الاثنين، 22 أغسطس 2016

دور المصادفة


المصادفة - أو ما كان يسمّيه ‫#‏الحريري‬ صاحب المقامات البديعة ( عجائب الاتّفاق) - عصا سحريّة يضع فيها القدر لمساته الأخيرة على الأشياء.
المصادفة رحم اللامتوّقع المنجاب!
ولو أنّ كلّ إنسان بدأ بتدوين أثر الصدفة على حياته بخيرها وشرّها لأخذه العجب العجاب، ولملأ الكثير من الصفحات.
يظنّ المرء أنّه يفكّر، وأنّ تفكيره هو ابن مجهوده الشخصيّ، دون أن يفكّر بلمسات المصادفة السحرية على طريقته في التفكير، ودون أن يلحظ دور الصدفة في تشكيل نظرته إلى الأشياء!
يقول انا اخترت، في حين ان الصدفة هي التي اختارت له، يموّه بكلمة " اخترت " أشياء كثيرة، بعض الأشياء نختارها لأنها ، بكلّ بساطة، اختارتنا.
أمهر كاتب سيناريو ومخرج سينمائيّ ليس أكثر من تلميذ مبتدىء في معهد الصدفة!
ويظنّ المرء أحيانا ان الصدفة تلعب أو تعبث، ولكن الصدفة لا تحبّ العبث، ونظنها تعبث لأنّ حكمتها تغيب عنّا أحيانا، وجهل الحكمة كأي نوع من أنواع الجهل يبلبل الذهن، كما تبلبل عقل النبي موسى أمام سلوك الرجل الصالح ، بحسب ما ورد في القرآن الكريم، نبيّ ملهم، كليم الله، وليس أي نبيّ تحوّل إلى إنسان حائر أمام الرجل الصالح ذي السلوك الظاهريّ الغريب والمريب!
ولكن الغرابة صفة من صفات الصدفة، فهي تدخل فيّز الغريب والعجيب والمريب، ويلتبس الأمر على المرء أحيانا كما يلتبس الحلم بالعلم في لحظة صحو مباغتة، ومن هنا التعبير العربيّ ذو التركيب الكاسر للحدود بين الحلم والعلم " أفي حلم أنا أم في علم؟" تساؤل يزعزع أركان اليقينيّات ولو للحظات، أو تعبير آخر يجنح نحو التكذيب، تكذيب الأحداث أو تكذيب المرئيّات " لأ، ما بصدّق"، يحاول المرء الاستعانة باللاصدق ليصدّق ما يرى أو ما حدث!
أحبّ المصادفات الحقيقية لا المتخيلة التي نراها في المسلسلات او الأفلام أو الروايات، لأنها مصادفات مزيّفات، تتقمّص شخصيّة ليست هي.
المصادفات تبلبل القدرة على التفسير!
كم من مرّة أسأنا التفسير فقط لأننا لم نأخذ عامل الصدفة بالحسبان؟ فنروح نتأوّل ما نتخيّل ، ونقوّل الأشياء أقوالا لم تقلها، أو نحمّلها أوزارا لا ناقة لها فيها ولا جمل؟
حتى النصّ الذي يكتبه الكاتب بكامل وعيه هل يكتبه الكاتب حقّاً؟
تساءلت مرّة هذا التساؤل؟
وقد تفيد أوراق الخرطوش في فهم عامل الصدفة لدى الكاتب، ولكن حتى في غياب أوراق الخرطوش يمكن لنا أن نعرف الكلمات التي لم تخطر ببال الكاتب وهو يكتب، أو الأفكار التي كتبها؟
كيف لي أن أفصل في النصّ بين الأفكار الأولى والأفكار النهائية؟
كيف وبأي وسيلة يمكن اي أن أفصل بين الفكر المنظور والفكر غير المنظور في النص الواحد؟
أعرف أنّ المهمة ليست سهلة وليست في متناول أي أحد، فهي تتطلب أدوات كثيرة وليس هناك أي مصلحة في الدنيا يمكن أن تعيش بلا أدوات، مهما كانت بساطتها، وأدوات معرفة دور الصدفة كثيرة متشعبة، بعضها متوفّر وبعضها ما يزال في باطن الغيب وقصور العلم، والعلم ما يزال طفلا يحبو رغم التطور المذهل الذي نراه، ولكنه تطوّر لا يمثّل إلاّ غيضا من فيض الانجازات المتخيلة او المنتظرة، ودائما أعطي مثالا بسيطا عن العجز ابعلمي الراهن بحاسة الشمّ التي لم يتوّصل المرء إلى اليوم إلى تسجيلها على أقراص مدمجة كما يفعل بالصور والأصوات !
فبحسب علمي ليس هناك جهاز يسجّل رائحة الورق عنب في الطنجرة وتحتفظ به كما تحتفظ بالأنغام والصور، وبكبسة زرّ تستعيد رائحة الورق عنب في المطبخ مثلا ، أعرف هناك محاولات متعددة، وأعرف أن طموح الإنسان سوف يجد حيلة لتسجيل الروائح، كما يسعى لاستخراج وتصوير المنام الذي رأيته في نومك وذاب مع يقظتك ولم يبق منه شيء!
ولعلّ في المنامات المنسية ما يحمل حلول الأزمات النفسية أكثر من الأحلام غير المنسية!
خواطر مبعثرة في الظاهر ولكن يجمعها خيط أثيري غير مرئيّ!
والحياة تتحكم فيها غير المرئيات بالعين المجردة اكثر مما تتحكم فيها المرئيّات!
ويطيب للصدفة في احيان كثيرة أن تعتمر طاقية الإخفاء!
الصدفة تشبه الطريقة العربية في استخدام الحركات في الكتابة، تتوارى عن النظر أغلب الأحيان رغم حضورها الطاغي في النطق!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق