الأحد، 27 سبتمبر 2015

الشاعر والكلاب


ثمة حكاية طريفة من عصر المماليك بطلها لحّام اسمه أبو الحسين "الجزّار"، عاش في القرن الثامن للهجرة. ابتلى الله هذا اللحّام بحبّ الشعر ونظمه، فالشعر ديوان العرب. ولكن الوقت الذي كان يقضيه في ملحمته لم يكن يسمح له بتكريس حياته للشعر كما كان يتمنّى ويهوى. والهواية تكون أحياناً قاتلة، ولعلّ دنوّ لفظها من الهاوية له ما يبرّره. وكلّما اشتدّ عود ملكته الشعرية كانت علاقته" بالساطور والوَضَم" - كما يقول الناقد الراحل شوقي ضيف- تتقلّص. اللحّام يبني علاقة طيبة مع أدوات مهنته وزبائنه،  كما تبني الكلاب أيضاً معه علاقة تشبع المعدة.

كان أبو الحسين الجزّار يعرف أن الكلاب بحاجة إليه، فهو يعني لها الكثير. ولكنه كان يتبرّم من عمله. شيطان الشعر أغواه، بلبل لبّه وفتن لسانه، فراح بينه وبين نفسه يقول: أنا شاعر، وعليّ أن أعيش حياتي الشعريّة، الجِزارة لا تليق بكلماتي، السطور ميداني وليس الساطور!". قدم استقالته من المهنة التي ورثها عن أبيه وجدّه والتي منحته اسمه، فهو عرف طوال حياته بأبي الحسين الجزّار، ولا تزال رائحة اللحم تفوح من اسمه إلى اليوم.

 ولكن ماذا يفعل بموهبته؟ من يتبرّع برعايتها؟ لم يكن الشعر في زمانه ينعم بالسيادة والاستقلال. فالشعر ليس مهنة، وقد لا يطعم لحماً! لا بدّ له من حاضن أو أب يتبنّاه. ونحن نعرف علاقة الشاعر القديم بالجغرافيا. إنه كان أشبه بالبدويّ في الصحراء الذي يفكّ أوتاد خيمته في موسم الجفاف ويرحل بحثاً عن الماء والكلأ ليلقي عصا الترحال.

الشاعر العربيّ القديم لم يكن بعيداً عن أجواء جدّه البدويّ الرحّال. إنّه ينتقل إلى حيث يجد شخصاً يعيره سمعه لإلقاء قصيدة لقاء حفنة من الدراهم أو الدنانير تهطل عليه كالغيث فتنعش جذور أيّامه. البعض لم يكن يرى فرقاً بين "بيت الشِّعر" و"بيت الشَّعر"، فالشاعر بدوي يترحّل من مكان إلى مكان. يمدح ويهجو. يسلّط على البخيل سيف لسانه البتّار. الأمراء والوزراء والكبراء كانوا يقطعون لسان الشاعر بالعطايا، فـ"عداوة الشعراء بِئْسُ المقتنى" على ما قال الشاعر الخبير أبو الطيّب المتنبّي. وكلّ من له إلمام بالشعر العربي القديم يعرف أن المديح يأتي، في نظر النقّاد، في الطبقة الأولى من الشعر. وهذا ما حدا ببعضهم الى عدم الاعتراف بعمر بن أبي ربيعة أو اعتباره شاعراً ناقصاً( غير مكتمل "الفحولة" الشعرية) لأنّه لم يَرد كثيراً مورد المديح. الغزل وحده لا يكمل نصاب الشاعر للحصول على لقب( الشاعر "الفحل")، ولا شعر الحكمة وحده يسمح لكفّ الناظم بالقبض على "الفحولة" الشعريّة.

ترك أبو الحسين الجزّار وراء ظهره مهنة الجزارة وسواطيرها وكلابها. وراح يطرق أبواب رجالات العصر، لكنّه سرعان ما انتبه إلى أمر لم يكن قد حسب له حسابا، أو دار في خلده، وهو أن الوقوف على أعتاب الممدوحين لا يخلو من ذلّ السؤال، وان الاكتفاء بالشعر كان يفرض على الشاعر شروطاً قد لا تتقبّلها كرامته الشخصيّة أو الشعريّة.

شعر أبو الحسين الجزّار بصدمة نفسيّة وشعريّة قاسية، وبإهانة كاسرة تنهش بأنيابها في لحم قصائده. هنا أدرك انه أخطأ في حقّ الجِزارة فندم على عقوقه المهنيّ، فأن يكون قصّاباً يقرض الشعر خير له من أن يكون مدّاحاً يتسوّل العطايا. طوى دواوينه وعاد إلى مهنته بعد أن اكتشف القيمة التي تمنحه إياها، حتى ولو كانت نظرة العرب القدامى إلى "المهنة" نظرة احتقار لا تزال عالقة بمفردة "المهنة" إلى الآن. إن ممارسة مهنة عند البدوي القديم عمل مهين ومجلبة للهوان. والعلاقة اللغوية بين "المهنة" و"المهانة" ليست عارضة في المعجم العربيّ.

عاد الشاعر الجزّار إلى ملحمته بعد أن اشتهى مضغ اللحم على أبواب الممدوحين، ودوّن تجربته المدحيّة المهينة في أبيات شعر يقول فيها:


لا تلمني يا سيّدي شرف الدين إذا ما رأيتني قصّابا
كيف لا أشكر الجِزارة ما عشت وأ
هجر الآدابا
وبها صارت الكلاب ترج
ّيني وبالشعر كنت أرجو الكلابا



 من هو شرف الدين الذي يطلب منه الشاعر أن لا يلومه على كونه قصّاباً؟ وهل هو سيّده فعلاً؟ وهل هو شخص حقيقيّ من لحم وعظم أم أنّه مجرّد اسم شعريّ اختاره أبو الحسين الجزّار لأنّه اسم مركّب من مفردتَي "الشرف" و"الدين"؟ إنّ التحليل السيميائيّ للنصوص لا يؤمن باعتباطيّة الاختيار.

 والله أعلم!


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق