الاثنين، 3 أغسطس 2015

انتحار على الورق

كلّ إنسان يبتكر لعلاج مشاكله ومآسيه طريقة مختلفة عن الآخر، طريقة تحمل نكهته ونظرته الذاتيّة إلى الأمور. فالناس لا تتشابه إلاّ في العموميّات، أمّا في التفاصيل (وهي مأوى الشياطين على ما يقال) فالأمر متروك للحنكة الفرديّة في التدبير. وكلّ إنسان، في ساعة الغفلة، يخترقه حزن أو تنتهك روحه فجيعة، هذا تدير له من أخلص لها الودّ ظهرها، بعد أن كان يرى ضوء عمره يشرق من لمعة عينيها، وذاك يخسر جنى العمر في لحظة من لحظات الدولار المجنونة. فكم من إنسان مات في لبنان، نتيجة "فرق عملة" بكلّ معنى الكلمة، حين كان أهل المجون الماليّ يلعبون بالدولار وجيوب الناس، طلوعاً ونزولاً. فتغيم سماء الدنيا في عيونهم ويصير لونها كجوف الظلام. ولا يجدون مخرجاً للأزمات التي عصفت بأموالهم ونمط حياتهم إلاّ بكتابة، حادّة الشفار، للسطر الأخير من العمر بدمائهم المحروقة. ولكن البعض يجد أن لا شيء يستحقّ مفارقة الدنيا طوعاً، وقصّة الحطّاب العجوز والعاجز مع ملك الموت التي كتبها "لافونتين" شهيرة، لا تزال، على شيخوختها، فتيّة في الأذهان.
والانتحار، في كلّ حال، صعب مرتقاه. وثمّة عبارة وردت في " كتاب عبد الله" لأنطوان غطّاس كرم تقول:" الانتحار وقفٌ على الجبابرة". ليس سهلاً، في أيّ حال، أنْ يقول المرء بشفتين مطمئنتين: "باي باي يا دني". والبعض يحتقر الدنيا، والدنيا مظلومة، ويقع في فخّ الجناس اللفظيّ فيقرن الدنيا بالدنيّة. وما هي كذلك. فالدنيا بناء وحرث لأنها بحسب قول الرسول، عليه الصلاة والسلام، مزرعة الآخرة، أي أنها بستان يزدان بالخضرة والنضرة.
ومن الممتع حقّا أنْ يتبنّى الإنسان في لحظة ضعف ماكرة معادلة صاغها الكاتب الفرنسيّ أندريه مالرو بأسلوب ملتبس وهي: " الحياة لا قيمة لها، ولكن لا شيء يعادل قيمة الحياة". فعلاً، لا شيء، لا شيء على الإطلاق يبرّر الانسحاب من الحياة، والانسحاب متعدّد، التنبلة مثلاً هي انسحاب مقنّع وأخرق من الحياة. الضجر، أيضاً، عند التعمّق عمليّة قتل للوقت الشخصيّ. اليأس، أيضاً، ضرب أخرق من ضروب الانسحاب، ومثلما تتعدّد دروب الانسحاب تتعدّد كذلك دروب الانتحار. والمنتحر لا ينتحر لأنّه يكره الحياة وإنّما لأنّه يظنّ أن حبّه الكثيف للحياة حبّ من طرف واحد!
كنت قد قرأت فيما مضى كتاب "آلام الفتى فرتر" للكاتب الألمانيّ الذائع الصيت "غوته"، وهو لمن لم يسمع به أديب وفيلسوف وشاعر فضلاً عن كونه واحداً من أهمّ الشخصيّات التي تفتخر بإنجابها رحم ألمانيا الولود، وكان على صلة حميمة بأدبيّات الشرق وروحانيّاته كما تجلّى ذلك في "ديوانه الشرقيّ" ، ويعتبر كتابه "فاوست" واحداً من الروائع الأدبية الأكثر شهرة في عالم الأدب والبيان الذي يمكن تلخيصه بمفردتَي "الصراع بين المعرفة والرغبة اللعوب".
دبّ اليأس، فترة من حياة "غوته"، في روحه، وفتنه الموت وكاد له، وكاد أن يفتك به، وأضحى قاب قوسين منه أو أدنى، وهمّ بخطّ خاتمة كتابه بيمينه، ليرتاح من عذاباته التي لا تطاق، ولكن في لحظة تجلّ روحيّ، راوغ الموت، فاوضه، ساومه، وأخيراً مكر به، وضحك عليه بأن قرّر الانتحار من دون أن يصاب بأذى أو مكروه. قرّر أن يقوم بفعل الأنتحار من دون أن ينتحر فعمد إلى نحر روحه، من الوريد إلى الوريد، ولكن سرْداً على بياض الورق.
خطرت بباله فكرة وهي أن يكتب قصّة تشبه سيرته الذاتيّة بل هي بأغلبها مصبوغة بألوان حياته المعذبّة المقهورة. كتبها في شكل يوميّات وسمّاها " آلام الفتى فرتر" (ترجمها إلى العربية الكاتب الكبير أحمد حسن الزيات، صاحب مجلّة الرسالة، بعبارته الأنيقة وأسلوبه الحارّ الدافق). ينتحر، في آخر القصّة، الفتى فرتر. يموت بدلاً عن غوته. يضحّي بروحه في سبيل أن يبقى من كتبه على قيد الحياة.
لقد مات غوته الحزين، المهزوم، الرومانسيّ المنكسر الذي يرى في الموت راحة من عناء العمر. وانبثق غوته الجديد من جلد فرتر المدمّى. وهكذا أنقذت الشخصيّة المكتوبة مؤلفها الكاتب من غواية الموت برواية الموت.
قد يرى البعض في انتحار "غوته" المجازيّ لعبة أدبيّة لا تخلو من "فذلكة" خياليّة لا تمتّ إلى الواقع بنسب أو صلة رحم.( فهل من الممكن أن تفتدي شخصيّة وهميّة من "حبر على ورق" شخصيّة حقيقيّة من لحم ودم؟). ولكن هذا ما أعلنه غوته نفسه بصريح العبارة حين قال:" لو لم ينتحر فرتر في القصّة لكان الانتحار من نصيبي أنا" ولم يكن غوته ولوعاً بالكذب على ما أتصوّر. من فضائل الكتابة تفريغ مكبوت الرغبات على الورق، وتحويل الورق إلى مجال حيويّ بديل يحقّق فيه المرء رغباته المكنونة كما يمكن للكاتب أن يستعين بالحبر بدل الدم لتلبية طلبات رغابه الرعناء، وهذا يؤكّده ما يعرف في علم النفس بـ"العلاج بالكتاب"، كتابة أو قراءة. وهو علاج ذو حدّين قد يكون له مفعول سلبيّ وعكسيّ!
وهذا ما حصل لبعض قرّاء قصّة "آلام الفتى فرتر" الرومانسيّي الأحاسيس إذ لم يكونوا كلّهم في حنكة غوته، فبدلاً من أن يقضي فرتر على ألمهم الدفين، النابت من أعمارهم الغضّة، ويأخذهم معه إلى حياته الوليدة الطالعة من أنقاض "فرتر"، أطلق عنان الموت المجنون في أرواحهم الطريّة، فانتحر عدد كبير منهم تماهياً مع نهاية الفتى فرتر الدامية، تعاطفوا مع نهايته القاتمة،الحزينة ونسجوا موتهم على منوالها الدامي، ولم ينتبهوا إلى حيلة "غوته" الذي سعد، بخلاف عدد من قرّائه، بعمر مديد.
من هنا، لا بدّ، فيما أظنّ، للقارىء من أنْ يأخذ حذره من معسول القول وزؤام الكلام حتى ولو طلع من صفحات كتبها “غوته"، في النهاية، بحبره لا بدمه.





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق