الجمعة، 21 أغسطس 2015

الثقافة قامتها هيفاء محاضرة ألقيتها في مركز الصفدي الثقافي

أثناء القاء محاضرتي والى جانبي الدكتور هيثم الناهي والدكتورة ريما مولود

 
كلمة " هيفاء" عربية من صميم المعجم العربيّ ولا غبار عليها. ومسيرة هذه المفردة لا تخلو من طرافة عبر صلتها بمفردة عامية شائعة هي " هايفة"، ويقول البعض ان " هايفة" هي وجه من وجوه كلمة" هيفاء" بعد أن لعب بها قانون التقليب الصوتي الذي " شقلب" حروفها كما شقلب دلالتها، وصارت دلالتها تحمل معنى الهيافة او السخافة أو ما لا قيمة له.
 الطريف ان الأخت غير الشقيقة لهيفاء وهبي وهي رولا يموت اطلت بكليب غنائيّ عنوانه " أنا مش واحدة هايفة" وهي كلمة " لاذعة" في سياق الخصومة مع شقيقتها " هيفاء" ولعبة لغوية ماكرة! والهَيَفُ بفتحتين يعني ضمور البطن والخاصرة، ونقول: " رجل أَهْيَفُ" و "اامرأة هَيْفَاءُ" و"قوم هِيفٌ". والهيف "ضمور" ولكنه ضمور إيجابيّ في عالم الجمال، ومرغوب تنفق في سبيله مليارات الدولارات!
قرّرت الإذاعة البريطانية BBC الترويج لتعلّم اللغة الإنكليزيّة عام 2004، واختارت توقيتاً ملائماً هو بدء معرض الكتاب العربيّ في بيروت. ننعرف أنّ لبنان هو معقل الفرنكوفونيّة في العالم العربيّ، أو في الأقلّ في الشرق الأوسط. ومن يتابع الكرّ والفرّ اللغويين يعرف أنّ اللغة الإنكليزيّة تقارع الفرنسيّة في عقر دارها وفي عقر دور أخرى. وليست الفرنكوفونيةُ الاّ معركة لغوية ضروساً بين اللغة الفرنسيّة واللغة الانكليزية. فاللغات ساحات حروب حضارية وفكريّة واقتصادية ( وهنا أحيل إلى كتاب شيّق هو " حرب اللغات والسياسات اللغويّة" تأليف لويس جان كالفي Louis-Jean Calvet  والذي أصدرت ترجمته العربية المنظمة العربية للترجمة). ولا يختلف الصراع اللغويّ عن صراع الحضارات وان تقنّع أحياناً بقناع الحوار الحضاريّ او الانفتاح على الآخر. فالكلمات لباس، ولا أحد يمنع على العسكريّ لباسه المدنيّ، بل قد يتاح للعسكريّ ان ينجح في مهماته وهو في زيّه المدنيّ أكثر ممّا قد ينجح في مهمته وهو مدجّج بزيّه العسكريّ.
اختارت البي بي سي وجهاً عربياً معروفاً، ومألوفاً، ومحبوباً، ومكروهاً، وهو وجه مثير للجدل كما هو مثير للفتنة. مثار استحسان واستهجان في آن، وجه توجز ردود الفعل عليه واقع العالم العربيّ الممزّق الذي تتناتشه الأضداد, وهو وجه انثويّ جذّاب، انه وجه هيفاء وهبي. والجذب هنا مزدوج، قد يكون سرّا وقد يكون علناً، عنصر الجذب كعنصر التنديد تماماً. زائر معرض بيروت للكتاب في ذلك الوقت كان يلحظ وجود صورة كبيرة للفنانة الاستعراضية على واجهة جناح هيئة الإذاعة البريطانية BBC وكتب تحتها كلمة "اتبعني"!  فعل أمر ملتبس موجّه للذكور في صيغته الآمرة.


أثناء محاضرتي الثقافة قامتها هيفاء

أذكر انّي كنت في حفل افتتاح معرض الكتاب، في ذلك العام،  وما لفت نظري هو لحظة دخول هيفاء وهبي متّجهة الى جناح الـ" بي بي سي". كان الصحافيّون متكتّلين أمام جمهور الافتتاح الرسمي بحشده السياسيّ وهو يتجوّل في أجنحة المعرض، ولكن ما إن مرّ طيف هيفاء وهبي حتّى انفضّ عدد كبير من رجال الصحافة عن عالم السياسة ولحقوا بهيفاء وهبي، وسمعت رئيس حكومة لبنان لذلك العهد المغفور له عمر كرامي وهو يعلق على سلوك بعض الصحافيين وبسمة تعلو شفتيه: معهم – اي الصحافيون- الحقّ.
والآن أعمد إلى إدراج كلمة الثقافة في صلب كلمتي في صيغة تساؤل: ألا يفترض بالقيّمين على الشؤون الثقافية الاستعانةُ بأهل الفنّ للترويج لسلعهم الفكرية والأدبية والثقافية الجادّة. أعتبر " الثقافة" بكل مكوّناتها سلعاً تحتاج لمن يحسن تسويقها. وليس في هذا أيّ امتهان للثقافة. قد لا يحمل الفنّان الاستعراضيّ أو الفنّانة الاستعراضية همّاً أدبياً أو ثقافياً او فكرياً، ولكن من قال إنّه لا يمكن تحميله هذا الهمّ او هذا الهدف؟ (اليونسكو تستثمر مؤهّلات الفنانين والرياضيين لمآرب إنسانية، فلم لا يستثمر الفنّان لمآرب ثقافية؟)، وأتساءل مجرّد تساؤل : ماذا فعل عبد الحليم حافظ أو كاظم الساهر لنزار قبّاني؟ ومن كان سيسمع برباعيات الخيّام لولا صوت كوكب الشرق أمّ كلثوم؟ وماذا يحدث لامرىء القيس أو البحتري في حال قرّر مغنّ او مغنية أخذ بيتين او ثلاث ابيات من شعرهما وإطلاقهما في عالم الغناء؟ من يستطيع أن يحدّد ماذا فعل بيت أبي القاسم الشابّي:
إذا الشعب يوما أراد الحياة
فلا بدّ أن يستجيب القدر.
الفلسفة هي" حسن استخدام واو العطف" كما يقول مفكّر هندي ويقصد "بواو العطف" إتقان الربط بين أمور تبدو للوهلة الأولى متنافرة أو لا يجمعها جامع أو وجه شبه ولكن وجوه الشبه المحذوفة كنوز فكرية لمن يجهد نفسه في الكشف عنها. وفي كتب البلاغة العربيّة تعريفات كثيرة للبلاغة منها ان البلاغة" معرفة الفصل من الوصل" أي معرفة اللحظة التي تسمح لنا ان نربط أو ان نفصل بين الأشياء والعناصر. نلحظ هنا ان البلاغة, من هذا المنظور, ليست بعيدة تماما عن النظرة الهندية. وكان ستيف جوبز مؤسس شركة التفاحة المقضومة " آبل" يقول، وهو المفتون الى حدّ الهوس بالبساطة  :  "الإبداع هو القدرة على وصل الأشياء مع بعضها".  وهي قدرة ليست في متناول أي أحد، فعبد القاهر الجرجاني رجل البلاغة البليغ يقول: إنّ معرفة الفصل من الوصل ممّا لا يتأتّى لتمام الصواب فيه إلاّ الأعراب الخلّص وإلاّ قوم طبعوا على البلاغة".
الخمار الثقافيّ
والثقافة عليها، كي تكون فاعلة، أن تحسن وصل الأشياء مع بعضها، ان تكون كخيط السبحة الذي ينتظم الحبّات ، أن تصل بين الشعبيّ والرسميّ، بين " الخمار" والموسيقى والأغنية على غرار ما حدث مع مسكين الدارميّ عبر الحكاية التاليةّ:
كان الشاعر مسكين الدارميّ  ( توفي عام 90 للهجرة في خلافة الوليد بن عبد الملك) صاحب البيت المأثور:
أخاك أخاك إن من لا أخاً له        كساعٍ إلى الهيجا بغير سلاحٍ
قد اعتزل الشعر وتحول إلى ناسك متعبّد بعد أن كان من الشعراء المعروفين بالظرف والخلاعة إلا أن الأقدار جعلته يخون زهده لغايات نبيلة حين رمته بين يدي تاجر أقمشة يندب حظّه العاثر بعد ان كسدت بضاعته المؤلّفة من خُمُر سود,  وللألوان تأثير خلاب على ترويج الأشياء أو كسادها, وكان اللون الأسود عائقاً أمام تسويق الخُمُر, فاستنجد التاجر بالشاعر المعتزل مسكين الدارمي الذي استعاد خيالُه نشاطه, هذه المرّة, لتسويق ما كسد, فألف مقطوعة شعرية وأرسلها لصاحب له من مشاهير المغنّين, فلم تبق فتاة, بعد سماع الأغنية, إلا واشترت خمارا أسود, لأن الشاعر استطاع, بحنكته الشعرية, ان يمنح اللون الأسود لون الملاحة، وأن يغيّر من نظرة الحِسان إلى الألوان. وللشعر مقدرة كيميائيّة, كما يقال,  على تحسين القبيح وتقبيح الحسن, وتغيير نظرتنا ومواقفنا من بعض الأمور .
ومن حسن حظّ هذه الأبيات الشعرية انّها استعادت حياتها الفنّيّة, في العصر الحديث, بصوت المطرب العراقيّ الراحل ناظم الغزالي ولاقت رواجاً لا يزال نضير العبارة إلى اليوم, والأبيات هي:

قل للمليحة في الخمار الأسود
ماذا فعلت بناسك متعبّد
قد كان شمّر للصلاة ثيابه
حتى خطرت له بباب المسجدِ
ردّي عليه صلاته وصيامه
لا تقتليه بحقّ دين محمّد


احب الاشارة هنا الى الدور المميز الذي تلعبه الفنمانة الرائعة سعاد ماسي في اغنيها التراثية، وهي اغان لافتة للنظر انها تختار من معلقات العرب كبعض ابيات عنترة بن شداد او زهير بن ابي سلمى، كما اختارت ابيات من شعر المتنبي والحلاج ابيات شعر وصدحت بها في العالم العربي وفي المغتربات، وان كانت الفنانة الكبيرة غير معروفة في لبنان مثلا فانها لا شكّ تؤدي دورا ادربيا ممتازا عبر تعميم شعر شعراء كبار قدامى ومحدثين ونشره. وهنا اشكر الصديقة عائدة ابو شقرا التي عن طريقها سمعت بالفنانة سعاد ماسي، وهي فنانة تعزّز جزءا من الفكرة التي اتبناها في هذه المحاضرة.

الامبراطور اليابانيّ ولغة النتّ
أختم مداخلتي بحكاية يابانية، وهي حكاية واقعية حتّى العظم، عن مرض عربيّ اسمه لغة النتّ، وهي عبارة ليست صائبة لأنها تعامل المكتوب معاملة المنطوق، ولكنها عبارة شائعة ومألوفة، لن أتناولها في كلامي الاّ من خلال علاقة الياباني في علاقته مع خطّه، وهي علاقة نموذجيّة، رائعة، تظهر مدى احترام اليابان لخطّها، وتفانيها في خدمته، وتظهر كيف أنّ الخطّ جزء من سياسة الدولة. تقام، في الإمبراطوريّة اليابانية، مسابقة خطيّة في مطلع كلّ عام، من الدالّ توقيت المسابقة يوم رأس السنة وهو يوم ليس كسائر الأيّام!. يشترك في مسابقة فنّ الخطّ حوالي ثلاثة آلاف مشترك من كلّ الأعمار، في الهواء الطّلْق، في ساحة واسعة الأرجاء، فهنا توحّدهم جميعاً هواية الخطّ، واللوحة التي تفوز بالجائزة لا تكتفي بالمبلغ المرصود لها، فثمّة ما هو أهمّ من المبلغ وأهمّ من الجائزة نفسها هو مكان استضافتها. تتحوّل اللوحة الفائزة إلى لوحة فنيّة تعلّق في قصر الإمبراطور، وهنا يخطر ببالي كيف أنّ المعلقات الشعريّة الجاهليّة أخذت اسمها من تعليقها على جدران الكعبة. ثم إنّ الامبراطور بجلالة قدره يقوم باستقبال الفائز وتكريمه، ونحن نعرف المقام المقدّس للامبراطور في الديانة الشنْتويّة.
لنتخيل أنّ لبنان أو أيّ بلد عربي آخر يقيم سنويّاً مسابقة للخطّ العربيّ، ويكون من نصيب لوحة الفائز أنْ تعلّق في القصر الجمهوريّ أو القصر الملكيّ أو بلاط الأمير، هل كان احتقارنا للحرف العربيّ يبقى كما هو الآن؟ وهل كانت " لغة النت" تسرح وتمرح على ذوقها بقدّ متهتّك تظنّه ميّاساً، وقامةٍ عجفاء تظنّها هيفاء؟
من الخطّ تبدأ خطّة العمل الثقافيّ!

بلال عبد الهادي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق