اللغة بين
المنطوق والمكتوب
الخلافات بين
اللغة من حيث هي صوت وبين اللغة من حيث هي خط كثيرة، متنوعة، قد لا يدركها المرء
للوهلة الأولى أو لا يدرك أهميّتها على مستوى الدراسة الصوتية. خلافات بعضها
يتناول الشكل وبعضها الآخر يتناول الجوهر. سوف نعرض بعض هذه الخلافات لنظهر ضرورة ما
يعرف بالكتابة الصوتيّة العالمية في دراسة اللغة وهي الكتابة التي توافر على صوغها
مجموعة من كبار علماء اللغة في العالم لتكون كالكلام المرئي.
1 - اللغة في الأساس
صوت قبل ان تكون خطا. ومقولة ابن جني ان اللغة أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم،
مقولة مدركة لجوهر اللغة المزدوج أي الصوتي و التواصلي في آن. والى اليوم ثمة لغات كثيرة مستعملة ليس لها
معادل مكتوب ومع هذا فانها تفي باغراض الناطقين بها وتقوم بوظيفتها الإنسانية
التواصلية دون استشعار أصحابها إلى ضرورة تسجيلها أو كتابتها.
2 - من
الخلافات الظاهرة بين النمطين التعبير الكتابي والصوتي هو صلة كل من النمطين
بالزمان والمكان. فالصوت عملية زمانية تعاقبية، متتالية اذ لا يمكن لي ان اسمع
الكلمة وما يليها في وقت واحد. بينما بامكاني ان أرى في وقت واحد كلمتين أو أكثر
في نص مكتوب أمامي.
ان الكتابة
محكومة بعنصر المكان أو بحامل يحتل حيزا مكانيا مرئيا، وبطيئا. اليد الكاتبة لا
تملك سرعة الفم الناطق. أما الكلام فانه محكوم بالزمن كما انه محكوم بالهواء كحامل
طبيعي له. حيث لا هواء لا صوت ولكن حيث لا هواء لا إنسان أيضا.
للصوت مسار
واحد. أما الكتابة وبحكم إنها اعتباطية تختار المسار الذي تريده. من اليمين إلى
اليسار كما في حالة العربية والفارسية أو من اليسار إلى اليمين كما في حالة
الفرنسية وغيرها أو من الأعلى إلى الأسفل كما في اليابانية مثلا. دون ان يؤدي هذا
الاختلاف إلى عدم مقروئية المكتوب.
3 - الحضور
والغياب من علامات الخلاف أيضا بين المكتوب والمنطوق. فالمنطوق يتطلب بل يشترط حضورا
(من هنا المحاضرة المتسمة بالحضور وبالصوت معا) متزامنا للطرفين المتكلم والمستمع
بخلاف المكتوب الذي لا يتم اغلب الأحيان إلا في ظل غياب طرف من الطرفين.(أقول اغلب
الأحيان لأنّ الدردشة على الانترنت قضمت قليلا من هذا الشرط )مع ما يعنيه ذلك من
احتمالات كثيرة منها: عدم وصول المكتوب، أو عدم الرد عليه في حال وصوله وعدم
معرفتي برد فعل المتلقي عليه مما يجعلني عاجزا عن استغلال مفهوم التغذية الراجعة
لتغيير مسار رد فعل المتلقي.من هنا ثمة التباس في هوية المكتوب فهو من ناحية يخرج
من محدودية الزمن المحكوم بها الصوت ولكنه يسقط مجددا في فخ الزمن بحكم الانتظار لتحقيق
الغاية التواصلية من هنا شبه Fernand Carton وهو عالم بالصوتيات الكتابة بالمونولوغ والكلام بالديالوغ.
4 - المكتوب
يقوم على الابتسار. لان الكتابة قاصرة من ناحية تركيبتها عن تصوير كل خلجات الصوت.
وما علامات الترقيم إلا حالات يائسة وناقصة للتعبير عن التنوعات الصوتيّة القائمة
على النبر والتنغيم والتغيير في طبقات الصوت علوا وانخفاضا. من هنا نرى في
الكتابات دائما إضافات ليست من صلب الكلام . ثمة في الكتابة ما هو نقل للصوت ونقل
لما هو مصاحب للصوت من أمور غير صوتية أو بتعبير آخر ما يعرف بالفارق صوتي suprasegmental trait وهذا ما نلحظه ونحن نقرأ رواية أو مسرحية على سبيل المثال. وإزاء الإضافات
ثمة حذف أيضا لأمور لا نعتبرها من صلب الكلام كالترديد لبعض الكلمات أو بعض
المقاطع من كلمات لا تكتمل نعدل عن استعمالها في وسط القول وكذلك تلغى العبارات
الاستفهامية التي تعبر عن التواصل المباشر (مهيك؟ عرفت كيف؟ انفهمت الفكرة؟). بغض
النظر عن حسنات أو سلبيات هذه المسألة فانه لا يمكن لنا ان نكتشف أو نكشف طلاقة
هذا الشخص أو ذاك من خلال خطه. لان امام الخط فرصة التعديل والتغيير والتراجع أو فرصة
الكتمان كتابتها والاحتفاظ بها اما الكلمة المنطوقة لا يمكن لي ان اكتمها بعد
التلفظ بها، فمجال تخبئتها غير ممكن.من هنا يقال ان للجدران آذانا ولا يقال ان لها
عيونا مثلا. كما ان الكتابة تذوب الفرو قات الصوتيّة اللهجية الخاصة بالانتماء
الجغرافي أو الاجتماعي فنحن نعرف بالمران والسماع صلة الصوت بالشخص. وهذا أمر غالبا
ما يتوارى أمام الشكل المكتوب الواحد للأصوات المتعددة. أي لا يمكن لنا ان نتبين
الفونيم من الألوفون.
5 - وثمة خلاف
على مستوى الكلمة. ليس في الكلام تقطيع للمفردات فنحن حين نتكلم لا نفصل بين كلمة
وأخرى بوقف إلا لضرورات تنفسية أو بلاغية. أننا غالبا ما ندمج كلمة بأخرى اثناء الكلام
مما يغير من طريقة خواتم أصوات الكلمات اما في الكتابة فإننا نترك فراغا بين كلمة
وأخرى أي أننا هنا نتعامل مع الكلمات كوحدات منفصلة وليست كمقاطع تتحكم بالنطق بها
قوانين صوتية لا تتماثل مع القوانين الإملائية أو الكتابية.
لا يوجد شعب
لديه مشكلة مع أصوات لغته ولكن بالمقابل يكاد لا يوجد شعب ليست لديه مشكلة مع
كتابة أصوات لغته. وتأجيل حل المشكلة أو عدم الرغبة في حل المشكلة لا يعود لأسباب
لغوية بقدر ما يعود لأسباب حضارية، أيديولوجية، دينية، سياسية. العادة طبيعة ثانية،
ليس من السهل تغييرها أو استبدالها. واغلب الأحيان تكون الظروف غير مؤاتية للقيام
بخطوة فعلا جبارة وجريئة لإصلاح الكتابة. لان الإصلاح يتطلب حضورا متناغما وتنسيقا
بين ما هو سياسي وديني وتاريخي . والإقدام على هكذا أمر لا يكاد يتوفر في لحظة
واحدة. كما ان هناك ناحية مهمة هي الفرق بين دينامية المنطوق وثبات المكتوب. لكأن
الصوت يتطبع بطباع الحامل له أو الناقل له وهو الهواء. كما انه يتأثر بطبيعته ذات
السرعة الفائقة بخلاف المكتوب الذي يرزح تحت عبء الحامل الثقيل والبطيء. وهذا يعني ان الفارق سوف يظل بين المنطوق
والمكتوب بحكم طبيعة المنطوق المتغيرة باستمرار.
6 - خلاف أيضا
من حيث التمثيل. فالصوت إشارة أو رمز عن شيء ذهنيّ ككل الكلمات التي تشير إلى أمر مجرد
أو عيني ككل ما يدرك بالعين بينما الكتابة هي رمز للصوت أي إنها رمز لرمز. وبمعنى
آخر الصوت المنطوق رمز أول في حين ان الصوت المكتوب رمز ثان. وشرط وجود الثاني هو
وجود الأول. وما نراه من كتابات للغات ميتة كالهيروغروفية على سبيل المثال ليس
أكثر من اثر للرمز الأوّل.
الخلاف بين
الصوت والكتابة يكمن أيضا في كون علاقتي بالصوت هي علاقة فم بأذن بينما على صعيد
الكتابة فان العلاقة ليست بين الفم والأذن وإنما بين عين(متحركة) وورقة(ثابتة)
تقوم مقام الفم (المتحرك) وليس بين الفم والأذن عائق بينما ثمة عائق محتمل بين
العين والورقة هو الظلمة.
نظرة العرب إلى المكتوب.
والعلماء العرب
القدامى كانوا يدركون الفرق بين المكتوب والمنطوق مع تفاوت ما بينهما إذ قرنوا
العلم الصائب بالمشافهة بينما اشتقوا من كلمة الصحيفة مفردة التصحيف أي التشويه،
تغيير الأصل وهذا يدلّ على عدم ثقة العرب بالمكتوب لأن في طبيعة الحرف ميلا
للانحراف انه كذاب من سلالة خلف الأحمر ومراوغ وما تعدد الاحتمالات الإعرابية
للجملة الواحدة إلا ضرب من مراوغة الكتابة.اذ يقول كمال بشر ان المثال الواحد في
الموقف المعين لا يمكن بحال ان يقبل غير وجه واحد من الإعراب ولكن بإسقاط أسباب
القول أو سياقات القول أو ملابسات القول في الكتابة تجعل الالتباس ممكنا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق