ليس هناك أجمل من دراسة "التعابير الشعبية الشائعة" التي تدور على أفواه الناس وتتناول شؤون الحياة اليومية بإيجاز شديد، ولكنّها أيضاً تصوّر مواقفهم من الأحداث والمتغيّرات. كنت أسمع تعبيراً طريفاً يلعب بكلمة "التلفزيون"، ويحاول إعطاء رأي فيه من خلال التحريف الذي لا يحتفظ من التسمية إلاّ بالصيغة الصرفيّة والمقطع الأخير فيصير بقدرة لغويّة بالغة وبليغة "مفسديون". وثمّة عبارة "حكي جرايد" التي مضى على وجودها زمن طويل نسبياً يعود إلى لحظة دخول الجريدة العالم العربيّ، كما بالإمكان قراءة عبارة "حكي جرايد" على ضوء دخول الطباعة الى العالم العربيّ، ونفور العربيّ من المطبوع الوافد وعدم ثقته به بعد أن كان قد اعتاد على المخطوط والمنسوخ. ومن الطريف الإشارة إلى أنّ أوّل كتاب طبع مع ولادة الطباعة، في الغرب، على يد "غوتنبرغ" هو التوراة، في حين أنّ القرآن الكريم لم يكن أوّل كتاب طبع في العربيّة، بل كانت السلطة العثمانيّة تمنع تحت طائلة العقاب حبر المطبعة ملامسة حروف المصحف الشريف خوفاً عليه من احتمالات التحريف.
تُظهر هذه المقدّمة، من خلال منعطفات تاريخيّة واجتماعيّة، العلاقة المتوتّرة مع الوافد الجديد من خلال اتّهام التلفزيون ببثّ الفساد، وكأنّ الدنيا قبل التلفزيون كانت المدينة الفاضلة أو مسكن الملائكة، وكأنّ الانسان لم يكتشف الرذيلة إلاّ على ضوء التلفزيون الفاسق، ثم أتى "الآنترنت" الذي لا نعرف الى الآن مصير اسمه، فلقد قرأت أنّ مجمع اللغة في دمشق اقترح مصطلح "شابكة"، فقد يستقرّ على "انترنت" بشكل نهائيّ، وقد يتغيّر مع الوقت. وهنا أذكر الكاتب المصري الراحل سلامة موسى وكيف كان لا يخطر له ببال أنّ كلمة "أوتومبيل" سوف تموت، كما ورد في كتابه "البلاغة العصرية"، لتحلّ محلّها كلمة "سيّارة". ولكن خاب ظنّ سلامة موسى بعد رحيله إذ عاشت كلمة "سيارة" وتهلهل (وتبهدل) استعمال كلمة "أوتومبيل"، لهذا السبب أتمنّى أن لا يضحك أحد من كلمة "شابِكة" أو كلمة أخرى قد تأتي محلّها حتى لا يصيبه ما أصاب سلامة موسى من خيبة ظنّ، فللكلمات قدرة على السخرية من مستعمليها بسبب أنّ علاقة الاسم بالمسمّى ليست علاقة عضوية ومحتومة.
لفت سمعي ذات يوم عبارة خرجت من فم رجل عجوز واعتبرتها ذات دلالة على موقف مستجدّ من عالم الاتصالات، إذْ كان يتكلّم في أمور عامّة وكان أنْ تناول أحد مُجالسيه مسائل قرأها على شاشة "الانترنت"، ولكنّ العجوز لم يستحسن ما ورد على لسان زميله وأراد توهين رأيه فقال له :" هذا حكي آنترنت". رنّت في سمعي العبارة الطارئة والجديدة التي لا تختلف كثيراً من حيث المعنى عن الدلالة المفعمة بالشكّ لزميلتها "حكي جرايد" .
ولا يختلف رأي عدد لا بأس به من الناس عن رأي هذا العجوز الطريف من حيث كون الورقة المكتوبة هي مصدر المعلومة الجيّدة لا شاشة الانترنت المشكوك والمطعون في نسب معلوماتها، وباعتبار أنّ شاشة الكمبيوتر لا يمكن لها أن تحلّ محل الورقة، فمعلومات الشاشة هشّة وعابرة وهي ليست كالكتاب الورقيّ الليّن الذي ينساب مع العين واليد، ويترحمون على رائحة الورق والحبر، علماً أنّ الكمبيوتر قد ساهم في ازدياد حجم استهلاك الورق!( أليست "الطابعة" رفيقة الكمبيوتر؟)
أرى من الأفضل أن يكون النظر الى علاقة الانسان بالمعرفة علاقة إيجابية، فلا أحد ينكر دور شبكة الانترنت في علاقات الناس ( ألم يدجّن الآنترنت، على سبيل المثال، الغربة ويدوّر زوايا الشوق الحادّة؟). فالإنسان عواطف ومشاعر ورغبات وتطلعات، هو مزيج رهيب من العوالم، وهنا أذكر، عرضاً، أني قرأت مرّة حكاية دالّة عن خلق آدم في أحد الكتب التي تتناول قصص الأنبياء وكيف أنّ خلطة آدم الطينية كانت جبلة جُلبت من كلّ أشكال وألوان التراب في بقاع الأرض، ورأيت في ذلك رمزيّة طريفة عن التنوع الجميل الذي يتشكّل منه حتّى الكائن الواحد.
لا أحد ينتبه إلى فضل "الانترنت" على حياة الورق، ولكن هل يمكن اليوم لأيّ جريدة ورقيّة أنْ تصدر صدوراً ورقيّاً إذا ما أدارت ظهرها لخدمات الكمبيوتر والانترنت؟ لا أظنّ أيّ رئيس تحرير ينكر ذلك إلاّ إذا كانت جريدته لا تنتمي إلى العصر الذي نحن فيه.
تغيير العادة صعب، والتمسّك بالطقوس أمر مريح ومستحبّ. طبعاً، ليس سهلاً أن يتخلّى كاتب عن عشرة عمر مع القلم، علاقة الدماغ بالكتابة لا تبقى هي نفسها بالانتقال من الكتابة على الورقة الى الكتابة على الشاشة الضوئيّة، ومن الكتابة بالقلم الى الكتابة بالأزرار؟ إنّ علاقة الكتابة مع الحيّز المكانيّ تغيّرت، كان المرء يضمّ أصابعه على القلم لتخرج الحروف والكلمات وصار الآن يفلش أصابعه ويوزّعها على لوحة المفاتيح ليكتب. تغيّرت عادات الأصابع وتغيّرت عادات العيون. أشياء كثيرة تغيّرت وسوف تكون مثار دراسات خصبة تفتح آفاقاً رحبة أمام علاقة الإنسان مع الكتابة.
ولكن على المرء أنْ يتلاءم مع سنّة الحياة، فليست الكتابة من سنن الحياة الطبيعية. الكتابة شيء واللغة شيء آخر، ولا يمكن لها أن تكون في يوم من الأيام بديلاً عن اللغة بخلاف الصوت الذي هو مادّة اللغة الأساسيّة. ومن يعرف الفارق بين المكتوب والمنطوق يعرف أنّ الكتابة لم تكن إلاّ بديلاً مؤقتاً وقاصراً عن الصوت الذي كان يصعب، في زمن اختراع الكتابة، استجلاء سرّه لأسْرِه وتسجيله.
إنّ من يفضّل القراءة الورقيّة على القراءة الرقميّة كمن يفاضل بين أصابعه! أو كمن يفضّل السيّارة على الطيارة، ولكنّ حياة العالم، اليوم، لا تكتفي بالطيّارة ولا تستغني، حكماً، عن السيّارة.
تُظهر هذه المقدّمة، من خلال منعطفات تاريخيّة واجتماعيّة، العلاقة المتوتّرة مع الوافد الجديد من خلال اتّهام التلفزيون ببثّ الفساد، وكأنّ الدنيا قبل التلفزيون كانت المدينة الفاضلة أو مسكن الملائكة، وكأنّ الانسان لم يكتشف الرذيلة إلاّ على ضوء التلفزيون الفاسق، ثم أتى "الآنترنت" الذي لا نعرف الى الآن مصير اسمه، فلقد قرأت أنّ مجمع اللغة في دمشق اقترح مصطلح "شابكة"، فقد يستقرّ على "انترنت" بشكل نهائيّ، وقد يتغيّر مع الوقت. وهنا أذكر الكاتب المصري الراحل سلامة موسى وكيف كان لا يخطر له ببال أنّ كلمة "أوتومبيل" سوف تموت، كما ورد في كتابه "البلاغة العصرية"، لتحلّ محلّها كلمة "سيّارة". ولكن خاب ظنّ سلامة موسى بعد رحيله إذ عاشت كلمة "سيارة" وتهلهل (وتبهدل) استعمال كلمة "أوتومبيل"، لهذا السبب أتمنّى أن لا يضحك أحد من كلمة "شابِكة" أو كلمة أخرى قد تأتي محلّها حتى لا يصيبه ما أصاب سلامة موسى من خيبة ظنّ، فللكلمات قدرة على السخرية من مستعمليها بسبب أنّ علاقة الاسم بالمسمّى ليست علاقة عضوية ومحتومة.
لفت سمعي ذات يوم عبارة خرجت من فم رجل عجوز واعتبرتها ذات دلالة على موقف مستجدّ من عالم الاتصالات، إذْ كان يتكلّم في أمور عامّة وكان أنْ تناول أحد مُجالسيه مسائل قرأها على شاشة "الانترنت"، ولكنّ العجوز لم يستحسن ما ورد على لسان زميله وأراد توهين رأيه فقال له :" هذا حكي آنترنت". رنّت في سمعي العبارة الطارئة والجديدة التي لا تختلف كثيراً من حيث المعنى عن الدلالة المفعمة بالشكّ لزميلتها "حكي جرايد" .
ولا يختلف رأي عدد لا بأس به من الناس عن رأي هذا العجوز الطريف من حيث كون الورقة المكتوبة هي مصدر المعلومة الجيّدة لا شاشة الانترنت المشكوك والمطعون في نسب معلوماتها، وباعتبار أنّ شاشة الكمبيوتر لا يمكن لها أن تحلّ محل الورقة، فمعلومات الشاشة هشّة وعابرة وهي ليست كالكتاب الورقيّ الليّن الذي ينساب مع العين واليد، ويترحمون على رائحة الورق والحبر، علماً أنّ الكمبيوتر قد ساهم في ازدياد حجم استهلاك الورق!( أليست "الطابعة" رفيقة الكمبيوتر؟)
أرى من الأفضل أن يكون النظر الى علاقة الانسان بالمعرفة علاقة إيجابية، فلا أحد ينكر دور شبكة الانترنت في علاقات الناس ( ألم يدجّن الآنترنت، على سبيل المثال، الغربة ويدوّر زوايا الشوق الحادّة؟). فالإنسان عواطف ومشاعر ورغبات وتطلعات، هو مزيج رهيب من العوالم، وهنا أذكر، عرضاً، أني قرأت مرّة حكاية دالّة عن خلق آدم في أحد الكتب التي تتناول قصص الأنبياء وكيف أنّ خلطة آدم الطينية كانت جبلة جُلبت من كلّ أشكال وألوان التراب في بقاع الأرض، ورأيت في ذلك رمزيّة طريفة عن التنوع الجميل الذي يتشكّل منه حتّى الكائن الواحد.
لا أحد ينتبه إلى فضل "الانترنت" على حياة الورق، ولكن هل يمكن اليوم لأيّ جريدة ورقيّة أنْ تصدر صدوراً ورقيّاً إذا ما أدارت ظهرها لخدمات الكمبيوتر والانترنت؟ لا أظنّ أيّ رئيس تحرير ينكر ذلك إلاّ إذا كانت جريدته لا تنتمي إلى العصر الذي نحن فيه.
تغيير العادة صعب، والتمسّك بالطقوس أمر مريح ومستحبّ. طبعاً، ليس سهلاً أن يتخلّى كاتب عن عشرة عمر مع القلم، علاقة الدماغ بالكتابة لا تبقى هي نفسها بالانتقال من الكتابة على الورقة الى الكتابة على الشاشة الضوئيّة، ومن الكتابة بالقلم الى الكتابة بالأزرار؟ إنّ علاقة الكتابة مع الحيّز المكانيّ تغيّرت، كان المرء يضمّ أصابعه على القلم لتخرج الحروف والكلمات وصار الآن يفلش أصابعه ويوزّعها على لوحة المفاتيح ليكتب. تغيّرت عادات الأصابع وتغيّرت عادات العيون. أشياء كثيرة تغيّرت وسوف تكون مثار دراسات خصبة تفتح آفاقاً رحبة أمام علاقة الإنسان مع الكتابة.
ولكن على المرء أنْ يتلاءم مع سنّة الحياة، فليست الكتابة من سنن الحياة الطبيعية. الكتابة شيء واللغة شيء آخر، ولا يمكن لها أن تكون في يوم من الأيام بديلاً عن اللغة بخلاف الصوت الذي هو مادّة اللغة الأساسيّة. ومن يعرف الفارق بين المكتوب والمنطوق يعرف أنّ الكتابة لم تكن إلاّ بديلاً مؤقتاً وقاصراً عن الصوت الذي كان يصعب، في زمن اختراع الكتابة، استجلاء سرّه لأسْرِه وتسجيله.
إنّ من يفضّل القراءة الورقيّة على القراءة الرقميّة كمن يفاضل بين أصابعه! أو كمن يفضّل السيّارة على الطيارة، ولكنّ حياة العالم، اليوم، لا تكتفي بالطيّارة ولا تستغني، حكماً، عن السيّارة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق