الاثنين، 10 أغسطس 2015

انتبهوا ايها السادة


من العقم ان يكتفي المرء بكتاب الحياة. كثيرون لا يقرأون، يتعبون من القراءة، يتأففون، يعتبرونها من الأمور المضجرة، فيقولون أننا نقرأ في كتاب الحياة. ولكني أظن ان كتاب الحياة وحده لا يكفي.

كما أظنّ ان الكتاب الورقي وحده لا يسمن من جوع، أيا كان كاتبه. فليس بالكتاب وحده يحيا الانسان، لا بد من عقد قران بين كتاب الحياة وكتاب الورق. ان الحياة بكتاب واحد لا يمكن لها ان تكون سوية، مكتملة النضج، وهذا ما يتجلى في فيلم "انتبهوا ايها السادة" وهو من الأفلام المصرية القديمة الذي قام بلعب دور البطولة فيه محمود ياسين وحسين فهمي. يلعب حسين فهمي دور أستاذ فلسفة في الجامعة، بينما محمود ياسين يلعب دور زبال أمي. وتدور أحداث الفيلم على المفارقات الموجعة.أستاذ الفلسفة، يتعذّب، يؤجل زواجه من خطيبته (ناهد شريف) لأنه لا يملك بدل "خلو اجر" للعشّ الزوجي. بينما الزبّال إنسان مكافح وذكي يعرف كيف يحول أكياس الزبالة إلى أكياس بترول إذا صح التعبير فهو لا يرمي النفايات، لا يحتقرها، يجمعها بحنو، ومحبة، يحتفظ بكل ما يمكن ان يكون سببا لدخل إضافي، الحديد ،الزجاج، الورق، الكرتون،. كل ما يخطر ببالك. فضلا طبعا عن مداخيل غير منظورة، مرمية في نفايات الأغنياء، مما يذكر هنا، بمسرحية الزبال، الرائعة التي قام ببطولتها،

للفيلسوف أخت، وقع في حبها الزبال، وبكل صدق طلب يدها من الفيلسوف. هنا شعر الفيلسوف ان كرامته جرحت، ماذا؟! ايجرؤ زبال على طلب يد أخت فيلسوف؟ ينهره الفيلسوف بكلمات جارحة ويطرده. يدور دولاب الأيام، والأيام دوّارة. ومن يظن ان الدنيا ليست دولابا، سوف يصاب بخيبة ما على مفرق من مفارق العمر الكثيرة، في زمنه أو زمن أحفاده، فالزمن لا يتعامل مع جيل واحد، وبرمة الدولاب الدهري ليس بالضرورة ان تتم في حياة واحدة، ان دولاب الدهر أشبه بثلاثية نجيب محفوظ، لا تكتمل دورته إلا على امتداد أجيال.

تمر السنوات والفيلسوف لا يجد المبلغ الكفيل بإنقاذ حبه من الجفاف. ويظل يسعى،  يعرف ان ثمة شقة للإيجار في عمارة قيد الانشاء، يذهب ليراها.حين يصل يجد الزبال قاعدا ويشرب شيشته. يعتقد ان الزبال غير مهنته واصبح بوابا، وكم ينصدم حين يعلم ان الزبال هو صاحب العمارة. هنا، لا يستوعب الفيلسوف. مع العلم ان الفيلسوف عليه ان يستوعب.في نهاية الفيلم يخطف الزبال خطيبة الفيلسوف، فينهار ويلعن أخلاق آخر زمن.

ما لفت نظري بحبكة الفيلم، ان المال لم يغير إلا قشرة الأشياء في حياة الزبال. فللزبال الغني ابن كسول، لا لأنه كسول، وإنما لان خرجيته تفوق راتب الأستاذ في مدرسته، فالزبال يظن ان اغداق المال الطائل وسيلة تربوية ناجعة. كما ان الزبال لا يحسن التعامل مع ثروته. التناقض بين ماله وعقله يبدو من خلال المفارقات بين امواله وملابسه التي لا تنم عن وجود ذوق.

بينما الفيلسوف ابن كتب فقط، كتب لا غير، مما يؤدي به إلى ان يتعامل مع الكتاب بشكل يدعو للرثاء. فهو شديد الصلابة والجهامة، يتعامل مع خطيبته كما يتعامل مع أوراق كتبه. يعيش على هامش الحياة، كما يعيش البياض على هامش صفحات الكتب.

يخرج المشاهد من الفيلم ربما بازدراء للعلم وهذه قراءة مبتورة، وقد يخرج بخلاصة ان المال هو سر السعادة، وقراءه الفيلم، هنا، تكون أيضا ناقصة، ومبتورة.

لكأن الفيلم يريد ان يقول لنا، ان عيب الفيلسوف في انه ظن ان الحياة امتداد لصفحات الكتاب، وعيب الزبال اعتقاده ان المال كفيل بتبييض وجه الأمية الأسود.الأميّة مع المال نهايتها حائط مسدود.والعلم بلا أقدام في الأرض نهايته أيضا حائط مسدود.الهذا السبب تكثر الحوائط يا ترى في عالمنا العربي؟


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق