الكلمة التي القاها يوسف زيدان ممتعة، وبسيطة، رغم وجود الحلاّج في نصّه المرتجل. تفاجأت بحفظه لنصّ الحلاّج، وكنت قد تعرّفت لأوّل مرّة على هذا النصّ المدهس" طواسين" ، في باريس، في سنتر جورج بومبيدو. لم يقتبسه كلّه، ارتجل مقاطع غنية منه، وهنا ادرج كاملا النص الموسوم: طاسين الأزل والالتباس، بتحقيق لويس ماسينيون الذي تتبّع كلّ مؤلفات الحلاج الشعرية والنثرية والّف حوله كتابا ضخما من مجلّدات عدّة.
هذا النصّ يقرأ كما يشرب فنجان القهوة، اي يرتشف ارتشافاً.
كتاب الطواسين ، للحلاج
(طاسين الأزل والالتباس)
الحلاج (أبو المغيب الحسين بن منصور ، المقتول ببغداد سنة 309 هجريَّة) وأحدٌ من أشهر صوفيَّة الإسلام .. وقد استقصينا الكلام عنه فى بحثنا المتاح على الموقع الحلاج ومحاولة تفجير اللغة . أمَّا هنا ، فسوف نقرأ – بل نتأمل- نصَّ الحلاجِ الذى يسلك فيه مسلكاً خاصّا فى فهمه للشيطان .. إبليس .. ذلك الكائن المسكين !
فى صِحَّةِ الدعاوى ، بِعَكْسِ المعانى – قال العَالِم السَّيَد الغريب أبو المغِيث قدّس اللهُ روحَهُ ما صحَّتْ الدعاوى لأَحَدٍ ، إلاَّ لإبْليِسٍ وأَحْمَدَ ، صلعم ، غير أن إبليس سَقَطَ عن العَيْنِ ، وأَحْمَد صلعم كُشِفَ لَهُ عن عينِ العين . قيل لإبليس "أُسْجُدْ!" ولأَحْمَد "أُنْظُر!" هذا ما سجد ، وأحمد (ما نَظَرَ) ما التفت يميناً و لا شمالاً ، "ما زَاغَ البَصَرَ وما طغى" . أما إبليس فإنَّهُ دَعَا لَكِنَّهُ [ما] رَجَعَ إلى حَوْلِهِ ، وأَحْمَد صلعم ادعى ، ورَجَعَ عن حَوْلِهِ . [بقولِهِ "بك أحُول وبكَ أصُول ! " بِقَوْله " يا مُقَلِبَ القلوب ! " وقوله "لا أُحْصِى ثناءً عليك " وما كَانَ فى اهلِ السَّماءِ مُوَحِدٌ مثل إبليس ، حَيْثُ إبليس [تَغَيَّرَ] عَلَيْهِ العين ، وهَجَرَ الأَلحاظَ فى السَّيْرِ ، وَعبدَ المعبودَ على التَّجرِيدِ ، ولُعِنَ حَيْنَ وَصَلَ إلى التَّفْرِيدِ ، وطُلِبَ حَيْنَ طَلَبَ بالمزِيد ، فقال له "اُسْجُدْ!" – قال " لاغير! " قال لَهُ "وإِن عليك لعنتى ؟ " – قال " لا غير! "مالى لى إلى غيرك سبيل ، وإنى مُحِبٌّ ذَليل " قال له "استكْبَرْتَ" قال " لو كان لى مَعْكَ لَحْظَةٌ ، لَكَانَ يليق بِى التَكَّبر والتَّجَبُّر ، وأنا الذَّى عَرَفْتُكَ فى الأَزَلِ " أنا خير مِنْهُ" لأَنَّ لى قدمةً فى الخدمة ، وليس فى الكونيْن أَعْرَفُ مِنْى بك وَلِى فيك إرادةٌ ولك فِى إرادةٌ ، إِرادتُكَ فىَّ سابقة [-] ، إِن سجدتُ لغيرِك، فإن لم اسجُد ، فلا بُدَّ لى من الرجوع إلى الأَصْلِ ، لأنَّك خَلَقْتَنِى مِن النار، والنار ترجع إلى النار ، ولَكَ التقدير والاختيار .
فما لى بُعدٌ مالى بَعْدك بعْدما تَيَقَّنْتُ أَنَّ القُرْبَ والبعد واحدُ
وإِنّى وإِنْ اهجرتُ فالهَجْرُ صاحبى ، وكيف يصحُّ الهجر والحبّ واحد لكَ الحمْدُ فى التوفيق فى مَحْضٍ خلاص] لبُعْدِى زِلَّتِى مالى غيرك ساجد التقى ، موسى عم وإِبليس على عَقَبَةِ الطور ، فقال له " يابليس! ما مَنَعَك عن السجود؟" – فقال منعنى الدعوى بِمَعْبُودٍ واحدٍ ، ولو سجدتُ لَهُ ، لكُنْتُ مثلك ، فأنك نُوديت مرّةً واحدةً "انْظُرْ ، إلى الجبل" فَنَظْرتَ ، ونُوديتُ أَنا ألفَ مرّةٍ أّن اُسْجُدْ فما سَجَدْتُ لدعواى بمعناى . فقال لَهُ "تَرَكْتَ الأَمْرَ؟" فقال "كان ذلك ابتلاءً لا أَمْراً" – فقال له "لاجَرَمَ قَدْ غيَّرَ صورتَك" –قال له "يا موسى ذا وذا تَلْبيِسٌ ، والحال لا مُعَوَّل عليه فإنَّهُ يَحُولُ ، لكن المعرفة صحيحة كما كانتْ، وما تَغَيَّرَتْ ، وإِنْ الشخْص قد تَغَيَّرَ ". فقال موسى "الآن تَذْكُرُهُ؟" - فقال يا موسى الفِكْرَةُ لا تذكر ، أنا مذكور وهو مذكور ، ذِكْرُهُ ذِكرى ، وذِكْرِى ذِكْرُهُ ، هَلْ يكون الذاكرون إلا مَعاً ؟ خِدْمتِى الآن أَصْفَى ، ووقَتْى أَخْلى ، وذِكْرى أَجْلى ، لأَنى كنْتُ أخدِمُهُ فى القِدَم لحظِى ، والآن أخدمُهُ لحظَّهِ. ورفَعَنَا الطَّمْعَ عن المنْعِ والدَّفعِ والضرِ والنفع أَفْردَنَى ، أوجدَنى ، حيرنى طردنى لئلا أختلط مع المخلصين ، ما نَعنَى عن الأَغيار لغَيْرتى ، غَيّرنى لِحيْرتِى ، حَيَّرَنى لِغُربْتِى [-] حَرَّمَنى ، لصُحبَتِى ، قَبَحَنِى لِمِدْحَتِى ، أَحْرَمَنِى لِهَجرتَى، هجرنى لِمكُاَشَفَتى ، كَشَفَنِى لِوَصْلَتى ، وَصَلَنِى لِقَطْعَتى ، قَطَعَنِى لِمُنْعِ مُنِيَتِى، وحَقِهِ ما اخطاتُ فى التدبير ، ولا رددتُ التقدير ، ولا باليتُ بِتَغْيرِ التصوير ، لِى على هذه المقادير تقدير ، ان عذبَنى بِناره أَبَد الأبدِ ، ما سَجَدتُ لأَحَدٍ ، ولا أذلُّ لشَخْصٍ وجَسَدٍ ، ولا أعْرف ضدًّا ولا وَلَدًا ، دَعْوَاى دَعْوَى الصادقين ، وأَنا فى الحبِ مِن الصادقين " . قال الحلاج رحمه الله ، وفى أحوال عَززيل أقاويل ، أَحَدُها أنَّه كان فى السَّماء داعياً ، وفى الأرضِ داعياً ، فى السماءِ دعا الملائكة يُريهم المحاسِنَ ، وفى الأرض دعا الإنس يُريهم القبائح ، لأَنَّ الأشياء تُعرف بَأضْدَادِها ، والسَّرَق الرقيق يُنسج من وراء المسح الأَسْوَد ، الملَكُ يعرض المحاسن ويقول للمُحْسِن "إن فَعَلْتَها أجُرتَ " مرموزًا ، ومَن لا يعرف القبيح لا يعرف الحسن ، تناظرتُ مع إِبليس وفِرْعَوْن فى الفُتُوَّةِ فقال إبليس "إن سجدتُ، سَقَطَ عَنِى اسم الفتوَّة" وقال فرعون "إن آمنتُ بِرسوِلهِ ، سقطتُ من منزلة الفتَّوةْ". وقُلْتُ أَنا "إنْ رجعتُ عن دعواى وقولى ، سقطتُ مِن بِساطِ الفتَّوةِ" وقال إبليس "أنا خير مِنْهُ" حيْنَ لم يُراء غَيره غَيْراً ، وقال فرعون "ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِن إِلَهٍ غيرى " حيْنَ لم يَعْرِف فى قَوْمِهِ من يميز بين الحقّ والباطل ، وقُلْتُ أنا "إن لم تعرفوُهُ فاعرفوا اثارَهُ، وأنا ذلك الاثر وأَنا الحقّ ، لأَنى ما زِلتُ أَبَداً بالحِق حَقًّا!
فصاحبى وأُستَاذى إبليس و فرعون ، وإبليس هُدِدَ بالنارِ ، وما رَجَعَ عَن دعواه ، وفرعون أُغْرِقَ فى اليم ، وما رجع عن دعواه ، ولم يقر بالواسِطَةِ البتّة، وإن قُتِلْتُ أو صُلِبْتُ أو قُطِعَتْ يداى ورجلاى ما رجعتُ عن دعواى" . أُشتق اسم "إبليس" مِن اسمِهِ ، فغير "عَزَازيل" العين لِعَلْقِ هِمّتِهِ ، والزّاى لازدياد الزيادَةِ فى زيادتِهِ ، و ال أَلِف زادَهُ فى أُلْفَتِهِ ، والزّاى الثانية لِزُهْدِهِ فى رُتْبَتِهِ ، والياء حيْنَ يأوى إلى سَهِيقتِهِ ، واللاّم لمجادَلَتِهِ فى بَليَّتِهِ ، قال لَهُ "لاتسجد؟ يا أيُّها المهين! " قال "مُحِبّ ، والمحِبُّ مَهِينُ ، إنَّك تقول "مَهين" ، وأنا قرأتُ فى كتابٍ مُبين ، ما يجر علىَّ يا ذا القوَّةِ المتين ، كَيْفَ أذل لَهُ وقد خَلَقْتَنِى مِن نارٍ وخَلَقْتَهُ مِن طينٍ، وهُما ضِدَّان لايتوافقان ، وإنِّى فى الخدمَةِ أَقْدَم، وفى الفَضْلِ أَعظَم، وفى العِلْم أَعْلَم ، وفى العمر أَتَمُّ " . قال لَهُ الحقُّ ، سُبحَانهُ "الاختيار لِىَ ، لا لَكَ " قال " الاختياراتُ كُلُّها واختيارى لَكَ ، قد اختَرْتَ لى يا بديع ، وانْ مَنَعْتَنى عن سجودِهِ فأَنْتَ المنيع، وإن أخطأتُ فى المقال فلا تهجرنى فأَنْتَ السميع ، وإن أَردّتَ أن اسجدَ لَهُ فأنا المطيِع ، لا أَعْرِفُ فى العارفين أَعْرف بك مِنىِّ (خفيف)
لاتَلُمِــنى فاللومُ مِنّى بَعيد ُ وأَجِرْ سَيِدِّى فإنِى وَحِيـدُ
إنَّ فى الوَعْد وَعْدك الحقّ حَقًّا إنَّ فى البدْو بدْو أَمرى شَدِيدُ
من أَراَدَ الكَتابَ هذا خطابى فاقرؤا واعلموا بأنى شَهِيــدُ .
يا أخى ! سُمِىَ عزازيل لأ[نه] وكان مَعْزُولاً فى ولايتِهِ ، ما رَجَعَ مِن بدَايتِهِ إلى نِهَايتِهِ ، لأنَّهُ ما خرج مِن نِهايتِه، خُرُوجُهُ مَعْكُوِسُ فى استقْرارِ تأريِسهِ مُشْتَعَلُ بِنَارِ تَعْرِيسِهِ ونُورِ تَرْويِسهِ، مَراضُهُ محيلٌ مُمَصْصَ ، مُغَابَصُهُ فَعِيل رميص، شَرَاهِمُهُ برهميَّة ، ضَوَارِيهُ مُخيِليَّة ، عماياه فطهميَّة ، يا أخى ! لو فَهِمْتَ لترصَّمْت الرصم رصمًا ، وتَوَهَّمتَ الوَهمَ وَهماً ، ورجَعتَ غَمًّا ، وفَنْيتَ همَّا ، فُصَحَاءُ القومِ عن بَابِهِ خَرَسوا ، والعُرَفاء عجزوا عن ما درسوا ، هو الذى كان اعلْمَهم بالسجود، وأَقْربهم مِن الموجود ، وأَبْذَلَهم للمَجهود ، وأَوفْاهم بالعهود، وأَدناهم مِنْ المعْبود ، سجدوا لآِدَمَ على المساعَدة ، وابليس جَحَدَ السجود لِمُدَّتِهِ الطويلة على المشَاهدَةِ .
عن نشرة لوى ماسينيون (باريس 1913) مع ضبط وتعديل للنصوص
هذا النصّ يقرأ كما يشرب فنجان القهوة، اي يرتشف ارتشافاً.
كتاب الطواسين ، للحلاج
(طاسين الأزل والالتباس)
الحلاج (أبو المغيب الحسين بن منصور ، المقتول ببغداد سنة 309 هجريَّة) وأحدٌ من أشهر صوفيَّة الإسلام .. وقد استقصينا الكلام عنه فى بحثنا المتاح على الموقع الحلاج ومحاولة تفجير اللغة . أمَّا هنا ، فسوف نقرأ – بل نتأمل- نصَّ الحلاجِ الذى يسلك فيه مسلكاً خاصّا فى فهمه للشيطان .. إبليس .. ذلك الكائن المسكين !
فى صِحَّةِ الدعاوى ، بِعَكْسِ المعانى – قال العَالِم السَّيَد الغريب أبو المغِيث قدّس اللهُ روحَهُ ما صحَّتْ الدعاوى لأَحَدٍ ، إلاَّ لإبْليِسٍ وأَحْمَدَ ، صلعم ، غير أن إبليس سَقَطَ عن العَيْنِ ، وأَحْمَد صلعم كُشِفَ لَهُ عن عينِ العين . قيل لإبليس "أُسْجُدْ!" ولأَحْمَد "أُنْظُر!" هذا ما سجد ، وأحمد (ما نَظَرَ) ما التفت يميناً و لا شمالاً ، "ما زَاغَ البَصَرَ وما طغى" . أما إبليس فإنَّهُ دَعَا لَكِنَّهُ [ما] رَجَعَ إلى حَوْلِهِ ، وأَحْمَد صلعم ادعى ، ورَجَعَ عن حَوْلِهِ . [بقولِهِ "بك أحُول وبكَ أصُول ! " بِقَوْله " يا مُقَلِبَ القلوب ! " وقوله "لا أُحْصِى ثناءً عليك " وما كَانَ فى اهلِ السَّماءِ مُوَحِدٌ مثل إبليس ، حَيْثُ إبليس [تَغَيَّرَ] عَلَيْهِ العين ، وهَجَرَ الأَلحاظَ فى السَّيْرِ ، وَعبدَ المعبودَ على التَّجرِيدِ ، ولُعِنَ حَيْنَ وَصَلَ إلى التَّفْرِيدِ ، وطُلِبَ حَيْنَ طَلَبَ بالمزِيد ، فقال له "اُسْجُدْ!" – قال " لاغير! " قال لَهُ "وإِن عليك لعنتى ؟ " – قال " لا غير! "مالى لى إلى غيرك سبيل ، وإنى مُحِبٌّ ذَليل " قال له "استكْبَرْتَ" قال " لو كان لى مَعْكَ لَحْظَةٌ ، لَكَانَ يليق بِى التَكَّبر والتَّجَبُّر ، وأنا الذَّى عَرَفْتُكَ فى الأَزَلِ " أنا خير مِنْهُ" لأَنَّ لى قدمةً فى الخدمة ، وليس فى الكونيْن أَعْرَفُ مِنْى بك وَلِى فيك إرادةٌ ولك فِى إرادةٌ ، إِرادتُكَ فىَّ سابقة [-] ، إِن سجدتُ لغيرِك، فإن لم اسجُد ، فلا بُدَّ لى من الرجوع إلى الأَصْلِ ، لأنَّك خَلَقْتَنِى مِن النار، والنار ترجع إلى النار ، ولَكَ التقدير والاختيار .
فما لى بُعدٌ مالى بَعْدك بعْدما تَيَقَّنْتُ أَنَّ القُرْبَ والبعد واحدُ
وإِنّى وإِنْ اهجرتُ فالهَجْرُ صاحبى ، وكيف يصحُّ الهجر والحبّ واحد لكَ الحمْدُ فى التوفيق فى مَحْضٍ خلاص] لبُعْدِى زِلَّتِى مالى غيرك ساجد التقى ، موسى عم وإِبليس على عَقَبَةِ الطور ، فقال له " يابليس! ما مَنَعَك عن السجود؟" – فقال منعنى الدعوى بِمَعْبُودٍ واحدٍ ، ولو سجدتُ لَهُ ، لكُنْتُ مثلك ، فأنك نُوديت مرّةً واحدةً "انْظُرْ ، إلى الجبل" فَنَظْرتَ ، ونُوديتُ أَنا ألفَ مرّةٍ أّن اُسْجُدْ فما سَجَدْتُ لدعواى بمعناى . فقال لَهُ "تَرَكْتَ الأَمْرَ؟" فقال "كان ذلك ابتلاءً لا أَمْراً" – فقال له "لاجَرَمَ قَدْ غيَّرَ صورتَك" –قال له "يا موسى ذا وذا تَلْبيِسٌ ، والحال لا مُعَوَّل عليه فإنَّهُ يَحُولُ ، لكن المعرفة صحيحة كما كانتْ، وما تَغَيَّرَتْ ، وإِنْ الشخْص قد تَغَيَّرَ ". فقال موسى "الآن تَذْكُرُهُ؟" - فقال يا موسى الفِكْرَةُ لا تذكر ، أنا مذكور وهو مذكور ، ذِكْرُهُ ذِكرى ، وذِكْرِى ذِكْرُهُ ، هَلْ يكون الذاكرون إلا مَعاً ؟ خِدْمتِى الآن أَصْفَى ، ووقَتْى أَخْلى ، وذِكْرى أَجْلى ، لأَنى كنْتُ أخدِمُهُ فى القِدَم لحظِى ، والآن أخدمُهُ لحظَّهِ. ورفَعَنَا الطَّمْعَ عن المنْعِ والدَّفعِ والضرِ والنفع أَفْردَنَى ، أوجدَنى ، حيرنى طردنى لئلا أختلط مع المخلصين ، ما نَعنَى عن الأَغيار لغَيْرتى ، غَيّرنى لِحيْرتِى ، حَيَّرَنى لِغُربْتِى [-] حَرَّمَنى ، لصُحبَتِى ، قَبَحَنِى لِمِدْحَتِى ، أَحْرَمَنِى لِهَجرتَى، هجرنى لِمكُاَشَفَتى ، كَشَفَنِى لِوَصْلَتى ، وَصَلَنِى لِقَطْعَتى ، قَطَعَنِى لِمُنْعِ مُنِيَتِى، وحَقِهِ ما اخطاتُ فى التدبير ، ولا رددتُ التقدير ، ولا باليتُ بِتَغْيرِ التصوير ، لِى على هذه المقادير تقدير ، ان عذبَنى بِناره أَبَد الأبدِ ، ما سَجَدتُ لأَحَدٍ ، ولا أذلُّ لشَخْصٍ وجَسَدٍ ، ولا أعْرف ضدًّا ولا وَلَدًا ، دَعْوَاى دَعْوَى الصادقين ، وأَنا فى الحبِ مِن الصادقين " . قال الحلاج رحمه الله ، وفى أحوال عَززيل أقاويل ، أَحَدُها أنَّه كان فى السَّماء داعياً ، وفى الأرضِ داعياً ، فى السماءِ دعا الملائكة يُريهم المحاسِنَ ، وفى الأرض دعا الإنس يُريهم القبائح ، لأَنَّ الأشياء تُعرف بَأضْدَادِها ، والسَّرَق الرقيق يُنسج من وراء المسح الأَسْوَد ، الملَكُ يعرض المحاسن ويقول للمُحْسِن "إن فَعَلْتَها أجُرتَ " مرموزًا ، ومَن لا يعرف القبيح لا يعرف الحسن ، تناظرتُ مع إِبليس وفِرْعَوْن فى الفُتُوَّةِ فقال إبليس "إن سجدتُ، سَقَطَ عَنِى اسم الفتوَّة" وقال فرعون "إن آمنتُ بِرسوِلهِ ، سقطتُ من منزلة الفتَّوةْ". وقُلْتُ أَنا "إنْ رجعتُ عن دعواى وقولى ، سقطتُ مِن بِساطِ الفتَّوةِ" وقال إبليس "أنا خير مِنْهُ" حيْنَ لم يُراء غَيره غَيْراً ، وقال فرعون "ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِن إِلَهٍ غيرى " حيْنَ لم يَعْرِف فى قَوْمِهِ من يميز بين الحقّ والباطل ، وقُلْتُ أنا "إن لم تعرفوُهُ فاعرفوا اثارَهُ، وأنا ذلك الاثر وأَنا الحقّ ، لأَنى ما زِلتُ أَبَداً بالحِق حَقًّا!
فصاحبى وأُستَاذى إبليس و فرعون ، وإبليس هُدِدَ بالنارِ ، وما رَجَعَ عَن دعواه ، وفرعون أُغْرِقَ فى اليم ، وما رجع عن دعواه ، ولم يقر بالواسِطَةِ البتّة، وإن قُتِلْتُ أو صُلِبْتُ أو قُطِعَتْ يداى ورجلاى ما رجعتُ عن دعواى" . أُشتق اسم "إبليس" مِن اسمِهِ ، فغير "عَزَازيل" العين لِعَلْقِ هِمّتِهِ ، والزّاى لازدياد الزيادَةِ فى زيادتِهِ ، و ال أَلِف زادَهُ فى أُلْفَتِهِ ، والزّاى الثانية لِزُهْدِهِ فى رُتْبَتِهِ ، والياء حيْنَ يأوى إلى سَهِيقتِهِ ، واللاّم لمجادَلَتِهِ فى بَليَّتِهِ ، قال لَهُ "لاتسجد؟ يا أيُّها المهين! " قال "مُحِبّ ، والمحِبُّ مَهِينُ ، إنَّك تقول "مَهين" ، وأنا قرأتُ فى كتابٍ مُبين ، ما يجر علىَّ يا ذا القوَّةِ المتين ، كَيْفَ أذل لَهُ وقد خَلَقْتَنِى مِن نارٍ وخَلَقْتَهُ مِن طينٍ، وهُما ضِدَّان لايتوافقان ، وإنِّى فى الخدمَةِ أَقْدَم، وفى الفَضْلِ أَعظَم، وفى العِلْم أَعْلَم ، وفى العمر أَتَمُّ " . قال لَهُ الحقُّ ، سُبحَانهُ "الاختيار لِىَ ، لا لَكَ " قال " الاختياراتُ كُلُّها واختيارى لَكَ ، قد اختَرْتَ لى يا بديع ، وانْ مَنَعْتَنى عن سجودِهِ فأَنْتَ المنيع، وإن أخطأتُ فى المقال فلا تهجرنى فأَنْتَ السميع ، وإن أَردّتَ أن اسجدَ لَهُ فأنا المطيِع ، لا أَعْرِفُ فى العارفين أَعْرف بك مِنىِّ (خفيف)
لاتَلُمِــنى فاللومُ مِنّى بَعيد ُ وأَجِرْ سَيِدِّى فإنِى وَحِيـدُ
إنَّ فى الوَعْد وَعْدك الحقّ حَقًّا إنَّ فى البدْو بدْو أَمرى شَدِيدُ
من أَراَدَ الكَتابَ هذا خطابى فاقرؤا واعلموا بأنى شَهِيــدُ .
يا أخى ! سُمِىَ عزازيل لأ[نه] وكان مَعْزُولاً فى ولايتِهِ ، ما رَجَعَ مِن بدَايتِهِ إلى نِهَايتِهِ ، لأنَّهُ ما خرج مِن نِهايتِه، خُرُوجُهُ مَعْكُوِسُ فى استقْرارِ تأريِسهِ مُشْتَعَلُ بِنَارِ تَعْرِيسِهِ ونُورِ تَرْويِسهِ، مَراضُهُ محيلٌ مُمَصْصَ ، مُغَابَصُهُ فَعِيل رميص، شَرَاهِمُهُ برهميَّة ، ضَوَارِيهُ مُخيِليَّة ، عماياه فطهميَّة ، يا أخى ! لو فَهِمْتَ لترصَّمْت الرصم رصمًا ، وتَوَهَّمتَ الوَهمَ وَهماً ، ورجَعتَ غَمًّا ، وفَنْيتَ همَّا ، فُصَحَاءُ القومِ عن بَابِهِ خَرَسوا ، والعُرَفاء عجزوا عن ما درسوا ، هو الذى كان اعلْمَهم بالسجود، وأَقْربهم مِن الموجود ، وأَبْذَلَهم للمَجهود ، وأَوفْاهم بالعهود، وأَدناهم مِنْ المعْبود ، سجدوا لآِدَمَ على المساعَدة ، وابليس جَحَدَ السجود لِمُدَّتِهِ الطويلة على المشَاهدَةِ .
عن نشرة لوى ماسينيون (باريس 1913) مع ضبط وتعديل للنصوص
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق