الاثنين، 17 أغسطس 2015

بلا وجعة دماغ!




عالم الدماغ فاتن جدّاً، ومجهول جدّاً رغم التقدّم المذهل في كشف أغواره، ورفع الحجب عن تلافيفه التي تبلغ مساحتها إذا ما مدّت اربعة امتار مربّع. يعود اهتمامي بالدماغ إلى أسباب لغويّة. فعلم اللغة العصبيّ من اهمّ المجالات المستحدثة في عالم اللغة، وعلم اللغة العصبيّ هو همزة الوصل بين علم اللغة المحض وعلم الأعصاب المحض، وهو علم لا يزال في بداياته، فوظائف خلايا الدماغ لم تكشف بعد كلّ ما في جعبتها من كنوز مكنونة سوف تقلب معرفة الإنسان بنفسه رأساً على عقب. وهناك أكثر من مائة مليار خلية عصبية ناشطة داخل الجمجمة البشرية، وهي تتواصل فيما بينها وتنسّق حياة الناس بشكل مدهش، ولكلّ منها وظيفة عمليّة وحياتيّة، ولا يمكن لأيّ كان أن يدّعي يحفظ وظائف الخلايا كرج الماء.

سأتكلّم هنا على نقطة واحدة من عالم الدماغ، وهي ما تسمّى بالدماغ المشطور. يتألّف الدماغ من شقّين أو نصفين، الشقّ الأيمن والشقّ الأيسر، وتربط بينهما روابط كثيرة تلعب دور الجسور وظيفتها تبادل المعلومات للتنسيق فيما بينهما بغية تدبير شؤون حياة الناس من ابسط الأمور إلى أعقدها. كانت السيادة، وعلى امتداد حقب طويلة، للشقّ الأيسر من الدماغ حيث مستقرّ الأنشطة اللغوية فيما يعرف بمنطقة بروكا ومنطقة ورنيك، وتسمية كلّ منهما تعود الى اسم طبيب اكتشف مكامن اللغة في الدماغ، امّا الشق الأيمن فهو شقّ كان يعتبر، الى وقت قصير، تابعا لا متبوعا، ولكن تمّ التسليط مؤخراً على دوره الفذّ بسبب طبيعة العصر الراهن، الرجراج، حيث تزدهر اللامتوقعات، فنحن نعيش في عصر السيادة فيه للشكّ لا لليقين، وما هو غير متوقع أكثر بكثير ممّا هو متوقع في حياة الناس، هل كان الربيع العربيّ مثلاً متوقّعاً؟ وللشقّ الأيمن قدرة لينة وطيّعة، ومهارة فائقة في معالجة اللايقينيّات أكثر من اليقينيّات المنطقيّة التي هي من اختصاص الشقّ الأيسر، فاللغة والمنطق يعيشان جنباً الى جنب في الشقّ الأيسر، وهنا تحضرني عبارة لأبي سليمان المنطقيّ يقرن فيها بين النحو والمنطق بحسب العبارة التي وردت في كتاب المقابسات لأبي حيّان التوحيديّ وتقول إنّ :" المنطق نحوٌ عقلي"، أمّا اللامنطق والتواصل غير اللفظيّ يعيشان معاً في وئام حميم في الشقّ الايمن من الدماغ،. وهناك وسائل متعددة تساعد المرء على تدريب الدماغ بشقّيه، وليس بالمنطق وحده يحيا الانسان، وليس بالمنطق يتعامل القلب، أو قل كما قال باسكال:" للقلب منطق لا يعرفه منطق العقل". وهذا ما تقوله أيضا علية بنت المهديّ، أخت الخليفة العباسيّ هارون الرشيد في بيتين من الشعر:

بني الحبّ عَلى الجور فلو أنصف المعشوق فِيهِ لسمج

لَيْسَ يستملح فِي وصف الهوى عاشق يحسن تأليف الحجج

وقد تتعرض الروابط بين الشقّين لحادث ما فينقطع حبل الودّ بين الشقّين الأيمن والأيسر، فداء الصرع يتطلّب عملية جراحيّة مثلاً تستأصل بعض الروابط بين الشقّين،، ولقد استوقفتني منذ فترة حكايات دماغيّة يظن القارىء انها حكايات يستحيل حدوثها في الحياة، بل انها اقرب ما تكون الى تلك الاشياء الخيالية التي تبرع فيها هوليوود، أو الخرافيّة التي تملأ أقاصيص الأوّلين الاّ انها وقائع فواجع من صلب الحياة، وهي قصص واقعية جدا ومؤلمة جدا وقد تثير الضحك بقدر ما تثير الشجن. لم اعتمد على لساني في سردها على بعض الأشخاص المتعلمين، وانما احلتهم الى قراءتها مباشرة من كتابين، وهما: "المخ البشري، مدخل الى دراسة السيكولوجيا والسلوك"، لـكريستين تمبل" التي نشر في سلسلة عالم المعرفة تحت العدد 287، والثاني كان اطروحة دكتوراه بعنوان " علاقة المخّ بالتحكم في السلوك الانساني للدكتور بشير معمريّة، والكتاب صادر عن المكتبة العصرية في القاهرة عام 2009، ، والعدد 473 من مجلة "la recherche " التي صدر مطلع هذا الشهر، وفيه ملفّ طريف عن الدماغ بعنوان: " Comment notre cerveau decidé, Sommes- nous   vraiment rationnels?" ( كيف يقرّر دماغنا، وهل نحن، فعلاً، عقلانيين؟). كان الاستغراب والاستهجان بل والاقتناع باستحالة حدوث ما قرأ رد فعل أغلب من قام بقراءة القصص؟

وإليكم القصص:

وقعت لأحد المصابين بالدماغ المشطور حادثة، حيث وجد يده اليسرى تقاوم يده اليمنى عندما كان يريد أن يلبس سرواله في الصباح، فبينما كانت إحدى يديه تجاهد رافعة السروال الى أعلى، كانت اليد الأخرى تحاول شدّه إلى أسفل"، فاليد اليسرى تنفذ اوامر الشقّ الأيمن، واليد اليمنى تنفّذ أوامر أو رغبات الشقّ الايسر. وغياب هيئة التنسيق التي هي الروابط بين الشقين جعلت كلّ شقّ يتصرّف على ذوقه او قل مزاجه.

وفي طرفة مماثلة لنفس المريض الذي حدث ان كان في حالة غضب من زوجته، فأمسك بها بيده اليسرى محاولاً جذبها اليه بقوّة لتعنيفها، الاّ ان يده اليمنى وقفت ضدّ رغبات اليد اليسرى وقامت بردعها وإيقافها عند حدّها ومنعها من الدنوّ من الزوجة لتحقيق رغباتها العنفيّة. ثمّة عبارة مجازية في تراثنا المأثور، تقول: " لا تعرف يده اليسرى ما تفعله اليد اليمنى"، ولكن يبدو ان تطوّر الدراسات الدماغيّة والعصبية قد أظهر بطلان صلاحيّة الدلالة المجازيّة لهذا التعبير!

وتروي الكتب التي تتناول شؤون الدماغ حالات مشابهة، منها قصّة مريضة بـ" الدماغ المشطور"، وقفت أمام خزانتها لتختار ملابسها، امتدت كلّ يدّ على حدة لتختار ثوباً مختلفاً لارتدائه في الوقت نفسه، وهناك تقارير أيضاً حول احدى مريضات الدماغ المشطور كانت تذهب للتسوّق لنفسها من السوبر ماركت، وكانت تحبّ نوعاً من الحلوى بينما كانت ابنتها تحب نوعاً آخر، فوقعت في حيرة، والحيرة قد تكون، في حالات طبيعية، ولكن ترجمة الحيرة سلوكيّاً لدى هذه المريضة لا تخلو من غرابة، كانت اذا امتدت احدى يديها لالتقاط النوع الخاصّ بها، امتدت اليد الأخرى لالتقاط النوع الخاصّ بابنتها، فتتقابل اليدان في المكان نفسه من الثلاّجة، الامر الذي يؤدّي إلى حدوث تعارض بينهما يجعل اتخاذ القرار يستغرق وقتاً طويلاً للغاية، ويجعل عمليّة التسوق تستغرق ساعات طويلة.

وأنهي بحكاية رجل تصارعت يده اليمنى مع يده اليسرى على أزرار قميصه، كانت يده اليمنى تقوم بتبكيل أزرار قميصه وما إن تنهي مهمتّها حتى تقوم اليد اليسرى بفكّ أزرار القميص. 

أعرف أنّ كثيرين سوف يستغربون ما ورد في المقال، إلاّ أنّ أطبّاء الأعصاب والدماغ يعرفون أنّها حالات لا يمكن نكرانها، ولا يمكن إنكار فضلها، فهي، على مأساويّتها، تعتبر فرصة علمّية ذهبيّة لعلماء الأعصاب والدماغ تسمح لهم بمعرفة آلية عمل الدماغ الذي لا يزال الانسان يقف حائراً امام الكثير من أسراره المذهلة.






ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق