الخميس، 11 أغسطس 2016

حدثنا توفيق الحكيم عن أوديب قال:


لا تكفّ ‫#‏الأساطير‬ عن الإطلال برأسها لدى كلّ شعوب الأرض، تلك التي لا تزال تؤمن بها، إلى اليوم، على أساس أنها "حقائق" و"وقائع"، وتلك التي قررت أن تضعها وراء ظهرها، أو أن تدسّها في التراب ولكن في لحظات معينة تستنجد بها وتطلب منها النصح والعون، للخروج من مأزق ما.
كان الأديب الكبير ‫#‏توفيق_الحكيم‬ يعرف ذلك تماماً، فاستعان بالأساطير في أدبه، ومن الطرافة بمكان أن يكون توفيق الحكيم الواقعيّ جدّاً كما في "عودة الروح" ولوعاً باستنطاق الأساطير، لأنه كان على دراية تامّة بأنّها منجم لتوليد دلالات لا تنتهي، إنها تشبه ‫#‏الأمثال‬ المرنة التي تتقمص آلاف المواقف والأدوار المتعارضة دون أن تخرج من جلدها أو تتبرأ من تاريخها أو يجرؤ أحد على اتهامها بالمروق.
لفت نظري في مسرح توفيق الحكيم تعاطيه مع أسطورة ‫#‏أوديب‬. وكلنا سمع بأوديب الذي، والعياذ بالله، قتل أباه وتزوّج أمّه. خرج ‫#‏فرويد‬ من مسرحية الكاتب اليوناني القديم "‫#‏سوفوكل‬" بنظرية "‫#‏عقدة_أوديب‬" القائمة على رغبة الابن المقموعة أو المكنونة في قتل الأب. ولكن توفيق الحكيم لم ير في أوديب ما رآه فرويد.ويعترف الحكيم أنّ ما خطر بباله وهو يقرأ المسرحية لم يخطر ببال سوفوكل نفسه. ولعلّ هذا ما كفل لشخصية أوديب الأسطورية القدرة على معاصرة مختلف العصور.
فالحكيم لم ير فيها صراعا بين الإنسان والأقدار فقط. بل رأى فيها حرباً ضروساً بين الحقيقة والواقع. إنّ الخيط الواهن والحدود الرخوة واللزجة بين الواقع والحقيقة هو ما أغرى الحكيم بتناول مسرحية أوديب لتبيان ما قد يسببه الخلط بين الواقع والحقيقة من مأساة تنهب نور العين.
مسرحية "الملك أوديب" لتوفيق الحكيم فاتنة لأنها تفتح العين على أمرين(الحقيقة والواقع) اللذين يلتقيان ويفترقان على الدوام كعقربي الساعة، وبفعل التلاقي والافتراق تصاب عين الإنسان بحيرة ماكرة، فلا يعود المرء يعرف أفي الواقع يعيش أم في الحقيقة؟ قد يعيش في الحقيقة وهو يظنّ أنه يعيش في الواقع، وقد يعيش في الواقع وكلّ ظنّه أنّه يتجول في بهو الحقيقة. هذا الالتباس هو الذي يسبب الفجيعة، وفجيعة أوديب لا تمحى كما سوف نرى في ختام المقال.
إنذ أوديب يقتل أباه، ولكن العبارة هنا مخادعة فهو لم يقتل أباه لأنه لا يعرفه، فالوالد كان قد سمع من عرّاف نيّات الأقدار ان ابنه سوف يقتله، وحتى ينقذ نفسه من قضاء العرّاف الدامي ونوايا الأقدار قرّر سلّ الحياة من جسد ابنه. خطأ الوالد ربما هو انه لم يقض على ولده بيديه للتأكّد من موته، وإنما طلب من احد المقربين منه تنفيذ حكم الموت، هكذا كُتب سيناريو القضاء والقدر. الرجل لم ينفذ ما أُمِر به، ضعف أمام طراوة الطفولة فترك الطفل حيّاً، ثم عاد ليخبر الأب بأنه نفذ حكم الموت في ولده. في هذه اللحظة صار للحقيقة حياتها الشخصية المغايرة لحياة الواقع. لأنّ الابن في واقع حياة الأب ميّت، ولكن في عالم الحقيقة لا يزال حيا يزرق. الحقيقة المغيّبة عن عيني الأب جعلته يتعامل مع الحياة بشكل مختلف. الابن أيضاً لا يعرف أباه لأنّ من تبنّاه لا يعلن له الحقيقة. لا صلة نسب أو رحم في عالم الواقع بين أوديب وأبيه. وعليه فهو حين قتل أباه لم يقتل أباه وإنما قتل شخصا آخر. وحين دخل إلى مدينة تزوج من زوجة القتيل ولم يتزوّج من أمّه ما دام أبوه في عالم الواقع ليس أباه، وعليه فهو حين تزوج أمه لم يتزوج أمه. عالم الحقيقة في مكان وعالم الواقع في مكان آخر. وأوديب كعدد لا بأس به من الناس يعيش في الواقع ويتعامل معه على أساس انه الحقيقة. تشاء الحياة أحياناً أو مكر المقادير اللعب بالناس، أو أن الظروف تريد تصفية حسابها بأعصاب باردة مع أحد الأشخاص فتكشف الحقيقة عن وجهها الأصليّ، تمزّق القناع الجلديّ عن وجه الحقيقة الموهومة فيظهر ذلك الانفصام المدوي على ملامح الواقع الذي كنّا نأخذه مأخذ الحقيقة.
لم يحتمل أوديب ان يرى هذا الانفصام بين عالم الواقع الذي يعيشه وعالم الحقيقة الذي تبين له. تداعى الواقع أمام عينيه كتمثال من رمال. ولكن ليس دون ثمن، وثمن باهظ، دفعه أوديب نتيجة اعتباره الواقع الذي يعيشه هو صورة مطابقة للحقيقة بل هو الحقيقة نفسها. وجد ان ما يراه يفوق التصوّر. لقد ارتكب ما لا تحتمل عين النظر إليه فقام، من فوره، باقتلاع الضوء، بيديه، من عينيه خلاصاً من رؤية الواقع المعتم بل أراد ان يكون الواقع المعتم، هذه المرّة، لا يختلف عن الحقيقة المظلمة التي ظهرت له في عريها القاتل فعاش في ظلمتين.
وليس أصعب على المرء من أنْ يضطرّ إلى الاستعانة بالظلام، كما فعل أوديب لحظة اقتلاع عينيه، ليرتاح من التحديق في عيني واقع يغاير الحقيقة التي لم تخطر له ببال.

‫#‏بلال_عبد_الهادي‬

إضافات توضيحية:
سم جد اوديب "لابداكوس" يعني" الاعرج"، واسم ابيه "لايوس" يعني "الأشول"، وكلمة "اوديب" تعني" متورم القدم" ، وكل هذه ‫#‏الاسماء‬ توحي بعدم السير بطريقة مستقيمة.
من كتاب ‫#‏علم_العلامات‬/ تأليف بول كوبلي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق