الأربعاء، 25 مايو 2016

حوار مع شوقي جلال عن جريدة الاتحاد



نحن منصرفون عن تلك المغامرة الفذة التي تدعى المعرفة
القاهرة : الاتحاد - خاص
إذا أردتم أن تكونوا واقعيين جداً، ومتشائمين جداً، فالرجاء ان تتابعوا هذا الحوار مع المفكر والمترجم المصري 'شوقي جلال' الذي أحدث التقرير الذي قدمه في الأمم المتحدة حول وضع الترجمة في العالم العربي هزّة حقيقية. هل نحن متخلفون الى هذا الحد..؟الحوار معه يتشعب: ها نحن نحارب طواحين الهواء أم نعانقها؟ اننا منصرفون عن تلك المغامرة الفذة التي تدعى المعرفة، وأزمة الفراغ الفكري ادت الى ظهور الاصوليات التي تشتري في أنحاء العالم وصولاً الى البيت الأبيض.وحديث عن العقل الأميركي حيث نصف العقل ضد النصف الآخر فيما يوجد في الولايات المتحدة من يقول بثقافة هي قمة الثقافات، مع الإشارة الى الالتباس في كلمة 'الحضارة' التي اختفت بعد زوال الامبراطورية الرومانية ليقوم الأوروبيون بإحيائها في اتجاه معين.
هذا حوار أجرته 'أورينت برس' مع 'شوقي جلال' الذي يدعو الى حالة تنوير خاصة بنا لا أن نأتي بها من مكان آخر:
* في العام ،1992 أحدث كتابك 'العقل الأميركي' دوياً كبيراً لدى القارئ العربي الذي كان له ان يطلع على رؤية جديدة وعلى معطيات جديدة ومثيرة تتعلق بالبنية الأيديولوجية والسياسية للولايات المتحدة..
* * يمكنني القول ان العقد الأميركي يختزن تراثاً مزدوج الاتجاه، الماضي وان كان محدوداً لكنه غني والمستقبل الذي يأخذ دائماً بالحلم.ثمة نظرة جماعية الى المجتمع العظيم وهي تعتمد على الانكلو ساكسونية المتمثلة فيما يُعرف بـ'نيو انغلاند' حيث ظهر كرادلة الصناعة في الشمال والذين انطلقوا جنوباً ليهيمنوا على المناطق هناك تحت راية حرب الاستقلال.هؤلاء انطلقوا من مفاهيم أصولية، وشكّلوا مجموعة دينية ترتبط بالعهد القديم، وليس غريباً ان جامعة هارفارد، ومنذ انشائها خصصت قسماً لدراسة اللغة العبرية.
وعليّ ان أوضح هنا ان فكرة التنظيم الصهيوني المسيحي الشائعة حالياً هي فكرة قديمة وليست طارئة. ولقد كان لصانع السيارات الشهير 'هنري فورد' صراع مع ذلك التيار الذي ما لبثت ان زادت فاعليته على نحو لافت.وفي تقديري، ان أزمة الفراغ الفكري أدت الى ظهور الأصوليات التي راحت تستشري في أنحاء شتى من العالم. وبطبيعة الحال فإن دولة هائلة مثل الولايات المتحدة تحتوي على كل تلك التناقضات والفجوات السيكولوجية والمضادات الثقافية اذا جاز التعبير شكلت حقلاً مثالياً للاختراق الأصولي الذي وصل الى البيت الأبيض. حقاً لقد حدث انقلاب ايديولوجي وهذا له تداعياته المثيرة على العلاقات مع سائر الدول. أليس هذا ما تتبينه حقاً بالعين المجردة ؟ ان المجتمع الأميركي يعاني من انقسام حاد. لنقل ان العقل الأميركي في أزمة رغم كل الانجازات الابداعية وفي مجالات مختلفة ولكن هناك العقل الثقافي الذي قد يجعلنا نقول بأن نصف العقل ضد نصف العقل في الولايات المتحدة بسبب التفاوت في المفاهيم والرؤى وتقنيات الأداء.
نقص في الإنسان
ثمة فراغ فكري واضح. نلاحظ نقصاً حاداً في الفلسفة، كما في الأدب، وفي الفن. هذا يجعلنا نشعر ورغم كل تلك الكثافة التكنولوجية، ان هناك نقصاً في الانسان في الولايات المتحدة دون ان يعني هذا تلاشي الحلم الأميركي. هل أصبحت هناك مهمة أخرى للحلم. المفكر الكبير 'جون فايسك' كتب عن سيطرة كاملة على الكرة الأرضية فيما يقول عالم آخر انه لحلم متواضع ان تقتصر السيطرة على المنطقة الممتدة من القطب الى القطب. ما بال الكواكب الأخرى إذاً؟
'الحلم الأميركي' 'أميركان دريم' يدخل في التركيب الذهني والثقافي والنفسي للمواطن الأميركي. انه يدرس في المعاهد والمؤسسات العلمية من أجل سيطرة الانكلو ساكسون على العالم. وأشير هنا الى الرواية المهمة جداً التي وضعها الفيلسوف وعالم النفس الشهير 'سكينر' والتي تحمل عنوان 'فالدين تو' وهذه تشكل رداً على رواية رومانسية أميركية بعنوان 'فالدريون' وفيها ابتكر مبدأ الهندسة السلوكية الاجتماعية التي تتحكم في سلوكيات المجتمع اي مجتمع وهو يقول: 'مثلما ادى التطور الى ظهور انسان هو قمة السلالات، فلماذا لا يؤدي التطور الى ظهور ثقافة هي قمة الثقافات وتمتلك قدرة السيطرة والهيمنة وهي هنا الثقافة الانكلو - ساكسونية'. بطبيعة الحال، ان العامل الثقافي في مسألة من هذا القبيل تتداخل عضوياً مع البنية الاقتصادية للولايات المتحدة وحيث الشركات التي هي عبارة عن دول عابرة للقارات. ولنا ان نتصور مفاعيل هذا الوضع على مسار العلاقات بين الدول وبين المجتمعات خصوصاً اذا ما أخذنا بالاعتبار التعبئة الايديولوجية التي تنحو في اتجاه معين والتي يمكن اختزالها بقول الأميركية الصهيونية 'ماري لوفنتيس': 'نعم أنا مهتمة بأنني أخوض حرباً شرسة لمصلحة الصهيونية.. ونعم نحن الجنس الأبيض حراس الحضارة'.
الكابوس الأميركي
وحين نتتبع لهجة الرئيس الأميركي 'جورج دبليو بوش' وكلامه عن محور الشر، وعن تغيير الثقافات والحضارات والمجتمعات ندرك ابعاد ما يسمى بـ'الحلم الأميركي' الذي كان ولو انه أضحى.. الكابوس الاميركي.
اعتقد ان حرب المؤسسة في الولايات المتحدة في العراق هي في الواقع حرب ضد الصين وروسيا والهند وشرق آسيا كما هي حرب ضد العرب وان كان معروفاً ان العالم العربي يمثل المنطقة الاكثر هشاشة على مسرح العمليات ومنه يتم الانطلاق للإمساك الاستراتيجي بكل الحوض النفطي.
ولعل من الضروري ان اشير هنا الى نصيحة أزجاها بعض صانعي القرار في واشنطن للصين بعدم رفع انتاجها من السيارات لمنافسة الانتاج الاميركي لأنه اذا ما حدث التوسع فإن ذلك سيفضي الى اندلاع أزمة نفطية هائلة في العالم. واذا ما تناول الصيني كمية من اللحم تعادل الاستهلاك الاميركي فإن أزمة مراعي و'مواشي' ستظهر على مستوى الكرة الأرضية.
ان هناك في الولايات المتحدة من يعتبر نفسه وريث المركزية الأوروبية التي كانت سائدة في قرون مضت وبالتالي انه الحارس الإلهي للحضارة العالمية ودائماً مع توسل الديموقراطية والحرية بالمفهوم اياه.
الحضارة الملتبسة
* الأميركيون، خصوصاً الباحثون منهم، يكثرون من استعمال كلمة 'الحضارة' وهذا مفهوم ملتبس في حواراتهم كما انه ملتبس لدينا أيضاً..
* * ينبغي أن أوضح هنا ان كلمة 'حضارة' هي في ظاهر الأمر، كلمة ملتبسة فكلمة "eivil" تعني المواطن الروماني ساكن المدينة، الكيّس، المهذب والمتحضر. وبعد سقوط الامبراطورية الرومانية اختفت الكلمة لقرون قبل ان يبعث بها الأوروبيون بمعنى 'المتحضر' وبالتالي هناك 'المتحضر' وهناك 'الهمجي'.
استطراداً، الأوروبي هو المتحضر حتى اذا ما عدنا الى ما كتبه 'مونينيو' فسنلاحظ كيف انهم يتحدثون عن غزواتهم لأميركا على انها تتوخي تحضير السكان ولكن ألم يكونوا يضعون الهنود الحمر في أقفاص لعرضهم في شوارع المدن الأوروبية على انهم نماذج للتوحش والبربرية.
هذه 'الرؤية' بدت وكأنها انتقلت بكل أثقالها الى الولايات المتحدة وهذا ما يجعلني أدعو، وبإلحاح الى ان نصنع حالة التنوير الخاصة بنا بعيداً عن التنوير الأوروبي. تنوير للإنسان كله بمنأى عن تعاليات العرق والدين والمذهب. ونحن نلاحظ كيف ان فلاسفة ومفكرين وكتاباً في أوروبا وأميركا يدعون الى هذا النوع من التنوير.
الترجمة العربية
* كيف تنظر إلى حالة الترجمة في العالم العربي بحكم اهتمامك بهذا القطاع وفي إطار دعوتك لإنشاء مؤسسة عربية للترجمة؟
* * كل ما فعلته انني أحييت دعوة جامعة الدول العربية التي أطلقتها منذ عقود وبناء على اقتراح الدكتور 'طه حسين' انشاء تلك المؤسسة. وقد تعاونت مع الدكتور 'خير الدين حسيب' لاقامة المؤسسة لكنه لاحظ انه لا يمكن الاقدام على مثل هذا المشروع القومي بمعزل عن استراتيجية عربية شاملة ومتكاملة للتطور الحضاري فالترجمة تلتمس المعرفة من مجتمعات أخرى لأداء وظيفة اجتماعية وهي بالضرورة جزء متكامل مع ابداع معرفي في الداخل وما لم تكن انت مبدعاً للمعرفة ومنتجا لوجودك في هذا العصر فلن تفيدك كثيرا الترجمة. أعطي مثالاً، اليابان التي إذ أخذت بخط النهضة بعد تحوّلات وصراعات معقدة عقدت اتفاقات مع مؤسسة هولندية شهيرة في عالم النشر، وايضاً مع كل دور النشر الكبرى في العالم لكي يصدر الكتاب العلمي في أوروبا والولايات المتحدة باللغة الانجليزية الأصلية، مع ترجمة يابانية له في وقت متزامن، هذا لكون اليابانيين يريدون ان يستفيدوا من أي نظرية علمية ومن أي إنتاج علمي.
العلاقة تبدأ أولاً بنوع من المحاكاة ثم يبدأ بعد ذلك ما يسمى بالهندسة العكسية اي ان تفكك الشيء وتعيد تركيبه ثم تطوره وتنتجه. أما عندنا فإن العالم العربي لا ينتج معرفة ثمة تدن ثقافي مع ارتفاع مأسوي في معدلات الأمية اي ان العالم العربي هو عالم متخلف.
ماذا نقرأ؟ وكم هو عدد القراء؟ نسبة القراءة لدينا هابطة والموضوعات بوجه عام متخلفة وتافهة تتناول الجنس والاثارة والفضائح والمسائل السياسية الضحلة كما انه لا يترجم من العربية سوى سيرة ألف ليلة وليلة فضلاً عن عدد محدود من الروايات والدواوين.ولنعلم مدى انهيارها اذا ما علمنا ان العالم العربي الذي يضم 270 مليون نسمة لا يترجم سوى 400 عنوان فقط سنوياً من اللغات الأخرى وهذا الرقم تدنى بطبيعة الحال بعد غزو العراق الذي كان ينتج 50 كتاباً.أما ما يترجم الى العربية فبداية هناك خطب القادة في مؤتمرات وندوات دولية. بعد ذلك تأتي الكتب الدينية ومن كل المستويات وبالدرجة الثالثة وبعد مسافة طويلة هناك الكتب الأدبية التي يترجمها بالأساس أجانب مع قلة من العرب.
وقد سُئلت شخصياً، في الصين والهند عما لدينا لتحقيق تعاون ثقافي في مجال الكتب؟ وكان جوابي ان ليس لدينا ما نقدمه. الصين تريد كتباً في العلم، وكما تعرف ليس لدينا أي إنتاج في هذا المضمار.
والأخطر انه لو دخلنا في تفاصيل تعاملنا مع العلوم فسنجد ان الآلاف يدرسون الكمبيوتر في العالم العربي دون أي لغة اجنبية فيما نحن نعيش في زمن اللغات المتعددة مع ما يمنحه ذلك من ثراء للشخصية. ولقد زرت كوبا في العالم 2003 فوجدتهم رغم البؤس المادي يعلّمون الطفل على الكمبيوتر قبل بلوغه السادسة كما ان الانجليزية إلزامية في المرحلة الابتدائية اضافة الى سائر العلوم هذا ناهيك عن الاهتمام الكبير بالترجمات العلمية. اذا كنا نبغي ان نخوض غمار الترجمة فلا بد ان تكون لدينا استراتيجية حضارية ومفاهيم للنهضة والتطور تعكس ديناميكية حقيقية تبدو اكثر من ضرورية للتفاعل مع العصر والشراكة في التحدي.
* تقريرك عن حال الترجمة في العالم العربي أمام الأمم المتحدة أثار دوياً عالمياً، هل لنا بإضاءة بعض ما ورد فيه؟
* * قلت في التقرير انه منذ عهد الخليفة العباسي 'المأمون' وشقيقه 'الأمين' وحتى العام 1996 لم يترجم في العالم العربي سوى عشرة آلاف عنوان بينما دولة مثل اسبانيا تترجم في العام الواحد عشرة آلاف عنوان.
هناك فجوة هائلة بيننا وبين العالم المتقدم انهم يقرأون كل شيء على رأس ذلك العلم بطبيعة الحال بينما نحن في غيبوبة اننا مجتمع عازف عن القراءة وغير منتج للكتاب والاحصائيات تكاد تكون راعبة.
بالطبع هناك من يكذب ويتحدث عن أهمية التليفزيون والإنترنت. ولكن هل لذلك ان يغني عن القراءة؟ عملياً نحن منصرفون عن تلك المغامرة الفذة التي تدعى المعرفة. انها مغامرة استكشاف بدءاً من إمساك حيوان صغير أو ثمرة ودرس الحالة وتقديم بحث عنها. وأنا أسأل لماذا لم يسبق مواطن مصري المستكشف 'هيروال' الذي قام بالمغامرة الشهيرة لمعرفة ما اذا كان المصريون قد عبروا المحيط الأطلسي بواسطة البردي.إننا عازفون عن الاستكشاف وما يتطلبه من مغامرات وعازفون عن إنتاج المعرفة. وببساطة نحن لا نترجم لأننا لا نريد ان نعرف. فقط للايضاح ما دمنا نحارب طواحين الهواء 'أم نعانقها'؟ بأن سلاح الجو الأميركي يترجم، سنوياً 250 عنواناً أو كتاباً فالولايات المتحدة تسعى لتكون بيت معلومات العالم، وقد تم الطلب من دار الأهرام ترجمة عدة كتب تتعلق بالآثار وبالتاريخ المصري.
اكثر من ذلك هناك باحث يدعى 'ابراهيم حلمي' وضع دراسة عن البر المصري في 30 مجلداً وقد تطرق في هذه الدراسة المستفيضة الى جميع الكائنات الحية والنباتات. واكتشف ان هناك حيوانات ونباتات في مصر كنا نتصور انها انقرضت وللمثال.. القط المصري..
أين ذهب هذا المجهود؟ بالطبع ليس الى المكتبة او الخزانة المصرية وانما الى جامعة ميتشيجان التي طلبت منه ذلك عندنا يذهب المال في اتجاهات أخرى، أخرى تماماً.
التنمية حرية..
* ما هو النفع الذي سيجنيه القارئ العربي من ترجمتك الأخيرة لكتاب 'امار تياصن' 'التنمية حرية'؟
* * ان كلمة 'تنمية' تتردد عندنا باستمرار حتي انها تحوّلت الى كلمة ميكانيكية. وفي نظري ان هذه الكلمة خاطئة ومضللة لأن التنمية تعني تغيراً كمياً على المستوى الأفقي، وهي تعدل وتضيف في إطار الوضع الاقتصادي القائم، اي انها تتعلق بمجرد زيادة حصة المواطن من الناتج أو الدخل القومي، بينما الترجمة الحقيقية للكلمة فَُّمٌٍُِمًّمف هي التطوير وليس التنمية.
التطوير يعني التغيير النوعي عمودياً اي الانتقال من طور الى آخر من طور رعوي أو زراعي أو صناعي وهكذا دواليك.
ويمكن ان نستخدم كلمة 'تنمية' لدى الحديث عن مشروع مارشال الذي أطلقته الولايات المتحدة في العام 1947 لمساعدة البلدان الأوروبية التي دمرتها الحرب، فالواقع الاقتصادي والبنية الاقتصادية يبقيان كما هما مع إدخال عوامل التنمية. أما عندنا في العالم العربي فليس لدينا شيء لننميه ونحن في حاجة للانتقال الى طور آخر.
كما ان المؤلف يلفت الى عوائق اجتماعية تحول دون تحقيق الديموقراطية فعندما يكون المرء أمّياً لن يساهم بشكل جاد في بناء الديموقراطية كما انه لا يستطيع أن يستخدم التقنيات الحديثة من كمبيوتر وأجهزة اتصال على اختلافها وهو يقول 'ان الجوع حرمان من الحرية' كما ان حرمان المرأة من فعاليتها في المجتمع هو حرمان من الحرية، الكتاب يعتبر انه لا مجال لتنمية مجتمع ما أو لتطويره دون حل هذه المشكلات..
صحيفة لمخاطبة أفريقيا
* في نظرك ما الذي يمنع مصر من إصدار صحيفة أو مجلة باللغة الانجليزية أو الفرنسية تخاطب بها مصالحها في أفريقيا كما هي الحال في المغرب العربي؟
* * هناك وضع خاص في المغرب وتونس فالثقافة الفرنسية مؤثرة هناك، فضلاً عن كثافة التواصل مع الجار الأوروبي هذا الوضع ساعدهم على بلورة آلية التعاطي مع الغرب وبعقلية لا يمكن إغفال البُعد الأوروبي فيها.
هنا في مصر والمشرق العربي ماذا لدينا لنقوله؟ ان بلادنا تعيش اليوم حالة من الانكماش داخل حدودها ودون ان تكون هناك قضايا تتجاوز هذه الحدود. لا كلام لدينا لننقله الى الآخرين، ويحضر في ذهننا الفارق بين الحالة الراهنة والحالة التي كنّا فيها عندما كانت لدينا قضايانا العابرة للقارات كانت لدينا كتب ومجلات وصحف كبيرة.لا بد ان أشير هنا الى مسألة سياسية فعدم وجود قضايا ينتج مجتمعاً من دون مؤسسات او انه ينتج مؤسسات فاشلة ومترهلة تنتفي فيها الصدقية وتندلع فيها الصراعات الهامشية والشخصية.إذا أردنا ان نتكلم بلغة العالم يقتضي أولاً ان نكون على تماس مع هذا العالم لا أن نكون في القاع.
.. عن الصين
* كانت لافتة كتاباتك عن الصين، نعلم انك زرتها وقد فتحت عينيك على مصراعيها فماذا رأيت من التجربة الصينية؟
- أنا زرت الصين 4 مرات وكانت المرة الأولى في العام ،1989 والحقيقة انني كنت شغوفا بهذه البلاد منذ ان كنت يافعاً وقرأت كتاباً عن الحضارات والأديان كان في مكتبة والدي. وحين أتيحت لي زيارة تلك البلاد وجدتها فرصة رائعة للتعرف على الحضارة الكونفوشيوسية التي أعجبتني في صباي.
والحقيقة ان التحولات التي حدثت في الصين جعلتني أكثر فضولاً للدخول الى عمق تجربة دولة ماركسية تريد تطبيق الاشتراكية.وقد صادف ان زيارتي اتت عقب أحداث ميدان جيانج مين الدموية التي هزّت الصين وكان لا بد من ان أحاول معرفة ما يجري هناك.
استغربت ان تكون الصين تعيش في آخر الثمانينيات مثلما كانت مصر تعيش في الأربعينيات وللمثال رأيت الموظف الصيني يمسك قلماً له 'لبيسة' طويلة كما كانت الحال عندنا منذ عقود. البيوت متواضعة جداً ويغلب عليها اللون الأسود كانعكاس للبؤس. المدارس أيضاً كانت تعتمد شيئاً مشابهاً للنظام التعليمي في مصر.
وكان هناك فقر عقيم دون أن أرى مجرد سوبر ماركت، وأذكر مدى الحبور الذي كان على وجه رجل كان يحمل على دراجته قفصاً صدرياً من العظام لذبيحة، هذا بالاضافة الى مشاهد أخرى من هذا القبيل، ولنتصور ان السجق كان مصدر سعادة لموظفة تحتل منصباً كبيراً.
وكنت أسأل عن كونفوشيوس فيقال لي: 'هذا تقليد قديم وانتهى'. ولم ألمس اي رغبة في الحديث عنه.
ولكن بعد ذلك بعشر سنوات بدأت الصورة تتغير، فقد ردّ الاعتبار الى الفيلسوف الصيني الكبير وظهرت مؤلفاته في واجهات المكتبات وأجريت حوارات داخل المعاهد السياسية والثقافية فلاحظت تغييراً عميقاً في الذهنية وتجلّت الرغبة في النقاش وفي قبول الآخر وبعدما كان السور العظيم يفصل الصين عن هذا الآخر.انه التناقض بطبيعة الحال. لقد ترهلت صورة 'ماو تسي تونج' على باب المدينة المحرمة ولكن كان هناك من يأخذ بعبارته الشهيرة 'دع مائة زهرة تتفتح، ودع المدارس تتحاور'.
اضافة الى انطلاق عملية الحوار، سجلت قفزة علمية وثقافية كبيرة. وقد ظهر ذلك بصورة جلية خلال زيارتي الأخيرة للصين في العام ،2003 وهو ما زادني اقتناعاً بأنه عندما يقرر المجتمع ما ان يتغير فلا بد ان يتغير مهما كانت وسائل القمع والاحتواء..الإنسان تفتح كما الزهرة وقطعت الصين شوطاً بعيداً في القضاء على المركزية الإدارية ولكن لا بد من التوقف عند ظاهرة سلبية وهي سيطرة السلطة على وسائل الإعلام والحجة هو عدم الوقوع في الخطأ الذي وقع فيه الاتحاد السوفييتي سابقاً، ولكن هل ان التصدي للخطأ يمكن ان يكون بخطأ آخر يتعلق بوضع آليات قانونية لضباط الحرية أو حتى لتدجينها؟
يقول الصينيون انهم ماركسيون ولكن هذا لا يعني التجمد عند حالة ايديولوجية محددة، بل انطلاقاً من مفهوم التطور والتقدم. وقد قدمت كتابي 'نهاية الماركسية' الى بعض المثقفين الصينيين الذين أعجبوا به وكانوا يريدون نقله الى لغتهم لكنهم رأوا ان نشره سيؤدي الى مشكلات كبيرة. المهم انهم اقتنعوا بأن 'كارل ماركس' ليس صاحب نظرية صادقة كلياً وقابلة للتطبيق في أي وقت، وانما هي كأي نظرية ايديولوجية أخرى تحتاج الى التعديل والتغيير وحتى الخروج عليها وفقاً لمقتضيات المجتمع ومصالحه.
الوعاء الميتافيزيقي رأيت في الصين عقولاً بعيدة عن التحجر وتبحث عن إطار نظري جديد، وهذا ليس بالأمر المستغرب اذا ما أخذنا بالاعتبار حدود الفراغ الفكري الذي عاشته المجتمعات على امتداد النصف الثاني من القرن العشرين بعدما سقطت نظريات وأطر فكرية كبيرة في الشرق والغرب. وفي كتابي 'نهاية الماركسية' هناك فصل عن سقوط الليبرالية ايضاً، فهي سقطت ولا أحد يتكلم عن ذلك في عالمنا العربي ان الاسباب عقائدية أو بسبب الانحياز السياسي انهم في الغرب يتحدثون عن ذلك السقوط كون الليبرالية فسرت على نحو خاطئ ولمصلحة الامبريالية.
ما أود قوله هنا هو ان الصين خرجت من ذلك الوعاء الميتافيزيقي الذي تجاوزه الواقع لتتشكل حالة من التنوع الفكري تساعدها على استعادة مكانتها القديمة.
وفي الحقيقة، ان الصين والهند أعادتا كتابة تاريخهما من جديد بدلاً من التاريخ الذي كتبه الاستعمار وهذه محاولة لاستعادة الذات والهوية في شكل موضوعي، وهذا ما لم نفعله نحن العرب ونحن المصريين تحديداً.ماذا فعلنا من أجل الحضارة المصرية ومن أجل اضاءتها؟ لقد انتهك تاريخ مصر على مدى 2500 عام حيث لم نجد سوى غزاة وفاتحين أو حكام، دون التركيز الأكاديمي والعلمي والتاريخي على تلك الحقب المتلألئة من تاريخنا.
دعني أتوقف أمام كتاب 'مارتن برنار' عن اثينا الذي هو بمثابة إعادة لكتابة تاريخ الحضارات ومنها حضارة مصر. ولكن من المفترض ان نكون نحن من يفعل هذا دون ان ننتظر الآخر ودون ان يعني ذلك الانغلاق أو الشوفينية في التعاطي مع الموضوع.
ولكن عليّ ان أشير هنا الى اننا عندما نكتب عن حضارتنا فإننا نفهم جيداً مكوناتها السوسيولوجية ودينامياتها دون ان نقع في شراك المستشرقين مرة أخرى، وقد كتبوا عن الثقافة العربية وعن الحضارة العربية من زاوية المركزية الأوروبية.
الحقبة العربية في الصين
* نعلم ان الحكم العربي وصل الى الصين كيف ينظرون الى تلك المرحلة وهم يعيدون كتابة تاريخهم؟
- لاحظت في زيارتي للصين والهند انهم يعتبرون الحقبة العربية جزءاً من تاريخهما. وثمة لوحات عديدة تعبّر عن التلاحم بين مظاهر الحضارة الاسلامية والفنون والثقافات الصينية والهندية.
ولعلنا نتساءل، ونحن نتابع ايقاع التقدم كيف استطاع بلدان جنوب شرق آسيا تحقيق ذلك التقدم؟ في تلك البلدان يحترم كل واحد ديانة الآخر وآراءه ومعتقداته. انهم يؤمنون جميعاً بأن السماء واحدة، دون ان يكون هناك من اثر للصراع الديني الا في مناطق محدودة ولأسباب تتعلق بالتوتر الاجتماعي أو الثقافي. اضافة الى ذلك هناك رغبة في النظر الى الحياة والمستقبل بالتشديد على قيمة الانسان وقيمة العمل، خلافاً لثقافتنا الماضوية التي تراوح ميكانيكياً - ومع الببغائية اللغوية الشهيرة والمستشرية - في قرون غابرة.
انهم يتقنون تأويل التراث بالصورة التي تخدم الحياة وتخدم المستقبل، كما تخدم الانسان ان لدينا ديننا العظيم الذي قام أساساً على الرحمة والتسامح وتجاوز الذات 'وإنك لعلى خلق عظيم'، فلماذا نذهب في التأويل أحياناً مذاهب مضادة لتلك القيم الكبرى؟
أزمة حرية
* نعود إلى الصين، هناك أزمة حرية، فرغم القفزة الاقتصادية الباهرة التي لا يواكبها تطور على المستويات الاجتماعية والصحية، هناك السلطة المركزية الشديدة القسوة، الى حد الكلام عن نظام ديكتاتوري..
- بداية النظام في الصين ليس ديكتاتورياً انما هو حصيلة النظام السلفي القديم الذي يتطور باتجاه نظام اجتماعي حديث بعلاقات جديدة تحافظ على علاقات الأسرة والعائلة، والحقيقة الديموقراطية هي الآلية الخاصة بتحقيق مصالح اجتماعية تبعاً لجدلية التطور الثقافي.اشير الى اليابان ايضاً فهي لم تطبق النموذج الديموقراطي الغربي بحذافيره انما تمكنت من ان تبني علاقات وآليات جديدة تسمح بمشاركة فعّالة من قبل المواطنين.وهنا أرى ان نفهم ونتفهم فكرة الديمقراطية بمعنى وطني لا أن نقلّد الغرب على نحو أعمى.
تشومسكي والإعلام
* لكن الفيلسوف والمفكّر المعروف 'نعوم تشومسكي' يولي أهمية كبيرة لسيطرة الناس على وسائل الإعلام في إطار تعريفه للديمقراطية ونحن نعلم كيف تتعاطي الصين مع وسائل الإعلام..
- الإعلام في الصين مشكلة بالنسبة للسلطة التي تمارس المركزية عليه خشية ان تفلت الأمور من يديها وان يحكم الإعلام حركة المجتمع.وفي اعتقادي انه لا يوجد مجتمع في العالم يستطيع ان يعطي المواطن، وفجأة كل حرياته فأوروبا لم تحقق الصيغة الديموقراطية بشكلها الحالي إلا بعد انقضاء ثلاثة قرون من الكفاح والتنظير والمحاولة.كما ان المرأة لم تنل حقوقها الا مع أوائل القرن العشرين ومنتصفه. استطراداً لا بد ان ننظر الى الصين على انها عملية متطورة في التاريخ ففي العام ،1989 كان الصيني يخاف ان يتكلم ولكن في التسعينيات سجلت لحظة تقدم اجتماعي وفني واقتصادي، الإنسان في الصين يتكلم، والمواطن أصبحت له فعاليته في إدارة المجتمع.
'أورينت برس'


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق