الأحد، 4 أغسطس 2013

حوار مع عبد الفتاح كيليطو

لعل المغربي عبد الفتاح كيليطو، هو اليوم من أهم النقاد العرب وأكثرهم تمايزاً وحنكة. كثيرون لا يعرفونه ربما، لأنه اختار الظلال على بهرجة الأضواء، ونشر القليل من الكثير الذي كتبه، بعد ان غربل كلماته والأفكار. لكن القراء المحترفين والباحثين عن الثمين لا بد أن يتصيدوا كتب كيليطو الصغيرة المكتنزة التي تصدر بين الحين والآخر، كما لو أن كلماتها انتقيت بدقة جوهرجي حاذق. يقيم كيليطو في «جزيرة الكنز»، كنز الأدب العربي القديم والحديث، الذي جاهد في إخراجه إلى جمهور القراء. قليل الكلام هادئ الطباع، مزدوج اللسان، خبر عوالم البر والبحر، الخفاء والتجلي، النص واللا نص في ثقافة عربية، عششت فيها طيور النسيان. فمنذ «الأدب والغرابة»، مرورا «بالكتابة والتناسخ» أو«خصومة الصور»، وصولا إلى «حصان نيتشه»، استطاع أن يعيد الاعتبار للمقامات ولـ «ألف ليلة وليلة»، ولأبي العلاء المعري والجاحظ، وللصورة أيضا.
ناقد أديب أو أديب ناقد، يكاد القارئ يحار كيف يصنف، هذا الباحث الذي لا يتعب من النبش ومفاجأتنا، بخفايا النصوص وأسرارها. لكن ما الذي شكل خلفيات كيليطو المعرفية؟ وما الذي دفع به إلى هذا النهج النقدي الماتع؟ وما الذي يحضر له حالياً؟

> بداية، ما حكايتك مع الأدب؟
ـ المفارقة أنني اكتشفت الأدب بفضل المنفلوطي. التهمت كل ما كتبه وتبين لي وأنا أقرأه أن لغة الأدب لغة خاصة، تختلف عن لغة الحياة اليومية، أي أن هناك طريقة مميزة في الكتابة والتفكير عندما يتعلق الأمر بالأدب. ممّا يعني أن من يكتب نصا أدبيا يخضع لأنساق ثقافية وجمالية وايديولوجية محددة؛ وأحيانا لا يعي خضوعه لهذه الأنساق. إذن اكتشفت الأدب على يد المنفلوطي، صرت أكتب مثله، أقلده، لكن في مجال الإنشاء المدرسي. كان الأساتذة يعجبون بتفوقي في هذه المادة، وكانت هذه بركة المنفلوطي علي. (يضحك). لكنهم، مع ذلك، كانوا ينظرون إلي بالكثير من الريبة طارحين سؤالا ملغوما: «هل أنت صاحب هذا الكلام؟». طبعا، السؤال معقول عندما كنت أقوم بهذا التمرين في بيتي، لكنه كان يلازمني حتى وأنا أكتب إنشائي خلال الامتحانات المحروسة، حيث يستعصي ويستحيل علي أي كان أن يستعين بكتب أي كان. في هذا السياق، سياق الريبة والشك في كلامي، اكتشفت أنني كاتب. فأخذت أكتب في مواضيع حرّة، أي تنبع مني وليس من الأستاذ. وكما يستدعي المنطق ذلك فكّرت في النشر. كنت في سن الرابعة عشرة لما نشرت قصتي الأولى باسم مستعار. بعثت بقصّة ثانية باسمي الحقيقي، فلم تنشر، فتركت النشر منذئذ. هذا فيما يتعلق باللغة العربية.
> وماذا عن الفرنسية؟
ـ في نهاية الخمسينات وبداية الستينات، كان التعليم في المدارس المغربية مزدوج اللغة في كل المراحل؛ فكان لي ـ ولغيري ـ تقريبا المستوى نفسه في اللغتين العربية والفرنسية. والغريب أنني اكتشفت الأدب الغربي عن طريق الأدبين الأميركي والإنجليزي. في تلك الفترة، لم تكن هناك مراكز ثقافية فرنسية، فانخرطت في المكتبة الأميركية التي كانت تقع آنذاك في شارع علال بن عبد الله في مدينة الرباط. كانت جل الكتب بالإنجليزية، باستثناء جناح فيه كتب باللغة الفرنسية. وهناك قرأت كتبا رائعة ما زلت أتذكّرها اليوم بحنين شديد: «موبي ديك» لميلفيل، «روبنسون كروزويه» لدانييل ديفو، «جزيرة الكنز» لستيفنسون، «مغامرات أرتور غوردون بيم» لإيدغار ألن بو. لم أكتشف الأدب الفرنسي إلا لاحقا، عندما أنشئت مكتبة البعثة الفرنسية. بصفة عامة، منذ صغري لم يمر علي يوم دون أن أقرأ كتابا بالفرنسية أو العربية، إلى حد أنه يخيل إلي أنني قرأت كل الكتب، وهذا غير صحيح، طبعا. (يضحك).
> في رحلة الكتابة النقدية، هل هاجرت من يمّ الفرنسية إلى بيداء العربية؟
ـ لم أهاجر أبدا من ثقافة إلى أخرى. كنت مقيما دائما في الأدبين معا. لكن الذي حدث أنني هيأت بحثا جامعيا عن فرانسوا مورياك. فلماذا سجّلت نفسي في شعبة الأدب الفرنسي؟ لأنني كنت أعتبر نفسي ـ بشيء من الغرور ـ أمتلك ناصية العربية امتلاكا تامّا وليس لي ما أتعلّمه فيها! فاخترت لهذا السبب الفرنسية. لم أفقد الصلة بالعربية، لأنني كنت أتمنى أن أكتب بها. وتجدر الإشارة هنا إلى أن النقاش في تلك المرحلة كان يدور حول أسئلة الهوية واللغة الوطنية؛ حتى أن المرء كان يخجل أن يقول إنه يكتب بالفرنسية، ويعتذر بطريقة أو بأخرى إذا كتب بها. لكني كنت أتوقّّّّع دائما أن أكتب في يوم من الأيام أدبا بلغة الضّاد، ومن النماذج المحبّبة لي آنذاك توفيق الحكيم، طه حسين، نجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس الذي أعجبت أيما إعجاب بروايته «شيء في صدري». لكن منعرجات تكويني وحياتي جعلتني أكتب تارة بالفرنسية وتارة أخرى بالعربية، حسب الطّلب والمزاج، ودون تخطيط مسبق. ( يضحك).
وقد كان الخطاب آنذاك في النقد العربي، يدور في جانب منه حول الجذور والأصول، فكنا نسمع أن العرب القدامى سبقوا الأوروبيين في مجالات شتى من المعرفة، كأن يقول محمد مندور مثلا إن عبد القاهر الجرجاني سبق سوسير بقرون في طرح بعض الإشكاليات النظرية للسانيات. وهذا رأي ساذج لا يمكن تبنيه، لأن حقول المعرفة يجب أن توضع في إطارها التاريخي. هذا المناخ الفكري دفعني إلى التفكير في الكتابة بالعربية، فصرت أعمل على تنمية معرفتي بها وبأساليبها وأنساقها الكتابية، والطريق يمر حتما عبر أدب القدماء. فلكي أتعلم الكتابة خيل لي أن هذا هو الطريق الأمثل، فقرأت «المغني اللبيب» لابن هشام، وقرأت النقاد والبلاغيين القدامى...
> لماذا لا يجعلك إلمامك باللغتين العربية والفرنسية تترجم أعمالك بنفسك؟

ـ الانتقال بين لغتين يطرح مسألة ترجمة أعمالي إلى اللغتين معا. كنت أتساءل عن اللغة التي أشعر فيها بقدر أكبر من الرّاحة: أهي الفرنسية أم العربية؟ وعلى عكس ما قد يتخيله بعض القراء والأصدقاء، فإني أترجم بسهولة نسبية من الفرنسية إلى العربية. ولهذا سبق أن ترجمت بعض أعمالي من الفرنسية إلى العربية، غير أني لا أذكر أنني ترجمت كتابة لي من العربية إلى الفرنسية. وهذا هو المعيار الذي يسمح لي بالقول إن ارتباطي بالعربية أشد من ارتباطي بالفرنسية. وكما يقول الشاعر: ما الحب إلا للحبيب الأول...
وفي آخر المطاف، لا أترجم إلا عند الضرورة، لأنني عندما أقوم بذلك يصير النص نصا آخر بحكم التغييرات والإضافات التي قد أدخلها عليه من منطق الكتابة المضاعفة. ثم هناك قضية أخرى تثيرها الترجمة ولا بد أن أشير إليها: فعندما أنشر كتابا بالفرنسية، يترجم توا إلى العربية وأحيانا إلى لغات أخرى؛ أما كتبي بالعربية فتبقى منفية في اللغة العربية. (يضحك). والعبرة التي يمكن ـ بالنسبة للملاحظ المتسرع ـ استخلاصها من هذا المثال واضحة لا تحتاج إلى مزيد بيان.
> اشتهرت بتطبيقك المناهج الغربية الحديثة على الأدب العربي القديم؟ كيف تقيم اليوم هذه القراءة؟
ـ تعلمت ما يسمّى بالمناهج الحديثة من أجل دراسة الأدب العربي وغير العربي. وعلى عكس ما قد يتبادر إلى بعض الأذهان، فأنا لا أشتغل فقط على الأدب القديم، بل كتبت عن الأدب الحديث أيضا، العربي منه وغير العربي. أما القول بأن المناهج الحديثة تسهل دراسة الأدب العربي القديم فمسألة مقبولة لكن فيها نظر، لأنه لا يمكنك أن تدرس التراث إذا لم تكن ملمّا بالأدب الحديث، والعكس صحيح أيضا. وهذا ما نلاحظه عند كبار النقاد من أمثال باختين، وأوارباخ، وأمبيرتو إيكو، وتودوروف. لذا لا يمكن أن أعتبر نفسي مختصا في الأدب القديم، بالرّغم من أنني كتبت عن «ألف ليلة وليلة» و«المقامات»... فالمناهج الحديثة ينبغي دائما وضعها بين مزدوجتين باعتبارها أدوات إجرائية، منفعتها نسبية، وليست أدوات سحرية تحقق ما نتمناه. إن الأدب يدرس على ضوء الأدب، وقد يدرس على ضوء علوم أخرى. (يضحك). وهنا تحضرني مقولة للكاتب الروماني الأصل، سيوران: «قد يستفيد الشاعر من قراءة كتاب في «علم النبات» أكثر من استفادته من قراءة ديوان شعر».
> أي ان على الناقد ان ينوع قراءاته؟
ـ على الناقد، أحيانا، أن يبتعد عن الأدب من أجل الاقتراب منه وتناوله بصفة عميقة. الدراسة الأدبية الجيدة هي تلك التي تكون «ضرورية»، وعلى الكاتب أن يحسّ بهذه الضرورة. إنه يحس بها، ولكنه يتغافل عنها أحيانا فيكتب ما يعن له، يكتب أشياء غير ضرورية وينشرها. وقد يأتي عليه يوم يندم فيه على تسرعه بالنشر. شخصيا أكتب كثيرا، لكني لا أنشر إلا القليل؛ أنشر ما يبدو لي «ضروريا» في وقت من الأوقات وأمزّق ما يبدو لي عرضيا.
ومن جهة أخرى، كنت ملزما بالاهتمام بالعلوم الإنسانية نظرا لأن مهنتي هي تدريس الأدب، وعلى الخصوص الرواية الفرنسية الحديثة. ودرس الأدب، كما تعلم، يكون خصبا عندما يتم على ضوء الأسئلة التي تطرحها السوسيولوجيا وعلم النفس واللسانيات. وقد مكّنني تكويني الأكاديمي واطلاعي المتواصل على مجلة «بويتيك» الفرنسية من رصيد من المعرفة النظرية انضاف إلى معرفتي الأدبية التي تراكمت بفضل قراءتي لنصوص أدبية من آفاق مختلفة. ولعل هذا ما يفسر الصبغة الأدبية لأبحاثي الجامعية ودراساتي عن الأدب. ولعل هذا ما يفسّر أيضا أن كتاباتي «الإبداعية» مفعمة بقسط من التنظير. فعلى سبيل المثال، الكثير من القصص التي كتبتها تستلهم قصصا لمؤلفين سابقين، عرب وأجانب. أما لغة الكتابة النقدية فلا تنفصل عندي عن لغة الإبداع. مثلا في كتابي «خصومة الصور»، قد يطرح السؤال: هل الكتاب قصة أم دراسة نقدية. ويمكن أن نقول الشيء نفسه عن «حصان نيتشه» الصادر أخيرا.
> كيف ترى المنظومة النقدية العربية الراّهنة؟
ـ لا يمكن اليوم لكاتب عربي أن يمكث في منظومته المحلية ويكتفي بها. قد يستطيع الأديب الفرنسي أن يبقى أسير منظومته الثقافية، لكن زميله العربي لا يستطيع ذلك وإلا سيحكم على نفسه بالموت قبل الولادة. ثم ما هي المنظومة العربية؟ إنها مزيج من التيارات والتأثيرات والإحالات المتعددة؛ ليس هناك منظومة نقدية عربية صرفة، لم تكن موجودة فيما مضى ولا توجد اليوم أيضا. وعلى افتراض وجودها، فهي تتكون وتتطور وتفكر في ذاتها من خلال حوارها المستمر ومجابهتها المتواصلة لمنظومات أخرى، وخير مثال على ذلك الجاحظ وابن رشد. كيف يمكن أن نكتب تاريخ النقد الأدبي العربي، إذا لم نأخذ بعين الاعتبار تاريخ النقد الأدبي الغربي؟ وكيف يمكن أن نؤرخ للأدب العربي دون التأريخ للأدبين الفرنسي والإنجليزي؟ لهذا يبدو لي من الصعب أن يستعمل المرء عبارة مثل «الكتابة العربية» أو «الرواية العربية» أو «الشعر العربي»؟ وأقصد هنا بالضبط الأسلوب، وليس التحديد الجغرافي. فهل هناك أسلوب عربي في الرواية المكتوبة بالعربية؟ أو لنطرح السؤال بصيغة أخرى: ماذا أضافت الرواية العربية أسلوبيا للرواية العالمية؟
> لماذا لا يهتم الغرب، في نظرك، بأدبنا؟
ـ في الوضع الحالي، الغرب ليس ملزما بمعرفة ما نكتب، إذ لا حاجة له بنا. لذلك، فالكاتب العربي هو الملزم بمعرفة الأدب الأوروبي ومستجدات الأدب العالمي. وهو يعرف في كثير من الأحيان الأدب الغربي معرفة جيدة، وفي قرارة نفسه يعلم أنه يمتلك شيئا زائدا، إضافيا، هو الأدب العربي الذي لا تعرفه أوروبا. فالأدب العربي بالنسبة للناقد العربي معطى متجاوز وحي في الوقت نفسه، معطى عرضي وأساسي. وقد يلح عليه السؤال الآتي: «ماذا أفعل بمعرفتي بالأدب العربي عندما أكون في فرنسا أو أوروبا؟»، خصوصا وأنت تعرف أنه لا يمكنك أن تذكر المتنبي أو أبي العلاء المعرّي، لأن لا أحد سمع بهما هناك. إذن الموضوع شبه الوحيد الذي يمكن أن تتحدث فيه في أوروبا هو «ألف ليلة وليلة». فوجودنا وثقافتنا مختصرة في هذا الكتاب. رغم أن ديوان العرب هو الشعر وليس النثر. لكن الشعر العربي لا يترجم، أي لا ينتقل إلى لغة الآخر. وحتى عندما يترجم يبدو تافها مضحكا. فمثلا عندما ترجم أنطوان غالان «ألف ليلة وليلة» إلى الفرنسية في بداية القرن الثامن عشر لم يترجم ما في الكتاب من أبيات شعرية. وهكذا تكونت عند الأوروبيين فكرة مجملها أن العرب أهل سرد وقصة؛ بينما يعتبر العرب أنفسهم شعراء أولا وقبل كل شيء. هل يرضى العربي أن يختزل وجوده في «ألف ليلة وليلة»؟
> لكن سؤال الترجمة تغير اليوم عنه بالأمس؟

ـ بطبيعة الحال، اهتم الجاحظ كثيرا بتعريب الحكمة الفارسية واليونانية والهندية، لكنه أعلن أن الشعر العربي لا يجوز أن يترجم. هل كان شعراء القرن الثالث والرابع يرغبون في ترجمة قصائدهم إلى لغات أخرى؟ هل كان المتنبي يتمنى أن يترجم؟ قطعا لا. لو اقترح عليه أحدهم ترجمة قصائده إلى لغة من لغات العالم لاستشاط غضبا (يضحك). وكذلك أصحاب الكتابة النثرية والفلاسفة لم يكونوا يهتمون بترجمة إنتاجهم؛ كانوا يعتنون بترجمة المعرفة الأجنبية إلى العربية، كانوا يترجمون أمهات الكتب إلى لغتهم، إلا أنهم لم يكونوا يبالون أو يحفلون بترجمة كتبهم، ربما لأن العالم كان آنذاك يتكلم العربية، كما يقول البعض. هذا في الماضي، أما اليوم فانقلبت الآية، حيث صار جل الكتاب يجرون وراء ترجمة أعمالهم إلى لغات أجنبية، بل ربما لا يتم الاهتمام بكاتب إلا إذا ترجم أو حصل على جائزة أوروبية. إذن ما تغير في الأدب العربي اليوم هو علاقتنا بالترجمة، أي بالغرب. في الماضي، لم يكن يعبأ ابن رشد بأن يترجم، لكن لو عاش بين ظهرانينا اليوم لتغيرت أحواله. ولقد تناولت هذه المسألة بشيء من التفصيل في كتابي «لن تتكلّم لغتي» الذي صدر عن «دار الطليعة».
> القراءة ملح كتابتك. ماذا تقرأ الآن؟ ما أقرب كتبك إلى نفسك؟
ـ لا أقرأ أبدا كتبي بعد نشرها. وقد يفرض عليك القراء أحيانا أن تهتم بكتابات لم تكن توليها أهمية كبرى سابقا. وهذا ما حدث مع كتابي «الأدب والغرابة» الذي صار كلاسيكيا، أي يدرّس في المدرسة. هناك كتاب آخر أحبّ إلى نفسي هو «المؤلف ومضاعفوه» ـ ترجم تحت عنوان «الكتابة والتناسخ»، لكن الاهتمام به ظل فاترا. فمصير الكتاب، أي كتاب، بيد قرائه في نهاية الأمر.
أما عن قراءاتي الآن، فأنا في سن لم أعد فيها أكتشف أشياء جديدة. كـل ما أفعله أنني أعيد قراءة ما قرأت في الماضي. القراءة بالنسبة لي حاليا هي إعادة القراءة. (يضحك). ولو سألتني عما قرأته مثلا من الإصدارات الأدبية الفرنسية خلال السنوات الأخيرة، لقلت لك: لا شيء، أو لفكرت طويلا قبل أن أعثر على جواب! وإجمالا فإن الكتاب المثالي هو الذي تعيد قراءته إلى ما لا نهاية ويصاحبك طيلة عمرك. وأظن أن لكل قارئ مجموعة كتب قيمة، تكون عكاز طريقه في الحياة. وسأباغتك، وربما أباغت بعض القراء، إذا قلت لك إن ما أقرأه اليوم هي روايات سيمينون وأغاثا كريستي. والعجيب أن سيمينون كان يكتب رواية بوليسية في الأسبوع الواحد، وكان أندريه جيد يحسده ويغار منه، في الوقت الذي كان رائد الرواية البوليسية يتمنى أن يكتب عنه أندريه جيد.
> والقراءة، هل لها عندك من طقوس محددة؟

ـ دائما فيما يخص القراءة، عندي منها ضربان: نهارية وليلية. خلال النهار أقرأ كتبا بالعربية، وفي الليل أقرأ أخرى بالفرنسية، وهذا النظام، رغم صرامته، لا يمكن لي تفسيره منطقيا. فهل قراءة النهار هي قراءة العقل وقراءة الليل هي الحلم؟ لا أدري. بصفة عامة لا أقرأ كتابا إلى آخره، بل مقاطع من عدة كتب في اليوم، وذلك حسب انشغالاتي الآنية. والكتاب الذين رافقوني ويرافقونني هم في العربية: ابن حزم، التوحيدي، الجاحظ، المعري، ابن الزيات («كتاب التشوف»)، عبد الله العروي؛ وفي الفرنسية: رولان بارت، كافكا، كالفينو، كونديرا، جول فيرن. وبما أن القراءة أخت الكتابة الشقيقة، فجديدي هو كتاب عن «الأدب والارتياب» سيصدر قريبا عن دار نشر «توبقال». وأطرح في هذا الكتاب سؤالا هو: لماذا يمثل الكاتب في ثقافتنا مصدر ريبة؟ بل لماذا يعتبر الكاتب نفسه محل ريبة، بصفة شعورية أو بصفة لا شعورية؟ ثم لماذا ترتبط الكتابة بشعور مبهم بالذنب إلى حد أن الجاحظ يقول إن على الكاتب أن يعتبر الناس كل الناس أعداء له؟ وأخيرا ما بالنا نقرأ أحيانا كتبا معينة ونحن نكاد نموت رعبا أثناء قراءتها؟
عن جريدة الشرق الاوسط

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق