الاثنين، 10 أغسطس 2015

العدّ للعشرة...تهوّر


احتاج رئيس إحدى الشركات إلى عدد من الموظّفين، وهو يعرف أنّ مهنته تتطلّب جملة من الكفاءات لا يخلو ظاهرها من تناقض، لأنّها تجمع بين سرعة الأرنب وبطء السلحفاة ولين العجين. راح الرجل يفكّر بالطريقة التي تؤمّن له موظّفين تتطابق مواصفاتهم مع مشاريعه وضرورات العمل، ولهذا صمّم استراتيجيّة تكشف عن أصحاب الكفاءة المطلوبة، ومن هذه الشروط خضوع المرشّح لامتحان خطّي. الرئيس لا يؤمن بالعفويّة، ويعرف رعونة الارتجال، ويعتبر أنّ سرعة البديهة نفسها قد تنقلب - إذا أُسيء استخدامها- إلى مخلب ينشب في لحم صاحبها.
تقدّم المرشّحون للوظيفة، في يوم الامتحان، فأدخلهم الرئيس قاعة فسيحة مجهّزة بكل ما يؤمّن سبل الراحة للكتابة، لأنّ في ذلك، بحسب قوله، توفير مناخ ملائم لاصطياد الإجابات.
الرئيس ودود المظهر والمخبر لا يتقنّع وراء هيبة مستعارة وباردة كملمس الرخام، فليس من الضرورة أن تتحوّل ساعة الامتحان إلى محنة. وهو بشوش ووديع كعينيّ طفل ولكن تطفر من لطافته قوّة تلحظها في تعابير عينيه وتلاويح يديه.
ترك لكلّ طالب حريّةَ اختيار المقعد الذي يريد إذ يعرف بالخبرة أنّ الإنسان يرتبط بصلات روحيّة مع الأماكن وهو مطّلع، فيما يبدو، على أبجديّة " لغة المكان" ودلالاتها العفيّة ولكن الخفيّة.
قام الرئيس بتوزيع الأوراق على المرشّحين، وكان قد تكفّل بطباعة اسم كلّ مرشّح سلفاً في رأس الصفحة، وأعطاهم الوقت الكافي للإجابة. الأسئلة مطبوعة بحرف مقروء لا يضني العين، ومضامين الأسئلة كلّها في منتهى الوضوح، لأنّ السؤال الغامض لا يعني بالضرورة، كما يرى رئيس الشركة، ذكاء السائل أو حنكته.
سهولة الأسئلة أراحت نفسيّة المرشّحين، فانفرجت أسارير والتمعتْ أحلام في عيون الكثير منهم، فانكبّوا على الإجابة، والسرور يطفر من رؤوس أقلامهم، في حين راحت عينا الرئيس تتجوّلان في وجوه الطلاّب وتتابعان حركات اليد وهي تكرج كرج الماء على الأوراق البيضاء.
انسحب بعض المرشّحين بعد فترة قصيرة، قدّموا أوراقهم بيضاءَ. التفت إليهم المنكبّون على الإجابة مستغربين انسحابهم من أرض المعركة قبل خوضها، بل هزيمتهم أمام أسئلة بلا ألغام، فندّت من عيون الباقين وشفاههم ابتسامات خبيثة الدّلالات، وعاودوا متابعة الإجابة، إلاّ أنّه سرعان ما بدأت ترتسم على وجوه بعضهم علامات حيرة صفراء ثمّ راحوا يشطبون ما كتبوا، بعد فوات الوقت، فما كُتب قد كُتب، و"المكتوب ما منّو مهروب". يستحيل على الأقلام ان تستعيد حبرها كما لا يجدي شطب المكتوب أو محوه، حتى الكتابة بالقلم الرصاص لا يمكن محوها دون ترك خدوش ولو نحيلة على جلد الصفحة، وكلّ شطب ليس أكثر من كميّة زائدة من هذا الحبر الملعون.
هنا أدرك الذين سخروا من الذين انسحبوا أنّهم رسبوا، وأنّ المعركة قد حُسمت لصالح أولئك الذين سلّموا أوراقهم بيضاء لأنّ الإجابة المكتوبة لم تكن مطلوبة. كلّ الأسئلة تغري، ليسرها ومكرها، بالإقبال الفوريّ على الإجابة باستثناء ذلك السؤال الذي أدرج، قصداً، في تضاعيف الأسئلة لتكون له الكلمة الفصل، وهو سؤال مريح جدّاً، لا يتعب الخاطر ولا يكلّف الممتحن حكّ دماغ أو نزف أقلام ولكنّه كان يمتلك، بكلّ تأكيد، حقّ تقرير مصير الأوراق.
السؤال شديد البساطة وهو يحدّد بمنتهى الوضوح (والخبث )أنّ المطلوب هو عدم الإجابة عن أيّ سؤال مع رجاء تسليم ورقة الأجوبة، كما هي، بيضاء من دون شحطة قلم.( ولا ريب في أنّ اللون الأبيض من أشدّ الألوان مكراً ! )
لم يكن رئيس الشركة الطيّب يريد أن يخسر حتى أولئك الذين خسروا جولة الامتحان. وهذا ما كان لأنّهم بعد أن أحرقوا أصابعهم وأعصابهم بجمرة الورقة البيضاء صاروا يعتبرون العدّ للعشرة ليس من قبيل التروّي، في بعض الأحيان، بقدر ما هو علامة من علامات التهوّر. وتعلّموا أيضاً من نزق حبرهم أنّ التركيز على نقطة واحدة قد يستلّ من الأنظار لذّة الإبحار في تفاصيل المشهد البانوراميّ.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق