الثلاثاء، 23 أغسطس 2016

تحسين القبيح وتقبيح الحسن// تأكيد المدح بما يشبه الذمّ// من أسرار لغتنا العربية


 تحسين القبيح وتقبيح الحسن
عنوان هذا المقال مستوحى من كتاب عربيّ ألّفه الثعالبيّ الذي أغنى المكتبة العربية بعشرات الكتب والمواضيع ولعلّ أشهرها هو " يتيمة الدهر في شعراء أهل العصر".  موضوع الكتاب تناوله العرب في تصانيفهم النثرية والشعرية على السواء .يمكن رؤية فكرة الكتاب من قدمَي الشعر العربيّ: قدم المدح وقدم الهجاء، بالمدح والهجاء كانت تسير بالشعر العربي الركبان .الشعر العربي من فرط ما مدح وتزلّف ومسّح  ‏الجوخ تحوّلت كلمة " المدحة" إلى اسم القصيدة العربية، ومن فرط هذا التزلّف ولد مصطلح "الشعر التكسّبي"، وتحوّل الشعر إلى سلعة تباع وتشترى في أسواق المدح والهجاء كما تباع الجواري في أسواق النخاسة.
صار المديح عمود الشعر العربي! وفي العربية رفعنا الكذب الشعريّ إلى علّيّين، فورد في التعابير الشائعة: " أعذب الشعر أكذبه"، كما جعلنا في مكان آخر " ‏الكذب ملح الرجال" ! رغم كلّ ما قلت يبقى موضوع  "تحسين القبيح وتقبيح الحسن" موضوعاً جميلاً وطريفاً وموضوعيّاً، أو قل: إنّه درس في تعلّم الموضوعيّة.
كتاب يرى الأمور كلّ الأمور بوجهيها السلبيّ والإيجابيّ، أحياناً تعمينا إيجابيات الأشياء عن رؤية سلبياتها، كما قد نغضّ الطرف عن إيجابيات ما نكره. والكره مثل الحبّ أعمى! أو ذو نظر كليل بحسب ما يقول البيت الشعريّ المنسوب للإمام الجليل الشافعيّ:
وعينُ الرِّضا عن كلَّ عيبٍ كليلةٌ  وَلَكِنَّ عَينَ السُّخْطِ تُبْدي المَسَاوِيَا
الكتاب يعلّم العين أن ترى ما لا تراه عادة، والعادة نقاب ! الشرّ جنين في رحم الخير، والخير جنين في رحم الشر.  فقد يجيئك الضرر من حصنك الحصين، كما قد يأتيك ما يُنهيك ويرديك من مربّعك الأمنيّ! في الحسن قبح، وفي القبح آيات جمال فاتنة! كيف؟
إليك بالثعالبيّ والبيهقيّ ولهذا الأخير كتاب لا يختلف موضوعه عن موضوع كتاب الثعالبيّ وهو بعنوان " المحاسن والمساوئ" !
فتلمس بيديك الإثنتين المثل القائل: ربّ ضارّة نافعة، ويستعيد شطر بيت للمتنبّي حيويته ومعناه اللافت: فربّما صحّت الأجسام بالعلل! هل العلّة دواء؟ قد يكون الجواب في بيت لابن المعتزّ:
رُبّ أمرٍ تتّقيهِ   جَرّ أمراً تَرتَجيهِ
وفي قول عربيّ مأثور يقول: مِن مأمَنِهِ يُؤتى الحَذِر.

تأكيد المدح بما يشبه الذمّ
هذه العبارة تعني شيئا واحدا، فهي مصطلح بلاغيّ، أي مصطلح لشكل من أشكال الكلام، آخره ينفي أوّله عبر لعبة الأضداد اللغوية على غرار ما نراه في اسمه الجامع بين المدح والذمّ.
وحين نقول: " مصطلح لغويّ " فإننا نكون في الوقت نفسه فتحنا الأبواب كلّها أمام هذا المصطلح ليذهب إلى أي ميدان أحبّ، ميدان الإعلان وميدان التسويق وميدان الغزل وميدان السياسة. وعكس هذا المصطلح هو مصطلح آخر او مصراع ثان من مصراعي الباب، وهو تأكيد الذمّ بما يشبه المدح.
درجت كتب البلاغة لتوضيح دلالة هذا المصطلح بشاهد من شعر  ‏النابغة الذبياني، فهو استخرج من السيّئ ما يعزّز فيه غايته المدحيّة:
ولا عَيبَ فيهِمْ غيرَ أنّ سُيُوفَهُمْ  بهنّ فلولٌ منْ قراعِ الكتائبِ
سيوف بهنّ فلول، والفلّ هو السيوف غير القاطعة، المكسّرة شفارها، فلا تقطع كما يجب كالسكينة التي تحتاج إلى مسنّ لتقوم بوظيفتها!
 السيف المكسّر، المثلّم حدّه في يد الفارس ليس بالسيف الفعّال، ولكن من لا فعالية السيف نبتت فعالية البيت الشعري، وعبارة " لا عيب فيهم إلاّ " هي تكثيف للعيب، ولكن هذا العيب المكثّف هو مدح مكثّف في آخره. مدح لفروسية تخوض غمار المعارك وتُعمل الفتك في الجحافل، وتتوَّج بظفر تشهد له هذه السيوف الضارية.
من أسرار لغتنا العربية
تكمن في الدراسات اللغوية العربية فكرة لا نعطيها حقها من الانتباه.
أبدأ من سؤال: هل اللغة العربيّة تحبّ التنبلة؟ الا يفترض بنا أن ننصت بكل جوارحنا الى ما تقوله لنا اللغة؟
إنّ اللغة أيّ لغة لا تخلو من حكمة نفخها الناطقون كالروح في جسدها. العربية صرف ونحو. ويعتبر ‏ابن جني أنّ الصرف أهم من  ‏النحو. والصرف ذو ليونة شديدة تشبه ليونة جسد ولد صغير أو لاعب سيرك.
ما الذي يقوله الصرف؟ ‏الصرف يقوم على صيغ أو أوزان؟ أي أنّ ‏الجذر الواحد يوضع في قوالب وزنية عديدة فتخرج كلمات كثيرة بحسب الرغبة أو الحاجة. ولكنّ الأوزان لها أسماء: " فاعل" ، " مفعول" ، "منفعل"، متفاعل... إلخ. واذا جئنا أيضاً إلى اوزان الشعر نلحظ ان لها شبها مع الأوزان الصرفية، وهو انه يجمعهما جذر واحد، فكلمة " تفاعيل" ترافق كل أبيات الشعر.
كان من الممكن ان لا يختار ‏النحاة واللغويون والعروضيّون جذراً واحدا، ولكنهم أجمعوا على اختيار جذر محدّد، هو " فعل" بمشتقاته الكثيرة.
لقد اختاروا جذرا جميلا يدلّ على الفعل لا على التنبلة. فعل يدل على الفعل. وفي هذا دلالات رائعة. لقد قرّروا ان تكون العربية لغة فاعلة، حيّة، شغّيلة، مكافحة. وفي النحو كلمة "العوامل" مفردها عامل أي العمل الذي تقوم به العلاقات بين المفردات فتنصب وترفع وتخفض.
سؤالي هو التالي: لغتنا تحمّس على الفعل وترغّب في العمل، فمن اين جاءنا هذا الولع بالكسل، وهذه الرغبة في التواكل؟
كيف نتحوّل من أمة أوزانها فاعلة ألى أمّة خاملة لا وزن لها بين الأمم؟
أمّة همّها الاستهلاك والافتخار بذلك، فنفخر بسيارة ليست من صنعنا، ولباس ليس من تفصيلنا، وهاتف مستورد، وتلفزيون مستورد؟
أمّة تعيش، للأسف، بخلاف ما تقوله لغتنا لنا في أوزانها واتّزانها؟

بلال عبد الهادي


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق