الثلاثاء، 9 أغسطس 2016

كيف أقرأ؟

منذ مدّة وأنا راغب في كتابة تجربتي الشخصية في القراءة.
تجربة بسيطة، لا أنكر ذلك، ولكنها طريقة شخصية صاغتها ظروفي الشخصية.
لولا ظروفي لكنت أقرأ بطريقة مختلفة ولربّما كنت لا أقرأ أصلاً لا سمح الله.
ولكني راض عن طريقتي في القراءة.
ولو عدت الى الوراء لما كنت استغنيت عنها كرمى لعيني نمط آخر في القراءة.
تعلمت القراءة من تحويش الزيتون، ومن فرطه، ومن تعفيره، وتعلمت القراءة من بستان جدّي في المرجة، ومن طريقة أبي في الطبخ، وتعلمت القراءة من مطعم والدي.
وتعلمت القراءة من الفقراء الذين ينبشون في مستوعبات القمامة.
وتعلمت القراءة من الذين لا يحسنون القراءة.
وتعلمت القراءة من عملي الصحافيّ في باريس، حين قال لي مدير تحرير مجلّة الفرسان  التي كانت تصدر في باريس جورج ساسين: اكتب الطريف، ورحت ابحث عن الطريف في بطون الكتب وفي عادات الناس، وتقاليد الشعوب، مستلهما في كتابتي طريقة ابي تمام في اصطياد الاستعارات البعيدة، أحبّ أن اكتب ما يُشعر القارىء انه عليه أن يفرفك عينيه، أن تندهش عيناه من المعلومة التي اقولها له تماما كما فعلت بي المعلومة نفسها، فما لا يهزني لا اكتبه، أكتب ما يعنيني، اكتب عن الاشياء التي تفتنني، كتبت مرة عن تنكة ببيسبي فتنني من يحولها الى تحفة فنية، وكتبت مرّة عن دهّان رأي في سطل البويا ألفبائيات لونية وحراريّة، يفتنني ما لا طعم له، ولكن مع الوقت تكتشف طعم ما لا طعم له، ولا ننتبه إلى أنّ ما لا طعم له هو أصل الحياة وسرذها، شيء لا طعم له، ولا لون، ولا رائحة، وعنيت الماء.
القراءة ماء، والماء لا ينحصر في مائيته، يتحوّل، يغيّر مكان إقامته، من يتابع حركة قطرة الماء ينذهل لتحولاتها التي لا تنتهي، إسأل ثلوج الأرز، واسأل غيوم السماء، واسأل المياه الجوفيّة.
القراءة تحولك الى قطرة ماء بكل حالاتها.
طريقتي في القراءة هي، في العمق، خوفي من الألزهايمر.
تعلمت القراءة من ولعي بحبّة الحمّص وحبّة الفول.
اكتشفت ان بناء علاقة حواسية مع الكتاب هي علاقة تغنيك.
سألني اليوم زبون كان يأكل في مطهم والدي: إسّاتك عم تقرا؟
سؤال يزعجني وكأنّه يقول لي: ألا تزال على قيد الحياة؟ أو كأنّ للقراءة مدّة صلاحيّة، وفي يقيني ان مدّة صلاحيّة القراءة تنتهي مع لفظ الأنفاس الأخيرة لتبدأ مجدّدا مع المكتبة الفردوسيّة!
بنيت منذ زمن بعيد علاقتي مع القراءة على أسس لا علاقة لها ظاهرة مع القراءة. ورغم عشقي للكتب، وهو عشق بلغ حدّ الهوس والإدمان، الاّ اني افضل القراءة على الكتب!
القراءة خير من الكتاب!
ورغم اني اعيش في مكتبي بين آلاف الكتب، الاّ اني لا احبّ ان انحبس بين دفوف الكتب ورفوف الكتب.
ولعلّ الكلمة التي قالتها لي ابنتي أسيل ذات يوم هي التي تعبّر عن طريقتي في القراءة. دخلت ذات يوم مكتبي، وراحت تتجوّل بين الكتب، ثمّ قالت: يا بابا ان من يدخل الى مكتبتك لا يعرف ما هو تخصّصك! 
احبّ القراءة الابجدية وغير الابجدية.
يتحوّل صحن التبولة في نظري الى نصّ يقرأ بالفم، وتحلل عناصرة في الفم.
افتت المذاق الى مكوناته، تماما كما افتت مكونات النصّ حروفا وكلمات وجملاً.
اقرأ الاعلانات، والنعوات، واليافطات، وما يكتب على زجاج السيارات، والحيطان او ما يعرف بالغرافيتي، وعلى بدن الشاحنات، والشعارات، والصور، والمنحوتات، كلّ العالم أبجدية.
يضحكني من يضحك على كتب الطبخ، وكتب التنجيم، واقوال الأفلاك.
كل شيء يُقرأ، كل شيء يَقرأ ( القارىء مقروء، والمقروء قارىء) حبة الرمل، حصاة على قارعة نهر، صدفة بحرية، تموجات الماء في النهر او البحر.
احب قراءة الاشياء الصغيرة، التافهة، البسيطة، تماما كما احب تأمّل الاشياء الصغيرة، الصغيرة التي لا تراها عيني، ومنى عيني عدسة كاميرا تريك ما لا تراه، كأن تتجوّل في عيني نملة، أو أنبوب النحلة الذي تسحب به الرحيق.
مناي شراء عدسة ماكرو، أن أرى الدنيا من وراء عدسة ماكرو ماكرة.
الى الآن لم أقل كيف أقرأ، لا أزال في " ماذا أقرأ" .
حين أكون في عالم القراءة أعيش تحولات روحية ونفسية وجسدية ، وحالات لا اذوقها في غير مطارح القراءة.
لا أشبع من القراءة، أنام في كل يوم حالماً بمتابعة القراءة في اليوم التالي.
أقرأ وأقرا وأقرأ وأشعر في ختام الوقت أني لم أقرأ.
اني لا ازال في الحرف الأوّل من نصّ مديد لا ينتهي.
أدهشني بورخيس حين قال: انه لا يتصوّر الجنّة غير مكتبة.
وان الكون مكتبة حلزونية طالعة الى السماء.
وادهشتني فرجينا وولف حين قالت: إن الله ، في الآخرة، لن يعتذر الاّ من القرّاء، لأنّه لا يستطيع ان يكافئهم بشيء، لأنّ الجنة مكتبة، اي ذهابهم الى الجنة لن يغيّر من أمر حياتهم شيئا.
القارىء ينتقل من جنّة إلى جنّة. 
القراءة وجع لأنّها شوق دائم الى ما لم يقرأ.
والشوق لاهب!
والشوق حارق!
والشوق رغم كلّ شيء هو أجمل ما تشعر به روح في جسد!
( هذه مجرد خواطر ومقتطعات، اعرف اني لم اقل بعد كيف أقرأ، ولا كيف اكتشفت طريقي في القراءة. اترك الأمر لتدوينة لاحقة).
أنا بكلّ مكوناتي السلبية والايجابية ابن طريقتي في القراءة.
وكتابي #لعنة_ بابل هو قطعة من بازل طريقتي في القراءة.
ولعلّ سرّ ولعي العميق بالقراءة سببه انها تكشف لك جهلك، حجمك الحقيقي، تهزّ أمامك عصا تقول لك: انتبه، لا تغترّ، فأنت تعرف انك لا تعرف.
وهذه المعرفة لا تعطى الاّ للمصطفين.
أعرف أني لم أقل بعد كيف أقرأ بالتفصيل، ولكني أوجز الفكرة بالقول: أقرأ بنفس الطريقة التي آكل فيها.
هل القراءة أكل؟
القراءة تشبه الترويقة والغداء والعصرونية والعشاء، وتشبه السحور والإفطار في رمضان، والصيام في رمضان ليس امتناعا عن الطعام بقدر ما هو زيادة في الطعام والتنويبع.
والأكل مشويّ ونيء ومسلوق ومقليّ، والأكل لحوم وخضار وفواكه، وهكذا تتنوع القراءة بقدر ما تتنوّع المآكل.هناك كتب كالعصير، كتب تشبع العرقسوس او الخرنوب او البيبسي او البيرة او الويسك! أليس هناك كتب "تسكر" وكتب " تروي" ، ، الغليل . حتى الكتب التافهة لا تخلو من فائدة، وهذا درس تعلمته من ابن الجوزيّ صاحب كتاب أخبار النوكى والمغفلين،  
والأكل قد يكون دواء، أي أكل ما تعافه النفس، لهذا أقرأ ما تعافه نفسي او ذائقتي، وكم يلذّني قراءة ما لا احبّ ثم أكتشف متعة في قراءة ما لا احبّ. 









ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق