الأربعاء، 14 أغسطس 2013

ستيف جوبز ووجوهه المتعدّدة بقلم أحمد مغربي

ستيف جوبز ووجوهه المتعدّدة
أحمد مغربي
الثلاثاء ١٣ أغسطس ٢٠١٣
ثمة لهيب معلوماتي مندلع في هذا الصيف، فبالتقاطع مع الذكرى الـ 68 لجريمة القصف الذري على هيروشيما، تحوّلت فضيحة التجسس الإلكتروني التي فجّرها الخبير المعلوماتي إدوارد سنودن، إلى حدود متفجّرة بين روسيا والولايات المتحدة. وبسبب المعلوماتية وبرامج التجسّس، أُفشِلَت قمة كانت مرتقبة بين الرئيس الأميركي باراك أوباما ونظيره الروسي فلاديمير بوتين. وتشي هذه الأجواء بأن المعلوماتية باتت من الأشياء الفائقة الوزن بالنسبة للدول الحديثة.
وبالتزامن مع هذا الأمر، اهتزّت هوليوود وأساطينها وثرواتها واستودياتها العملاقة، بسبب أمر يتّصل بالمعلوماتية أيضاً، إذ أعلن روّاد في ما يُعرف أميركياً باسم «السينما المستقلّة» (التي تنظّم مهرجاناً سنويّاً يحمل اسم «صاندانس»، يُشرف عليه الممثل روبرت رزفورد ويفترض أنه يوازي مهرجان الأوسكار في هوليوود)، أنهم قرّروا عرض فيلم عن الراحل ستيف جوبز، مؤسس شركة «آبل» العملاقة، في الثامن عشر من آب (أغسطس الجاري). وعلى رغم أن هذا الفيلم الذي يحمل اسم «جوبز» (إخراج جوشوا مايكل شتيرن، وبطولة آشتون كوتشر) عُرِض في مهرجان «صاندانس» في مطلع العام الجاري، فإن عرضه صيفاً يضعه في تصادم مع فيلم تجهّزه شركة «سوني» التي يملك فرعها للترفيه مجموعة من الاستوديوهات الضخمة في هوليوود. وزاد في حدّة هذا الصراع، أن الفيلم الأخير يُعدّ بالمشاركة مع ستيف فوزنياك، وهو شريك جوبز في تأسيس «آبل»، واستناداً إلى سيرة ذاتية لجوبز أشرف عليها بنفسه قبيل وفاته، وكلّف صديقه والتر إيزاكسون بكتابتها. وظهرت هذه السيرة في كتاب باسم «جوبز» في العام 2012، وتميّزت بجرأتها في الحديث عن الوجه القاتم للمبدع الذي أدهش العالم بابتكار كومبيوتر الـ»ماك»، إضافة إلى أجهزة «آي باد» و «آي فون» و «آي بود».
 
«قذارة» شخصيّة
قبيل موته، بدا جوبز أحد أيقونات العالم الرقمي وثورته، بل أحد أبطال الولايات المتحدة. أصرّ على الربط بين شخصه ومنتجاته، كي تصبح جاذبيته مصدراً لإغراء منتجاته. ظهر على المسرح تكراراً ليعرض مبتكرات فاتنة. من ينسَ سحر تقديمه لـ»آي فون» iPhone؟
ظهر دوماً من دون بذلة، في إشارة لإصراره على الربط بين الثقافة البديلة الثورية التي نمى في ظلالها معظم مؤسسي ثورة المعلوماتية (يتقاطع في هذا الأمر مع بيل غيتس مؤسس مايكروسوفت)، وبين الدولة الأميركية العملاقة ونظامها.
ثمة مؤشّر مماثل على هذا التقاطع تمثّل في احتفاء هوليوود بجوبز، خلال حفل أوسكار في العام 2011، ضمن الوجوه التي افتقدها عالم الفن والسينما.
وربما أمكن التفكير في حياة جوبز بوصفها انتقالاً من كونه رجلاً وُصِف طويلاً بأنه مهندس إلكتروني عادي ومتعجرف ومتواضع الإمكانات (شركة «آتاري» Atari للألعاب الإلكترونية نَقَلَت دوامَهُ إلى الفترة الليلية نظراً لسوء نظافته الشخصية)، إلى الشخص الذي قلب عالم الكومبيوتر والخليوي والسينما والموسيقى رأساً على عقب، بل أطلق الألواح الذكيّة التي شكّلت شيئاً لم تره الأعين من قبل، ولا يزال تصنيفها غير مستقر بين أنواع الأجهزة الرقمية. ونقل جوبز المنافسة في المعلوماتية من الصراع الهائل بين نظامي «ويندوز» و «ماك» (وقد هزمه غيتس بقسوة فيها)، إلى صراع ضارٍ بين تطبيقات «أندرويد» و «آبل ستور»، حيث لم ينقلب الميزان لمصلحة الأولى، التي يرعاها المحرك العملاق «غوغل»، إلا بعد... رحيل جوبز.
 
ليس مبتكراً!
لنتحدَّ أنفسنا قليلاً. تلك لعبة ليست سيئة، على الأقل، تتضمن اللعبة شيئاً من التحدي. لا بأس بأن نبدأ بتحدي الحكايات الأكثر رواجاً واستقراراً. تقف الوقائع في صف الخارجين عن السائد. لم يبتكر جوبز الكومبيوتر الشخصي، لأنه ظهر قبل «آبل 1» Apple1 (مع العلم أن جوبز لم يصمّم «آبل 1» أيضاً). يجدر التوقّف عند هذا الأمر، لأن هذا الكومبيوتر أعطى جوبز شهرته الأولى، بل كان الصخرة التي شيّدت عليها شركة «آبل» كلها. إذ وُلِد «ماك 1» بعد ظهور «آلتيير» Altair- أول كومبيوتر شخصي فعلياً- في العام 1975. وشحذ جوبز همّة صديقه في الثانوية العامة، ستيف وُزنياك كي يصمّم شيئاً آخر، يكون أكثر سهولة. حينها، كان وُزنياك مهندساً كهربائياً في شركة «هيووليت باكارد» الشهيرة، لكنه ارتبط بعلاقة وثيقة مع جوبز لأن كليهما انجذب إلى ممارسات مثل قرصنة الهواتف العامة وصنع الأدوات الإلكترونية بالأيدي. وأخرج وُزنياك تصميم «ماك 1». وعمل وُزنياك مع جوبز على تحويل التصميم الهندسي إلى آلة ذكية. وفي حزيران (يونيو) 1975، ظهر حاسوب يستطيع مستخدمه أن يطبع أحرفاً وأرقاماً على لوحة مفاتيح، فيرى ما يطبع مرسوماً على الشاشة مباشرة.
لم يخترع جوبز المنصّة الرقمية التي تعتمد على الأيقونات والمواد البصرية التي تسمى «المنصة الغرافيكية» Graphic Interface، على رغم اشتهار كومبيوتر «ماك» باستخدامه الكثيف لها. ويرجع الفضل في ابتكار هذه المنصة الى مهندسي شركة «زيروكس».
لم يخترع التحريك الإحيائي بالكومبيوتر («كومبيوتر أنيماشين» Computer Animation)، لكنه اشترى شركة «بيكسار» Pixar، التي ضمّت صفوفها مجموعة من عباقرة تقنية الإحياء بالكومبيوتر. لم يخترع الخليوي ولا حتى الهاتف الذكي Smart Phone، الذي ظهرت أنواعه الأولى بفضل مهندسي شركتي «آي بي أم» و «نوكيا». حتى كومبيوتر اللوح الذي أعطى جوبز تألّقاً هائلاً وارتبط باسمه، لم يكن من ابتكاره أبداً، إذ ظهر كومبيوتر اللوح للمرة الأولى في ستينات القرن الماضي على يد المبتكر آلان كاي، عبر جهاز «داينا بوك» Dynabook.
لم يخترع جوبز جهاز تشغيل الموسيقى الرقمية بتقنية «أم بي3» MP3، على رغم أن جهازاً من هذا النوع هو «آي بود» iPod، أعاد جوبز الى مسرح المنافسة عالمياً بعد إخفاقات طويلة. ظهرت هذه الأجهزة قبل «آي بود» بكثير، بل إن جهاز «ليسن آب بلاير» Listen Up Player فاز بجائزة «أفضل ابتكار» في «معرض إلكترونيات المستهلك» في «لاس فيغاس» عام 1997، قبل أربع أعوام من «آي بود». مُدهش أن يستطيع شخص ما ابتكار أدوات ذكية متطوّرة هزّت العالم، بل أدهشت كبار المبتكرين والمخترعين، من دون أن يخترع هو أي شيء تقريباً.
لذا، لا يتردّد بعض متابعي الشأن المعلوماتي في وصفه بـ «المؤلّف»، في إشارة إلى أن قوّته فعلياً تكمن في قدرته على توليف التقنيات بطريقة مبتكرة، ثم سكبها في أدوات مذهلة. وفي منحى تبني «الثقافة البديلة»، بمعنى هجر الثقافة السائدة وعلاقاتها مع النظام المسيطر اجتماعياً، أصرّ جوبز دوماً على إعطاء الأولوية للناس، بمعنى جعل اليد العليا لذائقة الجمهور العام، وليس النُّخَب المسيطرة ثقافياً وسياسياً وإجتماعياً. انظر إلى «آي باد»، إنه كومبيوتر، لكنه جُهزّ كآلة تحتوي على الحدّ الأدنى من المواصفات المفروضة على الجمهور (مثل الشاشة والرقاقة الإلكترونية - مايكروشيب - ونظام التشغيل والبرامج الأساسية وغيرها)، مع إعطاء كل شخص على أن «يصوغ» هذه الآلة كي تصبح الكومبيوتر الذي يلائمه. كيف؟ عبر «التطبيقات» Applications . يدخل الجمهور الى مخزن التطبيقات («آبل آبس» App Store)، ثم ينتقي منها ما يريد. وتستطيع هذه التطبيقات أن تعطي «آي بود» المواصفات والقدرات التي يرغب بها الناس، وبصورة شخصية تماماً.
 
إدمان وفشل أبوي؟
 
طلب جوبز أن تُكتب قصة حياته عام 2004، حين علِم بإصابته بالسرطان وأبقاها سراً. ولم يُلَبّ إيزاكسون الطلب. ثم تكرّر الأمر عينه في 2009، بعد أن أخذ إجازة مرضية مفتوحة من شركة «آبل» بسبب السرطان. ووافق إيزاكسون.
وصدرت السيرة الشخصية لستيف جوبز، بالطريقة التي رغب بها أن تكون، عن دار «سايمون أند شوستر» للنشر، في كتاب من 630 صفحة. وقد وضعها والتر إيزاكسون في كتاب حمل اسم «ستيف جوبز».
في هذه السيرة، لم يرسم إيزاكسون جوبز- الشخص في صورة القديس، بل كشف عن مناحٍ سيّئة كُلياً في هذه الشخصية. فعلى غرار كثير ممن يعتقدون بأنهم استثنائيون، كان جوبز ممتلئاً بذاته كليّاً. بقول آخر كان نرجسياً بصورة متضخّمة، لا يرى سوى نفسه. واعتقد دوماً بأنه استثناء، لا تنطبق عليه القوانين التي تسري على الناس قاطبة. لم تُثِر التحقيقات المتوالية عن سوء ظروف العمل في مصانع «آبل» في الصين، بل الكوارث التي حصلت فيها، أي نأمة تعاطف لديه. لم يكن حميماً مع أصدقائه، بل عامل بعضهم بخِسّة أحياناً، وباحتقار في أحيان كثيرة. لم يكن أباً مثالياً أبداً، بل أنه لم يُبد اهتماماً فعلياً بابنتيه. تبدو هذه الناحية قاتمة كلياً في جوبز، ولكنه لم ينفها! هل تعود هذه القسوة إلى أنه رُمي في ملجأ للأيتام من قِبل أبيه البيولوجي، فعانى كثيراً قبل أن تلتقطه الأسرة التي ربته؟
 
في عين «أف بي آي»
لا يظهر «الدمار» الداخلي لجوبز في سيرة إيزاكسون وحدها، بل تشاركه في رصدها ملفات «مكتب التحقيقات الفيديرالي» («أف بي آي» FBI).
فبحسب تقارير لهذا المكتب نشرتها مجلة «وايرد» العلمية الأميركية، اهتمّت «أف بي آي» بمراجعة سجلاته الشخصية، بسبب توجيه الرئيس جورج دبليو بوش دعوة له لحضور عشاء في البيت الأبيض. ورصد «أف بي آي» تعوّد جوبز على استخدام مواد مُكيّفة منذ صباه، مع انجذابه بقوة إلى تعاطي حبوب «آل أس دي» LSD التي يفترض أنها تُدخل الإنسان في حالٍ تشبه النشوة الفائضة، لكنها تؤثّر في قدرته على التعامل مع الوقائع. ولاحظ «أف بي آي» أن جوبز كان يكذب باستمرار، من دون جهد، كما أن الأمانة والنزاهة لم تكونا من صفاته. ولمس أيضاً ميله إلى تحوير الوقائع وتشويهها، من دون معاناة أيضاً.
وشمل تحقيق «أف بي آي» قرابة 30 شخصاً ممن عملوا معه في «بيكسار» و «آبل». وساد بين هؤلاء شبه إجماع على مساهماته الجبّارة في عالم التقنية، لكنهم لم يبدوا آراءً إيجابية في شخصيته. لم يتردّد شخص كان مقرّباً منه، في القول بأن جوبز كان يعلن صراحة أن النزاهة والأمانة ليستا من المواصفات الأساسية للسياسيين الكبار!
يُذكر أن شركة «آبل» أعفته من مسؤولياته في 1985، ثم أقالته من منصب الرئيس في 1986. ووجهت الشركة لرئيسها سلسلة من الاتهامات التي تتصل بعدم النزاهة والكذب والغش وسرقة أسرار تقنية وغيرها. لم تثبت هذه الدعاوى كلها، لكنها أشّرَت على اضطراب يصعب إخفاؤه في جوبز. ولا يمنع ذلك من القول، أن جوبز عاد لاحقاً إلى «آبل» لينقذها من مسلسل التقهقر، بل يدفع بها لتصبح العملاق الأكبر في عالم المعلوماتية، بل الشركات قاطبة.
 
amoghrabi@alhayat.com
http://alhayat.com/Details/541159

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق