الخميس، 26 مايو 2016

المقابسة الثانية والستون في كلمات قبلت في الطبيعة والصورة والهيولى على نمط كلمات لبطليموس


 هذه المقابسة أثارها قولنا لأبي سليمان المنطقي: ما أحسن كلمات لبطليموس في الثمرة؟ فإنها كالشذور المنتخبة، والدرر الثمينة، والأعلاق النفيسة، ولقد شرفها أناس أفادوا فيها وأفادوا منها، وما أحوجنا إلى إخراجهن في الفلسفة الآلهية والطبيعية! فإنها توعي وتحفظ، وتروي وتلفظ، وتصير كالجواهر التي تصلح للذاخر، والأشجار التي تثمر في كل إبان، والمواد التي خير فيها الإنسان؟ فقال: خذوا إذاً من ذلك ما يسمح به الوقت، ويجود به واهب العقل، فإن فسح الزمان كررنا عليه بالتنقيح والإصلاح، وما يكون له كالشرح والإيضاح.

ثم قال: الطبيعة عش الكون والفساد؛ والكون والفساد ركبا من البقاء الكاذب، والبلي الصادق. والنفس معدن الفكر والوهم، وهما بابا التمييز والذهن والفهم. العقل نهاية الشرف والكمال، به يكون نيل السعادة الكبرى من العلة الأولى. والطبيعة كذوب لا تصدقك إلا بإكراه النفس. والنفس صدوق لا تكذبك إلا بإكراه الطبيعة، والعقل رقيب يحفظ، وشاهد يؤدي، وثقة يؤمن؛ فمن استشاره منتصحاً أصاب، ومن أضرب عنه مغتراً طاح وخرج عن إصابة الحق. وبين الفساد فيه فرق يفيت أو يفيد، فنظر أمراً لنفسه ذلك عدمان بهما يكون ويفسد ذلك وجود واحد به يبقى ويسعد. إنما دخل الخلل الإنسان من ناحية اعتداده في عالمه هذا حتى نسي بطبيعته ما كان يزود نفسه من عالمه ذاك. أعرف حقائق الأمور بالتشابه فإن الحق واحد، ولا تستفزك الأسماء وإن اختلفت فتقول: مات غير نام. وفني غير بلي. وبطل غير ذهب. وعدم غير تحول. وفقد غير غاب. فِإن السرور هو الفرح، والغم هو الهم، والمعرفة هي العلم، والقول هو الكلام، والبيان هو الإيضاح؛ لكن بدرجة ودرجة. وهيئة وهيئة، ومكان ومكان، وزمان وزمان، ومعرض ومعرض. شكول في هذا العالم في أغشية متكافئة بين أهوال مختلفة على طرق محفوفة. فأشكل عليك بلدك الذي أنت منه فانتسبت في الغربة لبلد لست من أهله، وأخذت بعادة كنت غنياً عنها لو عرفت مرماك فيها، فإذا نبهت فخذ في إصلاح ما يرحك إلى مقرك حتى تستريح من هذا القلق الدائم، ومن هذا الهول القائم.
فخذ عليك بذاتك ولا تبخل بما لا بال به فيفوتك ما لا بد لك منه. اعرف تركيبك ثم اطلب به بسيطك، فإن لكل مركب بسيطاً إليه ينتهي. لست طيناً وإنما أنت طيني فانتف مما أنت به منقوص، وانتسب إلى ما أنت به موفور. شقاؤك في انفعالك في الأول والثاني، وإن عجزت عن ارتجاع ما فاتك فلا تعجز عن حفظ ما معك، ولا ينفعك الآن جهدك، فبذلك تتصل بالأجرام التي لا ينفعك إلا مكان وجد، فإن وجه إليك وتوجه وراءك فتوجه أمامك وتغافل عما ورائك، فإن الذي وراءك في حكم ما ليس لك، فمتى التفت إليه فاتك، ومتى رجعت إلى الآخر فبه.
الناموس الحق يعترف بأكثر مما يعرف به، وأنت مجموع معادن إن انسبكت حصلت، وإن تركت فسدت. الصورة غنية عن الانفعال، والهيولى محتاجة إلى الصورة، فانفعالها على قدر حاجتها: الصورة نوبة والهيولى بحسب العلة الأولى، معادن النفس إذا كانت خالصة ولها إليه عزوة، فهي أوثق من جميع الوثائق والأواصر. الإنسان حي ناطق مائت، فمن أبرز هذا الحد بالفعل كما حواه بالقوة لم يرتق عن أن يكون إنساناً كيف تقلبت حاله، ومن تطاول إلى إحراز ما هو به ناطق على تهاون بما هو به حي مائت، علا عما هو به إنسان، وصار جرماً علوياً وجوهراً نقياً. ولا مثال له عندنا إلا المشتري وما هو في شكله. الهيولى في عالم الكون والفساد أقوى، لأنها في محل عزها، والصورة في عالم الحق أعلى لأنها في معدن كمالها. الفلسفة حب الحكمة ولا يصح حب الحكمة والطبيعة فيما يؤثره الإنسان. إذا غلبت الصورة على الهيولى بطلت حكمة الهيولى. العلم ثمرة العقل. العقل سلم إلى الله. بدء الخير كدورة.
الإنسان موزون بكفتي العقل والطبيعة، والرجحان بعد هذا بالسيرة المقتناة، وكذلك النقصان. الطبيعة بالرياضة خادم العقل، وبالوضع منشئ لذي العقل. النفس عقل بعد الاستنارة، والعقل نفس بعد الفكرة، والطبيعة مميزة بالنظر في الأول محرفة بالنظر في الثاني. لا تبلى الهيولى ولا تبيد، لكنها أبداً في الإحالة والاستحالة والتأثير والقبول، والمتقوم بهما هو المكفي بينهما. لا فتور في النفس. لا كدر في العقل. لا حقيقة في شيء من العلة الأولى، لأن كل شيء بما هو به مخلوط بحكمة الباري وبما هو مشبه به مرفوع إلى الباري، لأنه محل الاعتدال في عالم الكون والفساد، لأنه لا واسطة. شرف الإنسان في تراثه في الهواء والهواء أشرف الإنسان من تركيبه وهو انفعال خسيس. قبول الحق انفعال أيضا، ولكن في غاية الوجوب، وفي ذروة الشرف، وفي نظام ما ينبغي.

العلم شرح العقل بالتفصيل، والعمل شرح العلم بالتحصيل. العمل عملان: عمل القلب لا تملك إلا أحد طرفيه، وعمل المباشرة أنت مالك له، فمتى حسن إيثارك للحق صنع لك في الذي لا تملك لوفاتك بحق ما تملك. الهيولى عاشقة للصورة مع المنافاة بينهما، لأنها بها تكمل، والصورة قابلة للهيولى، لأنها بها تحسن، إلا أن يكون المقوم منها وافر النصيب من الأول. الخذلان كل الخذلان في الحرص على سماع الحكمة مع مخالفتها. الإصرار على الشر مع تمني الإقلاع عنه زيادة في الشر. العكوف على الخير مع الشك خسران العاجلة والآجلة. تمني الخير في الظاهر مع ملابسة الشر في الباطن معاندة. تقبل الاهتمام بالخير مبدأ، والاهتمام بالشر غاية، المعطي لا يتبع المعطى ولا العطاء.
قيل له في هذا الفصل زدنا شرحاً؟ فقال: محال أن تكون قوى الأجرام العلوية في الإنسان الجزئي تابعة في البيود والبطلان. لا يستجيب شكل المادة لطابع العقل، فلذلك يوجد الزيغ في كل معقول ومحسوس. المحل محل نقص بالبيوس، فلا جرم متى وجدت عالماً وجدته خفيف المال، ومتى وجدت موسراً وجدته خفيف البصيرة، فإن ندر شيء فذاك خارج عن القياس، كالعلم بين الناس. ليس لنا إلا الآليهة والبشرية، فإذاً لا بد من سنن آليهة لتصير إنساناً، وسلاليم وعلائق بين البشرية والآليهة يرقى منها العاجز ويكمل بها الناقص. إنما أحوجت إلى غيرك لنقصك، وشوقت إلى من هو أشرف منك بنفسك، فاكمل تغن، وافن تبق، واغضض تبصر، أنسى تذكر، واعرف تنج، وخاطر تحرس.
واعلم في الجملة أنك داؤك، ولكن فيك دواؤك، فإذا تسلط داؤك على دوائك غار داؤك بدوائك. إنك واضح فلا تشكل، ونير فلا تظلم. للصورة سرار لا يفهم إلا بتأييد العقل، والهيولى خلافة لا يتخلص منها إلا بتشمير النفس. العقل سرح النفس مرعاها فيه، والنفس قليب الطبيعة مستقاها منه، والطبيعة صراط الإنسان مد له غيه. حاكم الطبيعة إلى النفس يحكم لك، وبلغ إلى العقل ما يفهمه عن النفس يردك. وإعرف الشر لئلا تقع فيه جاهلاً به. الشر شران: شرنا شيء منك فأنت قادر على قمعه بموارزة الخير المؤثر عليه، وشر وارد عليك أنت محتاج إلى دفعه بمعاونة أهل الخير الكارهين له. الشر عدم فمتى لبسته عدمت، والخير وجود فمتى لا بسته ظفرت وبقيت. ومن خلط الخير بالشر وقف بين العدم والوجود وساء عيشه، ومن رجح به الشر باد، ومن فاز بالخير نال السعادة. لين الشر أكثر من عدم الخير، ولين الخير أكثر من معرفة الحق، والعمل به. قد يعرف الشيء منكوراً وينسى مذكوراً، فأما عرفانه فمن ناحية ظهوره وغلبته، وأما نكرته فمن ناحية حجبه ووسائطه. الموجود فيه ظل المعقول بدلالة الواجب له، وهذا يلم، لأن الموجود جلبه لغيره منه.
صححح توحيدك بالمعرفة، وصف معرفتك بنفي ما يخامر سرك. هو الأول والآخر، والظاهر والباطين، والشاهد والغائب. أول بلا مبدأ، وآخر بلا نهاية، وظاهر بلا تحصيل، وباطن بلا فكرة، وشاهد بلا ملابسة، وغائب بلا مشافهة، وإياك أودع سره، وعليك أقام بره، ومنك استعارك، ولك أعار ما أعارك، ليكون أزجا منك ذلك، أو لا يكون بد إذا جار عليك بذلك. من الحيف أن تجحده وهو يناغيك في ضميرك، ويستولي عليك في ظاهرك، ومن الجهل أن تسمه بنقصك، وتصفه بحد نفسك، وتخبر عنه كما تخبر عما تركب عنك وفصل منك فيك. لعمري فمن الضعف أن تكون ذا طبيعة صم تروم أن تكون ذا معرفة، ولكن ليس لك ذلك بحال لأنك متى محوت آثارها وجلوت أصداءها أبصرت ما بين طرفك عنها، وتسأل إلفك منها، أو ترقيك إلى المحل الأشرف الأسنى.

كن بطبيعتك إنساناً فاضلاً، وبنفسك جرماً عالياً، وبعقلك إلهاً غنياً. والطريق إلى هذه الغاية أمم إن حركت همتك، وقوية شوقك، ونفيت الشك عن قلبك، وصحبت القين بعقلك، وهجرت الحس الذي يكذبك وواصلت الناصح لك، ولزمت فناءه، واستعنت وأعنت، وعرفت واعترفت. من غمس نفسه في غمار الطبيعة هلك وطاح، ومن احتلي نفسه بزينة العقل طرب وارتاح، ومن صمد للغاية بجده وجهده نشر وباح، ومن تهاون بتحصيل ما له وعله خسر وناح. لا يسخرنك ما يرجرج لعينك عما يبهج لعقلك. لا تتمن الموت طلباً للراحة مما أنت مخنوق به مسحوب عليه دون أن تثق بما تستريح إليه، فإنك متى أهملت هذا النظر حقت عليك أن تكون استراحتك مما أنت فيه بالموت طريقاً إلى شقوتك فيما بعد الموت، فمن أخس منك إذاً؟ لا عيب على من جهل النفس الفاضلة أن يخدم الطبيعة الجاهلة، إنما العيب على من لحظ العيب في معدنه، وشعر بالخير من متوجهه. ثم أعرض عنه سادراً، ورضى أن يرحل عن هذه الدنيا حائراً بائراً. أقرق بين متحرك من كذا وكذا، وبين متحرك من كذا إلى كذا، حتى يصفو عزمك في طلب ما لا بد لك منه، ثم لا تقف حتى يلحظ المتحرك على كذا وكذا فيه شرفك الأعلى، وإليه كان سعيك الأدنى والأقصى.
ألطبيعة شائعة في الأجسام ومحركة لها مبدية قواها فيها، فأما النفس فإنها تتحرك في الأرواح النقية، والجواهر الصافية، وهناك يبرز عينها بالحدس والظن، والعلم واليقين، والحق والصواب، ثم العقل بعد هذا كله حركة أخرى في البسائط العالية والغايات البعيدة، وبهذا تنال السعادة ويستحق الخلود ويصار إلى ما لا يحويه وصف، ولا يرسمه رصف، هناك يقف الشوق عن الإزعاج، ويحاز الشرف كله بلا ممارسة ولا علاج.
حركة الطبيعة في الأجسام نقش موموق، وحركة النفس في الأرواح الشريفة وشيء معشوق، وحركة العقل في الأنفس الفاضلة معنى أنيق.
العفة خليفة النفس الناطقة عند الطبيعة المغضبة، والعدالة كمال للجميع صحة جسدك بإزاء عفة نفسك، وشجاعة نفسك بإزاء قوة جسدك، وتمام جسدك بازاء حكمة نفسك، وعدالة نفسك بإزاء حسن جسدك، فلا تقطع بين هذه القرائن فبها شرفك وإليها توجهك. أنت من نفس وبدن، تبيد بالبدن وتخلد النفس، فاقصر سعيك على ما يبقى ولا تلتفت إلى ما تبيد معه. أنت صورة لنفسك وبدنك إلا أنك مستقيم من حقيقة ورثتها من نفسك ومجاز داخل عليك من بدنك، فوفر عنايتك على مستخلص حقيقتك من مجازك وتفضي به إلى شرف غايتك. أخذ النفس أكثر من إعطائها للطبيعة، وتقبل الباري أكثر من فيضه على النفس، وبروز العقل بالطبيعة أشد من استجابتها للنفس، وذو النفس والطبيعة في جهاد دائم وكدح متصل. يقبل العقل والفعل ولكن في الأفق الأعلى، وشوق النفس انفعال ولكن في الرتبة الوسط، وبث الطبيعة انفعال ولكنه في السياح الأول من ذي الطبيعة. كذب روائك الخمس إلا إذا شهد لدعواها العقل الرضي. كنت بددا في حكم المعدوم. فنظمت بعيداً من العيب مشهوداً له بالعجب، فلست إلا لأمر هو أعجب منك، فإن شبهت معادك بمبدئك بشهادة الحس أخطأت، وإن رجحته على ذلك فيوشك أن تكون مصيباً. لك وجودك الثاني على هذا الشرح وجودك الأول، فكذا لا يشبه وجودك الثالث هذا الذي أنت عليه. الطبيعة تسوس مزاج البدن، والنفس تسوس دواعي الطبيعة، والعقل يسوس سكان النفس بالنظام المحم ولكن المنتظم مستهدم، أنت مسكن لغيرك فاجتهد أن لا يتحول عنك ساكنك كارهاً لك، واعلم أنه إن اصطفاك حولك معه. الإنسان الجاهل ميت، والعالم المتجاهل عليل، والمؤثر للخير حي صحيح. إذا كنت تجد حياً تحكم عليه بالموت بسبب اقتضى ذلك فلا تنكر أن تجد ميتاً تحكم له بالحياة بسبب يقتضي ذلك. لا تتخذ مراد الطبيعة مقيلاً فإنك تزعج عنه أهدأ ما تكون فيه، وأسر ما تكون منه، فبدنك طبيعي فتهاون به، ونفسك عقيلة فتوفر عليها. احرص على أن تعلم جيداً، لا على أن تقول جيداً، وعلى أن تهوى خيراًن لا على أن تحب خيراً، وعلى أن تعمل بما ينبغي، لا على أن تدعي ما ينبغي. فيك درة الحق فلا تخدع عنها، ومعك رائد الشرف فلا تعيبه، وإليه رشدك فلا تفت نفسك ما لها ألهمك. ملكت مالا تستحق فأحسن سياسته حتى يستحقك. في التجارب مرآى النفس فاستكثر منها فإنها أنجع من كل دواء، وأبلغ من كل شفاء، إن احتميت دامت لك الصحة، وإن شرهت حالفك السقم، وأفضى بك إلى الندم. ما حمد المتواني عاقبة حاله، ولا ذم الرصد فرصة غب أمره. ارحم نفسك قبل أن تسترحم غيرك، فإنها إذا رحمتها أكرمتك، وإذا استرحمت غيرك لم يرحمك، فإن رحمك أهانك وأمتن عليك، فلا تنفك عن غصة تهون عليك الموت وتسوقك إلى العدم. كن عاقلاً حتى لا تغتر، وخبيراً حتى لا تغر، وفي الجملة كاملاً حتى لا تنقص، فإن قلت: أني لي بالكمال؟ فاعلم أن كمالك في نفي نقصك بما تعمره لا بما تزيله، لأن نقصك من جهة التركيب لا من جهة البساطة. لا تنم بين الإيقاظ، ولا تغفل عن الرقباء، ولا تدع عنها المكذبين، ولا ترجي ما لك اليوم إلى غد، فإن غداً ليس لكن فإن كان لك فإنه شاغلك عن يومك. ساء ما منتك نفسك أن تنال لذتك وتبلغ شهوتك ثم تدرك بعد هذا سعادتك؟ ليتك إذا دفنك التراب، وغسلك الماء، ولطفك الهواء، وأحرقك النار، وتقلبت بك الأستقصات، وعاد سفلك علوا، ودرنك نقاء، وظاهرك باطناً، وصرت مقبولاً بكل شكل، ومرقى إلى كل فضل، ومجلوا على كل عين، ومذكوراً بك لسان، ومتمني بكل قلب، ومعهوداً بكل إصبع، ومقدساً بكل مجد، ومدعي في كل زمان، وآوياً إلى كل مكان، وموجوداً في كل أوان، ومخبراً عنه بكل عيان، كنت أهلاً للبقاء والخلود والكرامة والغبطة، ومشاكهة ما لا يزول ولا يحول ولا يبور ولا يحور، ولا يصل إليك شيء إلا ممزوجاً، ولا تضل إلى شيء إلا مكدوداً، لأن الواصل إليك من العلو يخرق حجباً يتشبث به ما يمر به ويتعلق هو ما يجتاز عليه، وأما الكيف الذي يصحبك فلأنك في مركز يتطاول إلى المحيط. وهذه حال خطر وغرر إلا أن يكون الجد صاحبك، والتوفيق كافلك. أنت سماء فيك كواكب تزهر، وأرض فيك يجور تزخر، وهواء فيك رياح تهب، وجبل فيك عيون تنبع. أقصد بكثرتك قلة، وبقلتك توحداً، وبتوجهك بقاء سرمداً، لا راحة لمخوف دون الأمن، ولا دعة لراج دون المطلوب، ولا سكون لمحتاج دون الغني، ولا غري  دون درك المنى. ما أجهد الطبيعة في غمر البلاء بك. ما ألطف النفس في إهداء النصيحة إليك، وما أشرف العقل فيما يجود به عليك، افرج عن الطبيعة يفرج عنك. أي لا تسمح لها بالهواء فإنها لا تعتدل، الطبيعة تستهوي ذا اللب الوافر، وتخدم الحازم الموفور، وتفل غرب المدل الجسور، لها في البدن صلاح وفساد، فقط، إذا اعتبرت أفعال الله وجدت القدرة في وزن الحكمة، والحكمة في وزن القدرة، وفي بعضها تجد القدرة والحكمة خافيتين، وفي بعضها تجدهما ظاهرتين، فلهذا وأشباهه أشكلت المطالب، وثارت الشبه، واختلفت الطرق والمظان، وصار الباحث وإن كان حريراً نقاباً يزل من شق إلى شق، ويميل من جانب إلى جانب، ولو استتب بالبحث على جدده، واستتب القول في صدده، كان العرفان على قدر الوجدان، والبيان على قدر العرفان، إنما أشكل المطلوب لأنك أردت أن تجد بالحس ما لا يوجد إلا بالعقل، وتجد في العقل ما لا يوجد في الحس، ولو رتبت كل شيء موضعه ووفيته، لم يسم المطلوب أن يكون يقيناً، ولم يسم اليقين أن يكون مظنوناً، إلا بعكس حدك في ترتيبه. واحفظ نظامك منه فإن تمامك به. أحي بالطبيعة غير بطر، وتصفح بالنفس غير ملون، ونل بالعقل كل ما تريد، فبهذا تسعد وبه تدرك بقاء الأبد. مت بالطبيعة قامعاً لها، تحي بالنفس رفيعاً بها. لا تستشر العقل ملتطخا بأوساخ الطبيعة، فإنه يعافك ولا ينصحك، ولكن توجه إليه طاهراً من كل دنس، عارياً من كل فساد، ثم اسمع منه فإنك لا ترى إلا الرشد ولا تجني إلا الغبطة. الاختيار مركب من قوى النفس والطبيعة، ولذلك كان معنى الانفعال فيه بالواجب أظهر من معنى الفعل منه بالإمكان، لأنه في انتسابه إلى النفس ذو صورة، وقيامه بالطبيعة ذو هيولى، وعلى هذا فنونه الأفعال كلها إلا ما بان في أوليته عنها.
وفي هذا الكلام إشباع لعله يقع في موضع آخر.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق