الاثنين، 10 أغسطس 2015

ماذا تقول المرايا؟



فتنت المرآة (وليس المرأة) الإنسان لحظة اكتشافه لها، ولكنّه وقع ضحية سحرها وسلطانها. هل كان الإنسان يعرف نفسه قبل اكتشاف المرايا؟ ألمْ يكنْ من قبل إنساناً باهت الحضور والألوان، لا يعرف من ملامح وجهه إلاّ ما تقوله له حاسّة اللمس والظلال الجرداء؟ والظلّ أيّاً كان وضوحه يظلّ يفتقد إلى عالم الألوان الذي يمنح الأشياء هويّاتها؟ ولكن هل عرف الإنسان نفسه بعد أن اكتشف حقيقة المرآة؟!

يروي التاريخ لنا والقصّاصون حكايات كثيرة ساحرة عن المرايا أو ما يقوم مقامها. كان بؤبؤ العين هو المرآة الطبيعيّة التي تسمح للإنسان برؤية وجهه في عين الآخرين (وبمحض المصادفة ربّما تحمل كلمة "إنسان"، في العربية، معنى " ناظر العين"). كانت "عين" الآخر، دائماً، هي بطاقة تعريف الذات شأنها شأن "عين " الماء التي أهدتنا أسطورة نرجس. ولعلّ ما يفصح عن الصلة المموَّهة المعقودة بين الماء والمرآة، في العربية أيضاً، كلمة "الماويّة" المشتقّة من الماء والتي تعني المرآة.

وثمّة حكاية عن أوّل مرآة في التاريخ صادفتها عينا رجل وهي تقول إنّ أحد الحرفيين البسطاء كان برّاً بوالده وكانت زوجته تغتاظ من هذه العلاقة. وقع الرجل بين نارين: نار العقوق ونار الزوجة. فضّل كسر الشر ولكن ضميره لم يكفّ عن لدغ روحه ولا سيّما بعد أن فارق والده الحياة.

نزل الرجل، في يوم من الأيام، إلى السوق لبيع منتوجاته من سلال القصب. وفيما هو يتجوّل في السوق بعد أن نفّق بضاعته إذ بتاجر تحف ينده له ويعرض عليه شراء "شيء مذهل" لا مثيل له في دكاكين الأسواق.

لم يكن هذا الشيء المذهل إلاّ أوّل مرآة من صنع الإنسان. كشف التاجر عن وجه المرآة المغطاة بغلاف من الحرير وما إن تقدم الرجل ليرى المرآة حتى طلّ منها وجه أبيه وهو في شبابه. اعترى الرجل الذهول. زاغت عيناه. ماذا؟ والدي في المرآة! لم يتردّد الرجل في دفع كلّ ما في جيبه من غلّة السلال ثمناً لوجه أبيه. تأنيب ضميره سوف يشفى على يد هذه المرآة. قرّر أن يعامل والده كما لم يعامله من قبل. لن يسقط ثانية في عذاب ضميره. حضن المرآة وذهب إلى البيت. خشي أن تفسد زوجته عليه لقاءه مع أبيه فوضع المرآة في سقيفة المنزل. وكان في كلّ مساء بعد نوم زوجته يتسلل خلسة ويصعد إلى السقيفة لمجالسة أبيه. انتبهت المرأة إلى سلوك زوجها الغريب والمريب، نقزها قلبها وصار الفأر، كما يقول المثل، يلعب في عبّها، فراحت تتساءل: أي سرّ تحمله السقيفة؟

انتهزت فرصة غياب زوجها للصعود إلى السقيفة واكتشاف سرّ جلساته الليليّة الطوال وعثرت بعد البحث على المرآة وحين حدّقت فيها طلّ منها وجه امرأة. صعقت لخيانة زوجها مع "امرأة المرآة"، إذاً كان يتسلّل القذر من الفراش للالتقاء بها، وأنا كالبلهاء. كاد يجنّ جنونها، وراح لهيب الانتظار الأفعوانيّ يلسع أعصابها لسعاً.

عاد الرجل. لم يكن يخطر له ببال أنّ معركة حامية في انتظاره. وما إن دلف عتبة الباب حتى انهمر عليه من السقيفة صراخ يمزّق الجوّ. أتخونني، وفي عقر داري، أيّها الحقير؟ أخبرها بسذاجة الأبرياء أن "الجسم الغريب" ليس إلاّ وجه أبيه حين كان في شرخ الشباب.أبوك يا كذّاب؟ وهل تحوّل جثمان أبيك إلى امرأة؟ لم يفهم الرجل عن أي امرأة تتكلّم زوجته.

وفيما كانت المعركة الكلامية على وشك أن تنقلب صراع ديكة إذ بعجوز ترتسم الحكمة في غضون وجهه يصل كالمخلّص إلى باب البيت فطلبا منه، حسماً للمشاجرة، الصعود إلى السقيفة ووصف ما يراه في المرآة. عاد العجوز ونظر باستغراب إلى الزوجين وقال: لم أر إلاّ شيخاً عجوزاً! بهت الزوجان. لم يفهما كلام العجوز، وظنّا أنّ قوله من تخاريف الشيخوخة. لم يخطر لأيّ واحد منهما أنّ ما رآه ليس إلاّ وجهه المعكوس في المرآة المصقولة، ومن أين لهم أن يعرفوا ولم يكن لأيّ وجه من وجوههم تجربة سابقة مع سحر المرايا؟

لا أعرف لماذا عقّب أحد الذين سمعوا الحكاية بالقول التالي:" يبدو أن معنى أيّ كلام مسموع لا يختلف عمّا رآه كلّ من الزوج والزوجة والعجوز في وجه المرآة ".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق