اعتادت الأنظمة العربية الديكتاتورية تزوير الانتخابات أثناء الاقتراع وبعده، وتفنن ساسة لبنانيون وتفوقوا في التزوير، حتى صار بمقدورهم التحكم بنتائج الانتخابات سلفا وقبل ذهاب الناخبين إلى الصناديق، من خلال قانون انتخاب يحاك على مقاساتهم، ويأتيهم بالمقاعد التي يتواطأون على الحصول عليها. ووصلت العنجهية إلى حد جعل الأفرقاء يرفضون أي قانون، مهما بلغت عدالته التمثيلية، طالما أنه لا يعطي كلا منهم الحصة التي ترضيه. وبات بحكم الخبرة الطويلة، لكل حزب أو تيار ماكينته الانتخابية التي تحتسب الأصوات، وتقدر عدد المقترعين، ولكل منهم شركاته التي تحصي وتدرس وتتوقع. لم يستفد سياسيا من المناهج الإحصائية الدقيقة في لبنان، من أجل معرفة عدد الفقراء الذين يتزايدون، والمتسربين من المدارس، والعاطلين عن العمل وسبل الخروج من مستنقع المديونية العامة، كل هذا ليس من أولويات الأمور. شركات الأبحاث اللبنانية، تنشط بشكل خاص وتمول، من أجل إعداد الخطط الانتخابية الجهنمية. وهكذا فهي تعطي النصائح وتبيع الدراسات، ليس للأحزاب المحلية فقط، وإنما لجهات خارجية عربية وأجنبية، يهمها أن تعرف أي القوانين الانتخابية يأتي بحلفائها إلى السلطة بأغلبية وازنة، لتعمل على تسويقه وتعزيز حظوظه. لا تجد هذه الشركات ضيرا في التدخل الخارجي حين يأتي من بوابتها. ويجيبني أحدهم: «نحن نبيع دراساتنا العلمية لمن يطلبها ويدفع ثمنها ولسنا مسؤولين عما يفعله بها، ولا نستطيع أن نعرف إن كانت ستستخدم للاستغلال السياسي أو لخدمة أهداف أخرى». تفضل الدول الخارجية الشركات اللبنانية التي تفوقت إلى حد مذهل في معرفة خبايا وأسرار اللعبة الانتخابية الداخلية، وصار لكل منها نجمها التلفزيوني الذي ما أن يطرح قانون انتخابي على النقاش، حتى يخرج من جيبه - كما السحرة والمشعوذين - عدد المقاعد التي سينالها كل حزب، لا بل وكل طائفة وفي أي دائرة يُسأل عنها.بهذا المعنى فإنه يبدو أن «حاميها في لبنان حراميها»، والمتنافسين على المقاعد هم الذين يجتمعون ليتفقوا على تقاسم أصوات الناس وكسر إرادتهم. يتجاهل أصحاب المغانم بجلافة، ضرورة وجود هيئة مستقلة عنهم، تضع قوانين انتخابية محايدة تنصف الشعب. تهربوا دائما من رقابة مالية، حاسمة وصارمة، تحاسبهم على رُشاهم الفاقعة وإدمانهم على شراء الأصوات.. تجاهلوا الإصلاحات التي تجعل الناخب يذهب حرا إلى الصندوق غير مكبل بخدماتهم البخسة. المسيحيون رفضوا تخفيض سن الاقتراع خوفا من عدد المسلمين المتزايد، والمسلمون تجنبوا اقتراع المغتربين كي لا ترجح الكفة المسيحية. احتساب الأصوات بات من الدقة بحيث إن أي تغيير، ولو في شكل الورقة التي توضع في الصندوق، قد يخل بشروط اللعبة كما هي قائمة.المطلوب هو حصول تداول في السلطة، وكسر نفوذ رؤساء الطوائف الصامدين منذ أكثر من ستين عاما في مواقعهم. تعابير سياسية سوقية تستشري، تنم عن تدنٍ مزمن لدى طبقة مصابة باهتراء في الذهنية. رئيس القوات اللبنانية استخدم «رصاصته الأخيرة» - كما قال - لاصطياد قانون انتخابي مختلط يمزج الأكثري بالنسبي رافضا مواصلة العزف على «سيمفونية قانون اللقاء الأرثوذكسي» الغالي على قلب الجنرال عون. هذا الأخير شن حملة على جعجع معتبرا أنه باع المسيحيين بتخليه عن «الأرثوذكسي» وهم الذين اتخذوا «سبايا ومغانم حرب منذ اتفاق الطائف». لم يتأخر القواتيون في الرد بلسان النائب أنطوان زهرة الذي وصف العونيين بـ«الأدوات الصغيرة» و«أبالسة الشيطان» الذين «يستبيحون كل المحرمات».حقا، إنه لسقوط مدوٍ هذا الذي يشهده مجلس النواب اللبناني. ليس سرا أن قانونا نسبيا يعتمد لبنان دائرة انتخابية واحدة، هو الحل لتغيير طبقة متسلطة على رقاب الناس، تتوارث السلطة بالذهنية البائدة ذاتها منذ عام 1943. ومع ذلك يبدو الحل ممنوعا، ومؤجلا حتى يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود في سوريا.لبنان التابع، ستبقى توازناته مجمدة، مهما اختلفت أهواء الناس وتطلعاتهم، سواء بالتمديد للمجلس النيابي سنة أو اثنتين، أو بإجراء انتخابات وفق قانون الستين البائس الذي لا ينتج غير الحروب، أو حتى بقانون آخر يحقق معادلة الـ«لا غالب ولا مغلوب» التي تطلبها المرحلة.حفنة من المحتجين فقط لا يتجاوز عددهم العشرات يتظاهرون، من أجل قانون انتخابي جديد وعصري، لا يتخذ الناس قطعانا يتم توزيع رؤوسها كحصص في سوق النخاسة. اللامبالاة الشعبية مستفزة أكثر مما هي الطريقة المقززة التي يعبر بها نواب يتنافسون صراحة، على وصف جلساتهم ومناقشاتهم ومؤتمراتهم الصحافية بأنها حفلات تكاذب ونفاق. ثمة إحساس بأن ما يفعله الساسة لا يعني غيرهم. وصف ميشال عون انتخابات عام 2000 بأنها أنتجت أبشع المجالس النيابية وأصبحت بيروت بسببها كـ«السندوتش» بحيث ابتلعت الأكثرية الأقلية. ينسى الجنرال أن هناك من نواب الأمة الحاليين، وبالمهازل المخجلة التي يمارسونها بحق من أولوهم ثقتهم، حولوا لبنان كله، المهدد بالفراغ في مؤسساته وكيانه، إلى «سندوتش» بحيث يلتهم أصحاب السلطة الشعب، بشراهة مقززة.
نقلا عن الشرق الاوسط
نقلا عن الشرق الاوسط
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق