الأحد، 9 أغسطس 2015

ضريح كلب

أعرف أن في بلاد كثيرة مدافن للكلاب، ولا أنسى زيارتي، ذات يوم، مقبرة الكلاب في باريس، فانا اعتدت خلال إقامة مديدة في باريس على حضور الكلاب في العاصمة الفرنسية كجزء منها، فالكلب موجود كالهواء والطرقات والمترو وحَمامات الساحات والحدائق العامّة. وصرت اعرف كيف هي علاقة الفرنسيّ مع الكلاب، وكيف تقام له المطاعم والملاهي وصالات تصفيف الشعر ودور الحضانة. لكن لم أكن اعرف كيف هي علاقة الفرنسيّ مع الكلب حين ينتقل إلى الضفة الأخرى من الحياة. فقلت: لا بدّ، لإتمام الصورة، من زيارة إلى مقبرة الكلاب لأرى علاقة الفرنسيّ مع رفيق عمره

 الذي يسبقه في الغياب.
وأنت داخل إلى المقبرة لا يخطر ببالك انك داخل إلى مقبرة للكلاب، فهي أشبه بالحديقة العامرة بالأشجار والأزهار وغيرها من مفاتن الأبصار. رحت أتجول بين الأضرحة الرخامية السوداء البرّاقة وأتنصّت. لا بد من التنصّت وأنت في مقبرة الكلاب الباريسية. ترى الأحزان والدموع والأشواق. امرأة قاعدة على طرف الضريح، وتحكي، تسرد أحزانها، تفصح لكلبها الدفين عن وطأة الغياب، وتحكي معه وكأنّ أذنيه الطويلتين لا تزالان تصغيان. تسرد على مسامعه التغيرات التي حصلت بعد غيابه حتى لا يشعر، ربما، بوحشة القبر.
كنت أظن أن الإنسان العربيّ لم يصاحب الكلاب على الطراز الغربيّ، ويقيم معها علاقات تتعدى المصالح الآنية كالحراسة أو الصيد. إلى أن وقع بين يدي كتاب عربيّ قديم وضعه ابن المرزبان وعنوانه يصدم العين، وهو " فضل الكلاب على كثير ممّن لبس الثياب". وهنا اذكر، عرضا،ً تعريفاً طريفاً للكاتب المصري عباس محمود العقاد يقول فيه: "الإنسان حيوان لابس".
في الكتاب حكايات كثيرة، وأبيات شعر كثيرة عن الغدر والمودّة المزيفة وأصحاب الوجهين واللسانين، كما يقول في شاهد شعريّ:

حالَ عمّا عَهِدْتَ ريْبُ الزَّمانِ واسْتَحالتْ مودّةُ الإخْوانِ


واستوى النَّاسُ في الخديعةِ والمكْرِ فَكُلٌّ لِسانُهُ اثْنانِ
ولعلّ ما دفع ابن المرزبان إلى تأليف هذا الكتاب معاناة عاناها في حياته مع كثير ممّن لبس الثياب. في أيّ حال، لا تخلو بعض الحكايات من روح الوفاء، ومنها قصّة حدثت مع أحد الملوك.
استوقف أحد السلاطين، ذات مرة، قبر عليه قبّة مبنيّة مكتوب عليه: " هذا قبر الكلب، فمن أحبّ أن يعلم خبره فليمضِ إلى القرية الفلانية فإنّ تفاصيل القبر هناك".
أغرت حكاية القبر السلطان فاستفسر عن القرية إلى أن وصل إليها وسأل عن تفاصيل الحكاية فدلوه على شيخ فبعث إليه وأحضره فقال الشيخ العجوز:
كان في هذه الناحية ملك عظيم الشأن، وكان من عشاق النزهات والصيد والسفر، وكان له كلب ربّاه وسماه باسم ( والتسمية أنسنة)، وكان لا يفارقه فإذا كان وقت غدائه وعشائه أطعمه معه مما يأكل.
خرج الملك يوماً إلى بعض منتزهاته، وقال لبعض غلمانه: قل للطبّاخ يحضر لنا ثريدة لبن فقد اشتهيتها ثمّ مضى إلى متنزهاته، حضّر الطباخ ثريدة اللبن ونسي أنْ يغطيها بشيء.
خرج من بعض شقوق الحيطان أفعى فكرع من ذلك اللبن ومجّ في الثريدة من سمّه، والكلب رابض يرى ذلك كله، ولو كان له في الأفعى حيلة لمنعها ولكن لا حيلة للكلب، كما يقول ابن المرزبان، في الأفعى والحية. وكان عند الملك جارية خرساء قد رأت ما صنع الأفعى.
عاد الملك من الصيد في آخر النهار فقال: يا غلمان أوّل ما تقدمون إليّ الثريدة. فلما قدموها بين يديه أومأت الخادمة الخرساء إليهم فلم يفهموا ما تقول، ونبح الكلب وصاح فلم يلتفتوا إليه وألحّ في النباح ليعلمهم بما رأت عيناه دون جدوى. ثم رمى الملك إلى الكلب بما كان يرمي إليه في كل يوم فلم يقربْه ولجّ في النباح. فقال لغلمانه: نحّوه عني فإنّ له قصة،( ولعلّ شدّة الجوع منعت الملك من سماع القصّة التي يودّ الكلب سردها) ومدّ يده إلى اللبن. فلما رآه الكلب يريد أن يأكل وثب إلى وسط المائدة، على غير عادة منه، وأدخل فمه في اللبن وكرع منه فما هي إلاّ لحظات حتى سقط ميتاً. وبقي الملك متعجباً منه ومن فعله فأومأت الخرساء إليهم فعرفوا من إيماءاتها مرادها وما صنع الكلب.
قال الملك لندمائه وحاشيته: إنّ كلباً قد فداني بنفسه لحقيق بالمكأفاة، وما يحمله ويدفنه غيري، ودفنه بين أبيه وأمّه، وبنى عليه قبة. ولم تبقَ هذه الحكاية محصورة في كتاب ابن المرزبان إذ نقلها عنه التنوخيّ في " نشوار المحاضرة"، ورواها الدميريّ في "حياة الحيوان الكبرى".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق