الأربعاء، 12 أغسطس 2015

الكتابة على الرمل





الكتابة على الرمل


يروي الكاتب ستيفن كوفاي Stephen R. COVEY  في كتابه: " العادات السبع للناس الأكثر فعالية "- وهو الكتاب الذي زادت نسخ مبيعه عن عشرين مليون نسخة عبر ترجماته إلى لغات عديدة منها العربيّة- مقطعاً من سيرة حياة كاتب اسمه أرتور غوردن Arthur GORDON، ووردت الحكاية في فصل بعنوان" اشحذْ ملَكاتِك"، وما لفت نظري هو الاقتباس الذي اختاره المؤلّف من أقوال بروس بارتون  Bruce BARTON ليكون إضاءة كاشفة عن فحوى الفصل. تقول العبارة:" يغريني التفكير بالقول، حين أرى الآثار العظيمة التي تتركها الأشياء الصغيرة في الحياة، إنّ هذه الأشياء الصغيرة ليست أشياء صغيرة". والأشياء الصغيرة تؤدّي دوراً كبيراً في إقامة أود الكبار، ولعل هذا ما تفصح عنه العبارة العربية المأثورة: " بحصة بتسند خابية".

 يقول المؤلف إنّ الكاتب أرتور غوردن كان يمرّ في فترات كآبة حادّة تنهش عمره، كاتب يشعر أنّ كلماته خانته وتخلّت عنه، وأفكاره أدارت له ظهرها، وخياله بات مهيض الأجنحة. لا اظن انّ احدا من الناس لم يمرّ بما مرّ به ارتور غوردن، الشعور بالإحباط شعور قاتل، مدمّر. الاحباط مرض خبيث يعرف كيف يتفشّى في تضاعيف الروح ويدخل من مسامات الجلد وينخر في العظم. كان وضع أرتور يتدهور ولا يعرف وسيلة تخرجه من ورطته النفسية الكابية، فقرّر الاستنجاد بطبيبه. فحصه الطبيب، كلّ شيء في صحته الجسدية كان على ما يرام، فاقترح عليه الطبيب أن يعالجه على طريقته الخاصّة لتحريره من حالته المنهكة بشرط أن  يوافق ارتور على التقيّد بحذافير العلاج، وهو علاج لن يستغرق منه أكثر من أربع وعشرين ساعةً، وهو علاج سوف يساعده على الخروج من نفق السوداويّة المظلم الذي يعيشه، أجاب ارتور بالإيجاب، فعرض عليه الطبيب ان يبدأ بالعلاج من صبيحة اليوم التالي، وذلك بأن يعتمد على ذاكرته، يترك لذاكرته من دون أن يتدخّل بها ان تختار له المكان الأحبّ الى نفسه من الأماكن التي قضى فيها ايّام طفولته، وينطلق بمعالجة نفسه من خلال علاقة مستجدّة مع الامكنة. الذاكرة والمكان وسيلتان سحريّتان على ما يبدو لمعالجة الاعطاب الروحيّة القاهرة التي يمتدّ سلطانها النافذ على الاجساد، وهذا من صلب ما يعرف في الفكر الصينيّ بالـ" فانغ شوي feng shui "  أي الريح والماء. طلب منه الطبيب أن لا يكلّم أحدا، ولا يتصّل بأحد، ولا يرى أحدا. الوحدة، هنا، عنصر من عناصر الشفاء، ولكن هل بإمكان الصمت أن يتحوّل الى علاج فعّال؟ ونحن نعرف أن الصمت قاتل، هذا ما يقوله أيضاً التعبير العربيّ الدالّ على قساوة الصمت " بطقّ اذا ما حكيت" أو " بنفجر اذا ما حكيت". الصمت عبء ثقيل على الروح، فلا بدّ من أن يكون للطبيب مقصد خفيّ من وراء طلبه الغريب، كما منعه الطبيب من أن يقرأ شيئاً، او يستمع الى راديو او يشهد التلفزيون، عليه ان يخرج من عاداته كلّها، يعلّق العمل بكلّ ما كان يقوم به حتّى لا يشوّش على الوصفة الغريبة. ثمّ قام الطبيب بكتابة أربع وصفات طبّية وناولها لأرتور وأردف ذلك بالقول: عليك أن تفتح مغلفاً واحداً بالتسلسل الزمنيّ، وحدّد أوقات فتح المغلفّات في الساعات التالية: الساعة التاسعة، والثانية عشرة، والخامسة عشْرة، والثامنة عشرة، اي انّ الفارق بين كلّ مغلف وآخر هو ثلاث ساعات.

في اليوم التالي، ذهب أرتور الى الشاطىء القريب من مرتع طفولته، وهو ممتلىء بالذكريات الحلوة. فتح الظرف الاوّل في الساعة التاسعة، فلم يجد على الورقة إلاّ كلمة واحدة: "انصتْ". استغرب أرتور، وظنّ بالطبيب الظنون إلاّ انّه كان قد تعهّد للطبيب بالتزام التطبيق. كيف يقضي ثلاث ساعات في الإنصات؟ الى ايّ شيء ينصت في هذا المكان المنعزل؟  ومع هذا قرّر أن يرهف السمع، ويمرّن أذنيه على سماع ما لا يُسمع،  وسرعان ما راح يدخل إلى أذنه هدير الامواج، وصوت انفلاشها على الرمال أو تكسّرها على الصخور، وتناهت الى سمعه زقزقات عصافير، وسرح به خياله من ثمّ الى الأشياء التي اكتسبها من البحر: الصبر، الاحترام، اتصال الأشياء بعضها ببعض، تأمّل الأبعاد المتوارية في الأفق، حكايات البحّارة. راح يصغي ألى كلّ حرف من حروف الصمت كما يصغي إلى ما يتفوّه به زبد البحر، ومرّ الوقت سريعاً، حتى حانت الساعة 12 ففتح الظرف الثاني واذ به عبارة واحدة: "حاول أن تتذكّر"، لم يحدّد له الطبيب ماذا يتذكّر؟ ترك لذاكرته حرية التعبير عن نفسها وأشيائها، فراح يتذكّر أشياء طفولته الجميلة، ما مرّ معه في ذلك الزمان القصيّ، تحولت ذاكرته الى ما يشبه شريطا سينمائيّا تعبره الصور والذكريات والمواقف الحلوة ، وراح دفء غريب يتسلل إلى سويداء قلبه، ثمّ فتح الورقة الثالثة في موعدها، وكانت تحمل العبارة التالية:" حلل بواعثك". وبدأ بارتباك يبحث عن بواعثه: النجاح، اعتراف الآخرين بنجاحاته، الأمان، تلبية الحاجات، ثمّ فكّر في البواعث التي خطرت بباله فوجد انّها بواعث سطحية لا تتعدّى حدود نفسه، فتساءل: هل هذه البواعث التي وردت الى ذهني هي سبب حالتي الراهنة؟ قال أرتور: انّ منطلق بواعثي هو أنا، أنا النبع والمصبّ. الآخرون وسائل، لعلّ هذا ما يسبّب كآبتي الفجّة". وانتهى به المطاف الى الاعتراف ان كل عمل لا يهدف الى تقديم خدمة للآخرين هو عمل فجّ الثمر ومزّ المذاق، لا يمكن إتمامه كاملاً، الآخر يسدّ نقصي. ان هذا القانون يشبه قانون الجاذبية، لا مفرّ منه. كان الوقت قد حان لفتح المغلّف الرابع والأخير، وحين وقعت عيناه على كلمات الوصفة الأخيرة قرأ ما يلي:" اكتب مشاغلك"، فالتقط صدفة من الشاطىء وراح يكتب لائحة بمشاغله على الرمل، ثمّ ذهب، تاركاً خلف ظهره كلماته وانشغالاته، وهو يعرف أنّ مياه الشاطىء ستقوم بمهمّة الممحاة وتمحو ما كتبه من مشاغله على تجاعيد الرمال.

فترة زمنيّة لم تستغرق أكثر من أربع وعشرين ساعة كانت كفيلة بإخراجه من حالة كان يظنّ الخروج منها أمراً عصيّاً. أليست مشكلة الإنسان أنّه " يقعد لحاله ولكنّه نادراً ما فكّر أن يقعد مع حاله؟".

بلال عبد الهادي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق