السبت، 15 أغسطس 2015

سفينة نوح والمعجم العربيّ




هل بالإمكان فصل الإنسان عن لسانه؟ وهل من الممكن ان يكون الإنسان كامل الصحة والعافية ولسانه مريض, مهيض الحركة؟ أليس اللسان هو الصورة الملوّنة والحركة الموّارة لمسالك الناس ؟ أليس من الدالّ ان الإنسان العربي التفت, في بدايات حضوره, إلى تجميع فتات المفردات المتناثرة في الصحراء العربية في شكل كتيبات معجمية لحصر حقولها الدلالية؟ بل ألم يسبق تأليف المعجم تأليف النحو نفسه إذا اكتفينا, في الأقل, بملاحظة واحدة وهي ان تأليف معجم" العين" الذي وضعه عبقري العربية الخليل بن احمد الفراهيدي سبق تأليف كتاب سيبويه في النحو؟ هل تعيش امّة بلا معجم أي بلا تاريخ لغوي؟ أسئلة كثيرة تعترض المهتمين بشؤون الإنسان العربي في زمن الكبوات التي يتناسل بعضها من بعض.

ثمة ملاحظة تثير الاهتمام وهي لماذا عكف الكتّاب في عصر النهضة الحديثة على تأليف المعاجم؟ هل كان الأمر مجرد نزوة لغوية أو إظهار رغبة في تقليد القدامى؟ ألم يفهم رجالات النهضة, من خلال مسلكهم, ان سر النهوض تكمن بذوره في وجود معجم يحفظ للأمة أمنها اللغوي وكيانها الصلب؟

تستوقفني عبارة غريبة لأول وهلة وردت في مقدمة "لسان العرب" لابن منظور يقول فيها ما يلي: "... حتى لقد أصبح اللحن في الكلام لحنا مردودا, وصار النطق بالعربية من المعايب معدودا, وتنافس الناس في تصانيف الترجمانات في اللغة الأعجمية, وتفاصحوا في غير اللغة العربية, فجمعت هذا الكتاب في زمن أهله بغير العربية يفخرون, كما صنع نوح الفلك وقومه منه يسخرون".

وأظنّ ان هذه العبارة ما زالت بكامل حيويّتها وصلاحيتها. لا أحد ينكر انطباق واقع الحال اللغوي المتردّي في عصر ابن منظور, عصر الانحطاط والتفكك, على واقع الحال العربي اليوم, من حيث تفاقم اللحن, وانتشار ظاهرة الافتخار بلغات أخرى على حساب اللغة الأم نفسها, بل نرى لدى طبقة واسعة في المجتمع ولعا غير مبرّر, وغير بريء احيانا, بتطعيم الكلام بمفردات أجنبيّة ممزوجة برطانة تركيبية, ولا تتحمل هذه الطبقة بمفردها, في أيّ حال, مسؤوليّة هذا الانزلاق اللسانيّ. ان اللغة تتعدى الأفراد ولكن ثمة مثل عربي نبيل يقول:"ما فيك يظهر على فيك", بمعنى ان الأزمات التي نحياها لا يمكن ان تفلت من سطوة اللسان وقبضته التي تلقط كل خلجات الأعماق بما فيها خلجات عقد النقص أو المهانة التي تتكاثر كالفطر السامّ في مجتماعتنا.

في عبارة ابن منظور إحالة غريبة إلى سفينة نوح. ما علاقة السفينة بالمعجم؟ فابن منظور يدرج هذا الكلام في مقدمة معجمه  أي ان الكلام عن السفينة هنا معقود الصلة بالمعجم. يعتبر ابن منظور ان المعجم بمثابة فلك نوح,  أي بكلّ ما يحتضنه هذا الفلك من رموز وحمولات دلالية, انه فلك يصنع لغايات إنقاذية, بل انه بناء لرمزية سفينة نوح وسيلة إنقاذ وحيدة. كان ابن منظور يوجه, في ذلك الزمن, ما يشبه الإنذار إلى أمته, السفينة أو الطوفان! هل يقصد ابن منظور ان انعدام وجود معجم يعني احتمالا واحدا هو الغرق والزوال والخروج من التاريخ الذي لا يرحم الكسالى والراضخين لغوايات ومقتضيات الأمر الواقع؟

انّ الإحالة إلى نوح شديدة الغنى الدلاليّ ومتعدّدة التأويل. ثمة من احتقر صنع نوح, وجد قومه تصرفه أقرب إلى الجنون, وهذا ما شعر به ابن منظور نفسه, لاقى سخرية من بني جلدته السمراء, وفي مقدمة" لسان العرب" شيء كثير من المرارة المنظورية, لأن قومه وجدوه يقوم بعمل تافه, لا مبرّر له, ومضيعة ربما للوقت. ولكن ابن منظور كان متشبثا بحلم معجمي كبير, وكان يريد ان يكون لهذا الحلم صدى,  ولعلّ هذا ما حدا به إلى بناء معجمه كالشعر على القافية. بمعنى ان لمعجمه طبيعة شعرية لا نثرية, ونحن نعرف ان تكرار الصوت الواحد في آخر القصيدة يولد صدى تستعين به الذاكرة لمقاومة مكر النسيان.

ولكن أين نحن اليوم من عمل سفينة معجمية جديدة قادرة على مقاومة أعاصير اليوم بكل تفاصيله اللغوية وغناه المفرداتي؟

 رغم امتلاك كل الوسائل العلمية والمادية والتقنية اليوم فضلا عن تقدم الدراسات اللغوية السامية القادرة على سدّ ثغرات شجرات الأنساب الدلالية, نجدنا عاجزين عن بناء معجم عربي موسوعي تاريخي يتلمس قراءة رحلة دلالات الجذور. كل الأمم التي تريد ان يكون للغتها مكان تحت شمس العصر لا تتوانى عن إنشاء معجم تاريخي, أي معجم لا يترك حبل الكلمات على غاربها, ولا يخلط حابل دلالات مفردات الحاضر بنابل دلالات الغابر, ولا يمارس الديكتاتورية المعيارية الصارمة في حقّ بنات الشفاه.

في فرنسا بناء لما أوردته جريدة اللوموند, تحتفل المعاجم في مطلع كل عام بمفردات جديدة تأتيها من خارج الحدود الفرنسية ومن خارج الامتداد الفرنكوفوني, ثمّ مع العشرة والألفة والسكن في دفء الألسنة, تحصل على جنسية فرنسية فيصير شأنها شأن أي مفردة فرنسية أخرى, لها كامل الحقوق,  وتحتفي بها الأوساط اللغوية مع وضع تاريخ ميلادها الصوتي ان كانت جديدة أو وضع تاريخ ميلاد دلالتها الجديدة.

بالنسبة للعربية يمكن للمرء ان يقرأ مأزق تاريخنا الفكري, والحياتي والحضاري الراهن من خلال مأزق مشروع المعجم الكبير الذي ولد كفكرة عام 1934 في رحاب المجمع اللغوي في القاهرة. اللافت للنظر ما ورد في مرسوم إنشاء المجمع وهو “ان يقوم بوضع معجم تاريخي للغة العربية". أي ان الفكرة موجودة, ولكن الأشياء والحياة لا تعيش فقط بالأفكار بل بتحويل هذه الأفكار إلى كيان ينتفض بالحياة. وما ورد في المرسوم يعني بشكل ما ان المجمع هو ابن المشروع المعجمي ولكن لا بدّ من تساؤل هل ثمة عقوق مارسه الابن/المجمع مع الأب/ المعجم؟

والطريف في الأمر ان مشروع قاموس تاريخي هو مشروع لم يخرج من ذهن عربي وإنما من ذهن المستشرق الألماني الدكتور فيشر الذي اهتم منذ أوائل القرن العشرين بوضع معجم تاريخي للغة العربية بدءا من عصر النقوش حتى نهايات القرن الثالث للهجرة, يوضّح الأطوار التاريخية لكل كلمة ودلالاتها التي اكتسبتها على مرّ العصور والاستعمال مع إثبات الشواهد التي تضيء هذه الدلالات.

والقاموس التاريخي تنعم به اغلب اللغات الحية اليوم, بل حتى إسرائيل, استطاعت ان تقوم بهذا العمل فيما يخصّ اللغة العبرية, فأثمر مجهودها عن إنشاء حصن لغويّ حصين هو "المعجم التاريخي للغة العبرية"الذي يضمّ في طيّاته سبعة ملايين كلمة, معروف أصلها وفصلها, وغطّى الفترة الممتدّة من القرن العاشر قبل الميلاد حتى العصر الحديث.

يبدو أن عزم فيشر كان أصلب عودا من عزم علمائنا العرب, إذ أعلنت اللجنة المسؤولة عنه في المجمع اللغويّ في القاهرة وفاة المشروع, مع تبرير واهي الحجة من قبل الراحل الدكتور شوقي ضيف الذي قال ان اللجنة "رأت ان تنصرف عن فكرة تأريخ الكلمات", بسبب العمر الطويل الذي تمتاز به اللغة العربية. وهكذا تحول عمر العربية المديد إلى عبء عليها بدلا من ان يكون دافعا ورافعا ومنشطا لتأليف معجم تاريخي يلمّ شتات العربية ويرسم مسار الأمّة من خلال رسم خطّ بيانيّ لحياة الكلمات. ومن غرائب الامور ولع الأمة بحفظ أنسابها ( لا تزال تصدر إلى اليوم كتب عن شجرات الأنساب!) مع إهمالها لحفظ انساب الكلمات.

وبسقوط مشروع المعجم التاريخي نبتت فكرة مشروع بديل لا شك في انه اقلّ طموحا, والكحل خير من العمى, إلا ان تقليص الطموح نفسه لم يؤد هو أيضا إلى ولادة معجم بات يعرف باسم" المعجم الكبير".

تحول جزء من المعجم الكبير إلى واقع تجريبي عام 1956, إذ أصدر مجمع اللغة العربية جزءا من 428 صفحة ينتهي عند كلمة "أخي",  أي ان عقدين من الزمن تقريبا لم يستطيعا ان يثمرا غير غصن واحد من شجرةحرف الألف. فمتى ينتهي المعجم من وضع اللمسات الأخيرة على حرف الياء؟ بطء مسير الأجزاء لا يبشر بدنوّ اكتماله.

وصل" المعجم الكبير" إلى حرف الخاء في مطلع القرن الحالي, ويقول الدكتور الراحل احمد مختار عمر ان الوقت الافتراضي لإنجاز المعجم المنتظر قد يصل الى ثلاثمائة سنة بناء على معدل الإنجاز للأجزاء الثلاثة الأولى التي صدرت بمعدل جزء واحد كل إحدى عشرة سنة تقريبا. وكان قوله بمثابة قنبلة أثارت امتعاض المجمعيين. الحقيقة دائما تثير الامتعاض. ويذهب الباحث احمد شفيق الخطيب الى القول ان الوقت اللازم لاتمام المشروع قد يستغرق اربعمائة سنة, في حين ان معجم أكسفورد الكبير الشهير لم يستغرق إعداده غير نصف قرن. علما ان الدنيا تغيرت, وأصبحت اليوم الحواسيب والماسحات الضوئية وغيرها من التقنيات قادرة على تسريع انجاز الامور, مهما كانت عصية, فضلا عما تضخّه الجامعات العربيّة من كفاءات لا تستثمر قدراتها.

ان إنجاز" المعجم الكبير" على وتيرة إصدار أجزائه الراهن يعني ان أقسامه الأولى سوف تفقد, حكما, صلاحيتها   بسبب مرور الزمن مما يعنى العودة إلى تنقيحات أجزائه الأولى وما ينتج عن ذلك عمليا من تأجيل لولادة مكتملة.

لعلّنا الأمّة الوحيدة اليوم بين أمم الحضارات التي لا تزال تعيش معجميّا عالة وعبئا على فتات الغابر. ولعلنا الأمة الوحيدة أيضا التي تضطهد كلماتها وتشردها لعدم وجود مأوى معجميّ يحتضنها بين صفحاته.

وليس عن عبث قام ابن منظور بربط المعجم اللغوي بسفينة نوح.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق