الأحد، 6 سبتمبر 2015

النحو وصلاة السهو



ليس هناك معرفة عميقة بأمر من الأمور إلاّ وهي تفيد في مجال آخر. وإذا ما تأمّل المرء في الموجودات التي يستعملها في حياته اليومية فإنّه سوى يرى عشرات الأمثلة. كنت قد قرأت أنّ ستيف جوبز استوحى تصميم إحدى كمبيوتراته من شكل مكنسة كهربائيّة، وانه كان يهوى التجوال في جناح الأدوات المنزلية في السوبرماركت ليستوحي أشكال حواسيبه.

 ومن حسنات علم اللغة الحديث، على سبيل المثال، انه تحوّل الى منهج لدراسة أمور لا علاقة لها باللغة، ولا سيّما المنهج البنيويّ. لقد استعانت أغلب العلوم الانسانيّة بالأدوات التي قدّمها علم اللغة الحديث للتعامل مع الموادّ التي تعمل عليها. العلوم يولد بعضها من بعض، ويؤازر بعضها بعضاً، ويضيء بعضها بعضاً. وسوف أطرح بعض الأسئلة من وحي العلوم التي لا صلة ظاهرة فيما بينها، ولكن من يتابع أخبار نموّها وتطورّها سوف يكتشف تلك العلاقات الخفيّة. ما علاقة دارون صاحب الكتاب العاصف" النشوء والارتقاء" بعلم اللغة؟ هل كان لعلم اللغة الحديث أن يتطوّر على الشكل الذي تطوّر عليه لولا نظرية دارون؟ ما علاقة الرومانسية الأدبية بنظرية دارون ، وهل كان لدارون دور في نشوء الرومانسيّة؟ وهل يمكننا فصل دراسة الفلكلور الشعبيّ عن السعي الحثيث لاكتشاف مسائل لغوية؟ وهل من علاقة بين الفلكلور وبين الرومانسية؟ وهل كان للرومانسية ذلك التيّار الأدبيّ اللاهب الذي عصف بعواطف أوروبا أن تنشأ لولا نموّ علم اللغة الحديث وتحديداً بمناهجه التاريخية؟

حياة العلوم لا تخلو من طرافة، وهي على نسق حياة الناس، هل يخلو التطوّر البشريّ من عنصر الطرافة أو عنصر المصادفة؟ وثمّة طرفة عن جحا تقول في شكل سؤال: من أكبر جحا أم ابوه؟ يمكن لنا أن نرى هذا السؤال من غير المنظور الساذج  الذي أريد له، ونحاول أن نراه في حياة العلوم والفنون. فلننظر الى المسرح والسينما، الكلّ يكاد يجمع على القول إنّ السينما هي بنت المسرح حتى على صعيد المفردات والمصطلحات، فالمخرج السينمائيّ هو " metteur en scène "، ويفصح اسم المخرج بالفرنسيّة عن جذوره المسرحيّة، ولكن السينما نمت نموّاً مذهلاً إلى حدّ ان متابع المسرح المعاصر ينتبه الى بصمات السينما في الإخراج وفي تقنية العرض المسرحيّ وأحيانا تكون شاشة السينما عنصرا حيويّاً من عناصر المسرحية، وهي شاشة غيّرت من مصير تجسيد الزمن وتجليات الماضي على خشبة المسرح. فالأب ( وهو المسرح هنا) يغيّر مصير ابنائه، ولكن سرعان ما تنقلب الادوار فنرى الأب يتأثّر بولده، بل إنّ الابن هو الذي يقرّر مصير إقامة والديه. كم عدد الآباء الذين تركوا ديارهم ليكونوا الى جانب أبنائهم في المغتربات؟

في العلوم الانسانية بفروعها الاجتماعية والانتروبولوجية والنفسية نجد عدداً لا يستهان به من مصطلحات علم اللغة. فهل كان بمقدور عالم النفس الفرنسيّ الشهير جاك لاكان ان يطوّر نظريته في علم النفس لو لم يستقِ من علم اللغة جزءاً كبيراً من أدوات بحثه؟ وهل كان بمقدور كلود ليفي استراوس  مؤسّس الأنتروبولوجية البنيوية أن يؤسّس نظريته الانترولوجية حول الغذاء لو لم يستعتن بحركات (صوائت) اللغة الأساسيّة وأقصد الفتحة والضمة والكسرة؟ وقد يقول قائل وما علاقة حركات اللغة بالطعام؟ وكيف يمكن لشخص أن ينشئ نظرية كاملة الأوصاف لأمر غير لغويّ من منظور لغويّ محض؟ نظر استراوس الى الحركات فوجد ما يسمي بالمثلّث الصوائتي وهو المثلّث المكون من ثلاثة أضلاع صوتية وهي الفتحة والضمة والكسرة ولا تخلو لغة منها، ولكن كلّ لغة تختلف عن غيرها من خلال استعمالها لمروحة هذه الصوائت. وفي العربية بعض المصطلحات ولعلّ أشهرها "الإمالة" وهي أخذ الفتحة جهة الكسرة فتخرج من الفم حركة هي مزيح من الحركتين كما في الآية الكريمة " وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها إنّ ربي لغفور رحيم " (هود : 41). قال استراوس ان كل المجتمعات تأكل النيء والمعفّن والمطبوخ، ولا تجد شعبا من الشعب لا يتعامل فمه مع هذا "المثلّث الغذائيّ". ما كان بمقدور هذا المثلّث الغذائيّ البسيط أن يولد في ذهن استراوس لولا نظرته نظرة لغوية الى امور الطعام وهو الذي قضى جلّ وقته في دراسة الطعام في الشعوب البدائية باعتباره نصّاً لغوياً وميتولوجياً.

 أخذ ادوات علم ما وتوظيفها في مكان آخر يسمح للدماغ البشري ان يرى روابط جديدة، أو ينشئ روابط جديدة، ويرى حلولاً قد يكون من الصعب على نظام مغلق على نفسه ان يراها رغم أنّها في متناول اليد أو النظر!

وكنت قد وقعت على نصّ من تراثنا الفقهيّ للشاطبيّ في كتابه " الموافقات" يتكلّم فيه على احتمال أن يجد نحويّ لا علاقة له بالفقه في إيجاد حلّ فقهيّ من باب من أبواب اللغة وليس من باب من أبواب الفقه، وينقل حادثة وقعت للفرّاء وهو من هو في ميدان اللغة! يقول الشاطبيّ: "حمل بعض العلوم على بعض في بعض قواعده، حتّى تحصل الفتيا في أحدها بقاعدة الآخر، من غير أن تجتمع القاعدتان في أصل واحد حقيقيّ، كما يحكى عن الفرّاء النحويّ، أنه قال : من برع في علم واحد سهل عليه كلّ علم. فقال له محمد بن الحسن القاضي  - وكان حاضراً في مجلسه ذلك، وكان ابن خالة الفرّاء - : فأنت قد برعت في علمك، فخذ مسألة أسألك عنها من غير علمك: ما تقول فيمن سها في صلاته، ثم سجد لسهوه فسها في سجوده أيضاً؟ قال الفَرّاء :لا شيء عليه. قال: وكيف؟ قال: لأنّ التصغير عندنا لا يصغّر، فكذلك السهو في سجود السهو لا يسجد له، لأنّه بمنزلة تصغير التصغير، فالسجود للسهو هو جبر للصلاة، والجبر لا يجبر، كما أنّ التصغير لا يصغّر. فقال القاضي: ما حسبت أنّ النساء يلدن مثلك. فأنت ترى ما في الجمع بين التصغير والسهو في الصلاة من الضعف،  إذ لا يجمعهما في المعنى أصل حقيقي، فيعتبر أحدهما بالآخر" .

وأنهي بخبر أشبه بطرفة أورده الكاتب بيل برايسون  في كتابه عن سيرة حياة شكسبير، فهو يروي حكاية شخص ولوع بانتاج شكسبير الأدبيّ، وهو هاوٍ حدّ الهوس، ولكنّه كان يتابع كلّ خبريّة عن شكسبير، يعرف تاريخ شكسبير من الألف الى الياء، ومن خبرته في " التنقيب" عن حياة شكسبير صار عنده خبرة في فنّ التنقيب. استراتيجيته في التنقيب عن اخبار شكسبير، استخدمها هي نفسها في التنقيب ولكن هذه المرّة ليس عن حياة أديب وإنما عن النفط. فاشترى مساحات شاسعة في ولاية تكساس، ثم بدأ بالتنقيب، الى أن انفجرت الأرض التي اشتراها نفطاً لا علاقة لشكسبير، من حيث الظاهر، في العثور عليه.

بلال عبد الهادي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق