الكلمة التي اخترتها عنوانا لهذا المقال هي من الكلمات
التي قرأتها في نصّ مكتوب على إحدى صفحات الفايسبوك، وهذه الخاطرة التي كتبتها هي
بنت هذا الخطأ. الخطأ أستاذ حكيم يلفت نظرك إلى أمور لا تخلو من قيمة، وكثيرون في
هذا العالم من كتاب ومبدعين ومخترعين لا ينكرون فضل الخطأ على مسارهم، بل أحيانا
يكون هو المنعطف المصيري الإيجابيّ في حياتهم. وتعجبني كثيرا تلك الكتب التي تنظر
إلى إيجابيات السلبيّات أو حسنات المساوئ، ولقد كان العرب من السبّاقين في التأليف
حول هذا الموضوع، فهناك كتاب قيّم للبيهقيّ بعنوان "المحاسن والمساوئ"، وكتاب "المحاسن والأضداد" المنسوب للجاحظ، وكتاب
الثعالبيّ الموسوم "الظرائف
واللطائف في المحاسن والأضداد"،
والفكرة التي تقوم عليها هذه الكتب هي البحث في خبايا السلبيات عن الإيجابيات،
والبحث عن الإيجابيات والمنافع فيما هو ضارّ. فليس هناك حسنة لا تنطوي على سيئة،
وليس هناك مضرّة إلاّ وفي طواياها منفعة، واللطيف في هذه التصانيف عن الأضداد هو
أنّها تميط عن عينيك غشاوة المألوف والمعتاد وتريك ما لم يكن يخطر لك ببال، كما
هناك كتب تجذبني عناوينها المريبة من قبيل " مديح الفشل" أو " مديح
الكسل" وهي أي هذه التآليف إن نظر إليها المرء بعيني الجاحظ او البيهقي او
الثعالبي لوجد انها تتمةّ لما ورد في كتبهم. يقال أنّ أوّل عقبة أمام النجاح هي
الخوف من الفشل، فهل يعني هذا أنّ على المرء أن يحبّ الفشل، ويسقط هيبة الفشل،
وللفشل هيبة تصيب المرء،أحياناً، بالشلل! من هنا أجد أن الأخطاء اللغويّة هي فرصة
ذهبية لمعرفة آلية عمل اللغة. ومن هذا المنطلق أكتب هذه الخاطرة التائيّة.
التاء - كما يشهد لها تاريخها المكتوب والمنطوق- ملوان أقصد
انها متلوّنة كالحرباء، وهذا ما يحولها إلى ما يشبه الزئبق فتعسر كتابتها ومعرفة
طريقة أسرها على الورق لدى بعض من يكتب أو من لا يزال يحبو في عالم الكتابة!
التنوين غشّاش يسمعك ما لا
تراه عينك، ويوقع أحياناً أصابعك في حيرة! هناك كلمات كثيرة تنتهي بنون لا وجود
لها في عالم الكتابة، وهذا ما يوقع من لا يقرأ حين يكتب بأخطاء مهضومة.
قرأت كلمة "
صراحة" مكتوبة على الشكل التالي ( صراحتا)، وهنا التخبيص المكتوب ابن قاعدتين
لا قاعدة واحدة! قاعدة التاء وقاعدة التنوين.
التاء العربية تاءان بل قل
تاءات، وسأذكر ثلاث تاءات وليس تاءين فقط، وإن كانت العربية تقول لنا ان هناك
تاءين فقط، كما ان العربية تقول لنا ان هناك واوا واحدة رغم ان الواو هي واوان!
بالنسبة للتاء، هناك تاء
مقيّدة على شكل يدين مغلولتين وهي التاء المربوطة كما نراها في الحرف الأخير من
كلمة "الكلمة" مثلاً، والتاء التي تفتح يديها بعد رفع الأغلال او التاء
الطويلة، وهذه التاء أيضا هي تاءان: تاء أصليّة كما في كلمة "بيت" وهي لا
تعترض على التنوين فتقول " بيتٌ" و " بيتٍ" و "
بيتاً". التنوين بالألف تنوين محتال بخلاف التنوين بالكسر او بالفتح، تسكين التنوين
بالكسر او بالضمّ لا يحبّ الفضائح! بخلاف التنوين بالفتح الذي لا يطير بالتسكين،
ولكن هناك تاء طويلة ترفض الفتح بالألف حين لا تكون أصلية مثل تاء الجمع في "
كاتبات" مثلاً، هنا تلوذ التاء بقاعدة الممنوع من الصرف، والممنوع من الصرف
يرحّب بالتسكين، ويستر على الفضائح، فتقول" طالباتٍ" و "
طالباتٌ" ولكن لا يمكنك أن تقول " طالباتاً" لأنّ الألف هنا ينقصف عمرها وكأنّ ثمّة ضرباً
من الانتقام من التاء الأصليّة!
وبالنسبة للتاء المربوطة
فهي بدورها زعزعت أركان النطق، فصار لها حضور صوتي متعدّد، طورا تراها هاء، أو ما يسمّى
بهاء السكت، ولكن أحياناً تتخلى عن طبيعتها الصوتية وتصير حركة بعد ان كانت حرفاً،
تصير كالياء طوراً، ولكن طورا آخر ولأسباب متعددة، لا تقبل أن ينكسر رأسها، وتحبّ
أن تراه عالي الجبين! فتصير فتحة أو ألفاً!
انظر الى التاء كيف تخرج من
فمك في كلمة ( فايقة/ فايقا)، وانظر الى التاء وهي تخرج من بين شفتيك وانت تتلفظ
باسم ( فاطمة/ فاطمي). لم أقل ( فايقي) ولم أقل ( فاطما).
هناك لهجات ودرجات وطبقات
صوتية كثيرة في اللهجات العربية، ولكن اقتصرت هنا على الأشيع في الأفواه
الطرابلسية. وإن كان هناك قاعدة صوتية لهذه التاء النطناطة تقول: إنّ الذي يحدد توجّه التاء على
المستوى الصوتي هو الحرف السابق لها، فإن كان من حروف "الاستعلاء" تميل الى الفتحة، أنظر في :
بطة، روضة، كيف تخرج من فمك، وان كانت من حروف المسمّاة " الاستفال" فإنها تميل بالتاء إلى الكسر،
وانظر إلى: جميلة، حلوة، علبة.
كيف توصل من كتب ( صراحةً)
على الشكل التالي( صراحتا)؟ أي قاعدة خفية توكأت عليها أصابعه لتخرج التاء على هذه
الشاكلة؟
التاء، لا أنكر، حرف نطناط!
والسبب صوتيّ وصرفيّ ونحويّ ولغويّ أي أنّه صوت أسهمت عدّة أمور في تلوينه لجعله
صوتا متعدداً!
فالصرف قال له: حركتك
مقيّدة، وعليك أن تضرب بمنطق الإعراب عرض الحائط لأن لك إعراباً خاصّاً بك في محلاّت
كثيرة.
التاء، في أوقات، مربوطة، وفي
أوقات، ممنوعة من الصرف!
لم يعتمد كاتب"
صراحتا" على أذنه، لأنّه لو اعتمد على أذنه كما يجب لكان عليه أن يكتبها (
صراحتن) بالنون وليس بالألف؟
لماذا أفَلت النون؟ ولماذا
احتلّت الألف مكانها غير المرموق!
لا تعتمد على سمعك، السمع
غشّاش! استعن بعينك لقضاء حاجاتك الكتابية. وأغلب الظنّ أن كاتب كلمة " صراحتا"
يقرأ، وأغلب الظنّ أنّ كلمة " صراحة" بالطريقة السليمة مرّت تحت ناظريه،
ولكن الإنسان لا يرى دائماً ما يقرأ، يعتمد على ذاكرته ومحفوظاته، والذاكرة كما هو
معروف خؤون!
بلال عبد الهادي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق