنسانٌ كتاباً في يومِهِ إلاّ قال في غَدِهِ :
لو غُيِّرَ هذا لكان أحسنُ،

ولو زِيدَ كذا لكان يستحسنُ،

ولو قُدِمَ هذا لكان أفضَلُ،

ولو تُرِكَ هذا لكان أجملُ.

وهذا من أعظم العِبَر، وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر".

والنقص نعمة من الله لا يعرفها الا الحالمون العاملون. كلّ ما يكتبه الانسان ليس أكثر من مسوّدة لا يتيح له العمر القصير تبييضها كاملة، البعض يبيض كلمة، والبعض الآخر يبيض جملة، والبعض الثالث لا يسمح له عمره الا بتصحيح صفحة واحدة. وثمّة أناس لا يسمح لهم وقتهم الرخيص بتبييض ما يكتبون.

كل الناس أهلّة لا تصل الى مرحلة البلوغ أو البدور.

وكنت قد كتبت عبارة على دفتر يومياتي قد يكون المكان هنا يليق بدلالتها، وهي:"لا اعرف ما أعرف، ويلذّني أن أعرف انني لا اعرف ما أعرف". الجملة وليدة علاقتي الحميمة بمعجم لسان العرب لابن منظور، المعجم العربي الموسوعي اللذيذ. لكم اكتشفت وانا اتجول في تضاعيف صفحاته العذاب اني لا اعرف من الكلمات التي اعرفها الا شعرة من فروة رأسها.هذا عمّا أعرف فما بالك بما لا اعرف؟





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق