الأحد، 16 أغسطس 2015

الياباني والطبيعة


لا يخلو بيت، فيما أتصوّر، من الصور، صور متعدّدة الأشكال والألوان نزيّن بها جدران البيوت أو ننعش بها ذاكرتنا وعواطفنا إذا كانت عائدة لوجه حبيب غادرت روحه الدنيا، على حين غفلة، أو هاجر لضيق ذات اليد إلى بلاد الله الواسعة. فالصورة جزء من الحياة نكتبها على جدران الغرف في البيوت. ولكنّ الناسَ لا يتعاملون معها بالطريقة نفسها. العلاقات بين الصور والأحياء تلوّنها ثقافات الشعوب. وما لفت نظري التعامل المميّز مع الصورة في اليابان، وبالتحديد صور الطبيعة من أشجار وأزهار وجبال وبحار وسماء زرقاء.

الصورة أو اللوحة في اليابان لا ترتبط بديكور البيت بقدر ما ترتبط بديكور الطبيعة. والطبيعة ليست جامدة، إنّها متحرّكة متغيّرة كأشكال الغيوم. فليرفع المرء رأسه قليلاً إلى السماء وسوف يرى كيف أنّ الغيمة لا تصبر على شكل واحد، فهي متغيّرة، دائمة التحوّل والتشكّل لكأنّها تهرب، في كلّ لحظة، من شكلها أو أنّها تعتبر السماء الزرقاء ملعباً شاسعاً أو شاشة زرقاء تمارس عليها هواياتها في فنّ الرسم بالأبيض والرمادي.

وينظر اليابانيّ إلى الطبيعة حوله فيرى الدنيا تبدّل ملابسها بتبدّل الفصول. الثبات حالة وهميّة أكثر ممّا هو حالة واقعيّة أو طبيعيّة، وهذا من القناعات الثقافيّة في الشرق الأقصى عموماً، هذا الشرق الذي لا نعرف عنه للأسف إلاّ الحدّ الأدنى.

الصور على الجدران في بيوت اليابانيّين ليست بدورها ثابتة شأنها شأن تحوّلات الطبيعة، ولا مفرّ من وجود تناغم وانسجام بينه وبينها يبلغ الأوج في موسم إزهار شجر الكرز حيث تكرّس للكرز احتفالات فولكلوريّة راقية. المهمّ حين يتبدّل الطقس أو يتغّير الفصل يغيّرون الصور في بيوتهم بما يتلاءم ومزاج الطبيعة. من غير المنطقيّ، في نظرهم، أن تكون الصور في منازلهم على نفار مع الطبيعة، إذ لا يتصوّر المرء لوحة ماطرة معلّقة على جدار في فصل الصيف أو لوحة تشرق من إطارها شمس ساطعة في أيّام البرد.

وضرورة الانسجام بين الإنسان والطبيعة يتعلّمها الولد في البيت كما يتعلّمها أيضاً في المدرسة، بل ان قانون بناء المدارس يشجّع على بناء علاقة ودّية وحانية مع الطبيعة. فلا يمكن تصوّر وجود مدرسة في اليابان بلا فسحة خضراء بل لا يرخّص لبناء مدرسة إنْ كانت خارطتها تخلو من حيّز مخصّص لإنشاء حديقة. في كلّ مدرسة يابانيّة فضلاً عن قاعات الدرس والملعب والمستلزمات الثقافيّة والترفيهيّة حديقة صغيرة، حتى تكون المدرسة منسجمة مع الطبيعة. فمن القبح النافر ان تكون المدرسة على علاقة متوتّرة مع الطبيعة، لأنّها تكون بمثابة مدرسة شاذّة، غير طبيعية. والخضرة ليست لمجرّد إمتاع العين وتنقية الأجواء من تلوّث الهواء، بل إنّها ضروريّة ضرورة المختبر في المدرسة، بل أنّها موجودة لتكون قاعة درس زراعيّ في الهواء الطلق. فلا يكفي ان يتعلّم الطالب في اليابان ما يُتعارف عليه أنّه علم. إنّ الأهمية التي تعطى للعلم المحض في المدارس هي نفسها التي تعطى للتربية بما في ذلك تربية إحساس الإنسان النبيل تجاه الطبيعة. فللطلاّب ساعات تعليميّة في الحديقة، لدراسة الزراعة والفلاحة وتشذيب الغصون حتّى يكونوا على بيّنة بكيفيّة استثمار الأرض. من هنا معروف عن اليابانيّ أنّه لا يدير ظهره لمباهج الطبيعة بل يتعامل معها برفق وافتتان.

ترى ماذا يصير عندنا إذا قرّرنا ان تكون الحدائق جزءاً من مستلزمات البناء المدرسيّ؟ كم مدرسة تبقى على قيد الحياة؟ بل قد يرى بعض الأهل ربّما أنّ أبناءهم أرقى من أن يتعاملوا مع الأرض التي لها، فيما يرَوْن، أهلها وناسها. ألا تتغيّر أيضاً علاقتنا في طرابلس مع المدينة؟ ألا نسترجع حرفاً على الأقلّ أو حرفين من لقبها(الفيحاء) الذي تفكّك وتشرّد في عمارات الإسمنت والباطون؟ ومن يمكن له ان يدّعي وجود حديقة في الفيحاء؟ دائماً أترحّم على نوفل وحديقته اليتيمة(المنشية)، وهي حين وجدت كانت كبيرة مقارنة مع المعمور من الفيحاء آنذاك، ولكن المدينة تضخّمت وامتدت امتداداً جشعاً وأعمى لم يرحم غصن ليمون أو عرق زيتون، ومع هذا لم نلحظ إنشاء حديقة جديدة تعادل معادلة نسبيّة حجم حديقة نوفل.

أتساءل لماذا لا يُستثمر المهندس الزراعيّ في عمليّة ترميم ذهنيّاتنا وعلاقاتها مع الأرض؟ ألسنا في أمسّ الحاجة إلى جغرافيا بشريّة تعيد همزة الوصل بين الإنسان والأرض التي هي أكثر من مثوى لرفاتنا بدلاً من الاكتفاء بترداد مقولة "لبنان الأخضر"،  وبدلاً من أن يرى كلّ واحد منّا شموخ الجبال على أنّه مشروع كسّارة تدرّ ربحاً وقبحاً؟


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق