الأحد، 22 مايو 2016

درّاجة اللغة: في سبيل تعزيز اللغة العربية

جون مكسويل Jean Maxwell كاتب أميركيّ ذو شهرة مستطيرة، يقول:
" إذا نام السامعون أثناء محاضرة، فلا بدّ من أن يعتلي أحدهم المنصّة ويوقظ المحاضر".



ربط الدرّاجة الهوائيّة باللغة فكرة خطرت ببالي من وحي عبارة قرأتها لآينشتاين ربط فيها المعرفة بركوب الدرّاجة الهوائيّة، وأُثر عن آينشتاين ولعه بتبسيط الكلام حتى ولو كان عن أعقد الأشياء، قال إنّ المعرفة تشبه ركوب درّاجة هوائيّة، والركوب يتطلّب تحريك دوّاستَي الدرّاجة وإلاّ فإنّ السقوط هو ما ينتظر الراكب في آخر المطاف، ويقصد بذلك أنّ المعرفة عمل يوميّ، وتقدّم مستمرّ وحركة دائمة. قبل الخوض في الفكرة التي أريد معالجتها في هذه العجالة، أحبّ الاستشهاد أيضاً بقول للحكيم الصينيّ كونفوشيوس يقول فيه ان المعرفة تشبه التجذيف في مركب يسير عكس التيار، لا يمكنك توقيف حركة المجاذيف وإلاّ فإنّ التقهقر هو النتيجة الوحيدة، هذا اذا لم يكن هناك من خطورة في انقلاب المركب، والغرق. فأنت، هنا، لست على درّاجة آينشتاين!
أعود الآن إلى طرح سؤال بسيط. ما العلاقة بين الدرّاجة الهوائيّة واللغة العربيّة؟ وهل هناك وجه شبه بينهما؟  وهل يمكن استثمار ذلك في تعجيل امتلاك الطالب في الصفوف الابتدائية القدرة على استعمال الفصحى بشكل سليم؟ من وجهة نظر الفكر الصينيّ هناك دائماً وجه شبه بين شيئين مهما اختلفا في الطبيعة أو الشكل، ويحتاج العثور على وجه الشبه المحذوف بين الأشياء أحياناً إلى عيني الشاعر العبّاسي أبي تمّام الذي امتاز باستعاراته البعيدة عن متناول النظر العجول. وتمتاز الاستعارة عن التشبيه بأنها تخفي وجه الشبه، تقنّعه، تضع على رأسه طاقيّة الإخفاء أو تبقيه في الظلّ.
وهل يمكن التعامل مع اللغة العربية كما نتعامل مع الدرّاجة الهوائية؟ هل يمكن لركوب الدرّاجة الهوائية أن يعلّمنا كيف نعلّم اللغة العربية الفصحى، وكيف نتعلّمها؟
لا أظنّ أنّ أحداً ينكر مشقّة الأفواه في النطق باللغة العربية سالمة من اللحن، ولا أظنّ أنّ أذناً تنكر الحالة الصحّية للحركات العربيّة. لا أحد يعرف متى تنفِر الضمّة من الفم، ومتى تغتصب الفتحة حقّ الكسرة، ومتى يمرّغ أنف الفتحة في تراب اللحن؟ علاقة الانسان مع اللغة ليست علاقة عين بكلمة مكتوبة وانما علاقة فم بكلمة منطوقة. والنطق العربي السليم سقيم، عليل، لأسباب كثيرة بعضها لغويّ، وبعضها غير لغويّ. وهذا البعض غير اللغويّ يعيق البعض اللغويّ، ويقلّص بواعث الاهتمام بلغة الضاد كما تتجلّى في شكلها الفصيح.
يتعلّم الطالب العربية من وقت دخوله المدرسة إلى وصوله البكالوريا، يتعلّمها نحواً وصرفاً ونصوصاً، وبلاغة وأساليب كلام، ومع هذا فإنّ شفتيه تترنّحان بالحركات الإعرابيّة وهما تنطِقان. هل العيب في العربية؟ هل العيب في الطالب؟ هل العيب في الأستاذ؟ هل العيب في المنهاج؟ أين يكمن العيب أو الخلل؟ ثمّة عيب في مكان ما. وثمّة خلل في مكان ولولا وجود هذا الخلل لما كنّا نعاني من أزمة لغوية حادّة في حياتنا الكتابية، وفي حياتنا الأدبية، وفي حياتنا اللغوية، وفي حياتنا الفكرية أيضاً، فاللغة المشوّشة لا يمكن لها إلاّ أن تنتج فكراً مشوّشاً، فالناس على شاكلة ما ينطقون.
لا أظن أنّ العيب في العربية، فليس هناك لغة من اللغات إلاّ وهي آية من آيات ربّ العالمين، وصعوبتها على قول من يقول بصعوبتها ليس مبرّراً كافياً لتوصيف علّة الناطقين بها. فاللغة الصينية لا تقلّ صعوبة عن العربية، وها هي تزدهر، وتنتعش، ويقبل الناس في كلّ أنحاء العالم على تعلّمها، فمعهد كونفوسيوش يفتتح في كلّ ثلاثة أيام مركزاً ما في مكان ما في العالم لتعليم لغة كونفوشيوس. حبّي للعربية، وإيماني أن سرّ نهوض الأمم يكمن في اللغة، دفعني الى القراءة عن اللغة الصينية واللغة اليابانية واللغة العبرية لمعرفة كيف عالجت هذه الشعوب مشاكلها اللغوية؟ ولكلّ لغة من هذه اللغات الثلاث حكاية تستحق أن تروى، وتدرس، فشيء كثير من تاريخها يشبه الكثير من تاريخنا مع لغتنا من حيث الكرّ والفرّ بين القبول بها او رفضها. ولعلّ من أكثر الأمور التي تستحقّ الدراسة هو أمر العبرية، التي نفضت عنها الترهّل، واستعادت شبابها وفتوتها وعرفت كيف تتعامل مع شيخوختها. ولا أظنّ أنه من الضروري أن نربط بين العداء الراهن والمسأـلة اللغوية. وأظنّ ان دراسة الطرائق التي تعاملت بها اسرائيل مع لغتها العبرية سوف تفيد على غير صعيد، وهنا كلامي من منطلق لغوي محض هدفه تفعيل لغتنا العربية، وتعزيز وجودها في ألسنة أهلها. وسبب دعوتي الى الاهتمام بالعبرية هو لتشابه ما بين العربية والعبرية، فكلتاهما من اللغات السامية، من ناحية، وكلتاهما، من ناحية ثانية، وهذه نقطة مهمّة، يحملان الإرث المقدّس نفسه. فلا تختلف اللغة العبرية من حيث القداسة في شيء عن اللغة العربية التي تحمل قداسة القرآن، كلام الله عزّ وجلّ.
ليس هناك لغة بلا مشاكل، فاللغة كالإنسان تعبُر حياته أزمات وانفراجات. المشاكل جُزء من حياة الناس، وجزء من حياة اللغات. والعربية الفصحى تعيش أزمة لأنّ الانسان العربيّ يعيش أزمة، لا يمكن أن تعيش اللغة حياة منفصلة عن ناسها، فالإنسان العربيّ لا يثق بنفسه، ويشعر كما لو أنه فرد من قوم موسى التائه في الصحراء. وهذا التيه يتجلّى لغويّاً لمن تتبّع علاقة العربيّ اليوم ليس مع فصحاه فقط وإنّما أيضاً مع عاميته. حين لا يثق انسان بنفسه تفضحه لغته وكلماته، تشي بذلك علاقته الشخصية مع اللغة. اللغة كشّاف شفّاف.
خطرت ببالي فكرة بسيطة وهي التالية، الاستيحاء من تعلّم الطفل لركوب الدرّاجة طريقة لتعليم العربية. من يرى الدرّاجة الهوائيّة يقول إنّها تمشي على دولابين، ولكن هل تمشي، فعلاً، على دولابين؟. العيون خدّاعة لا يسهل عليها رؤية الخفيّ. والخطر على الإنسان لا يأتيه مما يراه وإنّما يأتيه ممّا لا يراه! أليس الفيروس أو البكتيريا غير المرئيّة من ألدّ أعداء الإنسان؟ حين تتأمل الدراجة  الهوائية التي يتعلم على ركوبها الولد تجد أنّها دراجة من أربعة دواليب وليس من دولابين فقط. دولابان صغيران على طرفي الدولاب الخلفيّ، دولابان يمنحان الطفل الثقة بعدم السقوط، وهذان الدولابان يمنحان الطفل الأمان والثقة بقدميه الصغيرتين، ويلعبان، فيما بعد، دوراً جوهرياً في تعلّم الولد قيادة الدرّاجة بدولابين أساسيين فقط.
حين تأمّلت الكتب العربيّة وجدت أنّ هناك كتباً تشبه درّاجة بدولابين وكتباً تشبه درّاجة بأربعة دواليب. حين تأتي مثلاً إلى نهج البلاغة  المنسوب للإمام عليّ بتحقيق الشيخ محمّد عبده أو ديوان المتنبّي بشرح اليازجيّ تجدهما يشبهان درّاجة هوائيّة بأربعة دواليب في المتن، وبعض نسخ كتاب كليلة ودمنة لابن المقفّع تشبه درّاجة بدولابين، ولكن لفتت نظري نسخة لكتاب كليلة ودمنة نشرها لويس شيخو، صفحاتها الأولى تشبه درّاجة بأربعة دواليب بينما صفحاتها الأخيرة تشبه درّاجة بدولابين. ولقد لفتت نظري طريقة لويس شيخو في تحقيق ونشر الكتاب. حوالي نصف الكتاب صفحاته تامّة التشكيل، وكأنّه يرمي من وراء ذلك الى الأخذ بعين الاعتبار أولئك الذين لا تسعفعهم مقدرتهم الشخصية في القراءة السليمة من غير لحن، لهذا أشفق عليهما ووضع لهما ما يشبه الدولابين الصغيرين لمنح القارىء ثقة بالنفس في القراءة، ولكن أيضاً لتمكين القارىء من زمام العربية فيما بعد.
سأوضح فكرتي الآن. الكتابة العربية تتألّف من عنصرين: حروف وحركات. الحروف ظاهرة دائماً بخلاف الحركات التي تغيب عن النظر في أغلب المنشور في الكتب والجرائد والمجلاّت، فخذ أيّ جريدة من الجرائد وتصفحْها فإنك لن تجد إلاّ مصادفة بعض الحركات أي الفتحة والضّمة والكسرة، بينما ليس من السهل إلباسُ الحروف طاقية الإخفاء! فاعتبرت أنّ الحروف هي الدولابان الأساسيّان للدراجة بينما الحركات هي الدولابان الصغيران على طرفي الدولاب الخلفيّ. ولا بدّ من الاعتراف بأنّ تغييب الحركات عن النصوص العربية يساهم في وضع عصيّ في دولابَي الدرّاجة اللغوية.
هل يمكن تطبيق ذلك على كتب التعليم في الصفوف الابتدائية؟ وهي تطبّق إلى حدّ ما، ولكن كيف يتمّ تطبيقها؟ من يراقب كيفية تعلّم الطفل لركوب الدراجة يجد انه بعد فترة زمنية معينة ترفع العجلات الصغيرة قليلاً عن الأرض، بحيث لا تلامس الأرض إلاّ عند الضرورة أي لحماية الطفل من احتمال السقوط، فلا يزال تحكّمه بالمقود والدواستين هشّاً، ولكن بعد فترة أخرى من الوقت وبعد أن يشتدّ عود الطفل يسحب دولاب صغير وتصير الدراجة تسير على ثلاثة دواليب، الى ان يشعر الطفل بأنّه صار بإمكانه الاستغناء عن الخدمات التي تقدمّها العجلة الصغيرة الثالثة.
لنفترض ان الدولابين الصغيرين هما الحركات اي هما الفتحة والضمة والكسرة، ولا أتكلم على السكون التي يظنّ البعض أنها حركة رغم ان اسمها واضح جدّا، فهي" سكون" أي "انعدام حركة"، وهي توضع فوق الحرف حتى لا يخطر ببال فم أو قلم أن يضع حركة ما على الحرف، السكون عبارة عن وقاية من رغبة فم في الخطأ.
هل هناك مرحلة او منهاج يعتمده الكتاب في التدرّج في رفع الحركات على غرار رفع الدواليب الصغيرة؟ كيف يتمّ وضع الحركات أو رفعها عن الكلمة؟ وأي حركة نزيل وبأيّ حركة نحتفظ؟ هل اللعب فقط بعلامة الإعراب تكفي لتعليم الطالب النطق الصائب. الفم قد لا يعرف حركة الحرف الأول، فكلمة "صرف" لها قراءات متعددة، فقد تكون "صِرْف" وقد تكون "صَرف"، والحرف الثاني قد يكون ساكناً او متحركاً، "صرف" قد تكوه "صَرَف" . وعليه فإنّ الحركات نوعان: حركات إعرابية وحركات صرفيّة. وقد تجد شخصاً لا يخطىء من الناحية الإعرابية لتملكه لقاعدة الإعراب ولكن من يضمن أنّه يمتلك قاعدة الصرف التي تتحكّم بالحركات في صلب الكلمة أو صدرها؟
ما هي الطريقة التي نتدرج فيها لرفع الحركات؟ بعض الكلمات قد تحتاج الى حركتين، وبعضها قد يستغني عن كلّ الحركات، بينما هناك حروف يحتاج كلّ حرف منها إلى مرافقة حركيّة، حتى لا يتعثّر الفم في الكلام.
هل هناك وسيلة يمكن أن نستخدمها من وحي الدرّاجة إلى أن نصل إلى نصّ بلا حركات أي دراجة بدولابين؟ أظنّ أنّه من المهم جدّاً العمل على هذه الفكرة في كتب الصفوف الابتدائيّة، وهي فكرة أظنّ لو تمّ العمل عليها لرصد كلّ كلمة في النصّ ومعرفة علاقتها مع الحروف، لأنقذنا أفواه طلاّبنا من الوقوع في شراك اللحن.
على بساطة الفكرة، إلاّ أنّها تتطلّب جهداً جماعياً، جهدا ليس من علماء اللغة فقط، وإنّما من علماء النفس والاجتماع أيضاً، لمعرفة اختيار الكلمات التي يفترض بها أن تشكّل موادّ النصّ. وهنا ، لا بدّ من العمل، من منطلق الواقع اللغوي الراهن الذي يمتاز بازدواجية حادّة قطباها الفصحى والعامية. وجزء من وجهة نظري هو إزالة التوتّر بين الفصحى والعامية، والتعامل من منطلق مختلف عن المنطلق الذي نتعامل به مع الغامية أو اللغة الدارجة أو لغة الحياة اليومية. هناك احتقار ملحوظ للعامية، وهذا الاحتقار ليس ابن اليوم وإنّما ابن مئات السنوات، ويكفي أن يقوم أي قارىء برصد المفردات التي نصف بها عاميات العالم العربي، وهي بأغلبها مفردات سلبية، نابذة، فيها اتهام للعامية بأنها " انحدار" أو " فساد" او " انحراف" ، ومن يتأمّل هذه الصفات يلحظ انها صفات تنتمي ايضا الى الحقل الدلالي للأخلاق غير الحميدة. هل نبذ العامية كفيل بضخّ دم الحياة الموّارة في عروق العربية؟ وهل العامية كلّها على نسق واحد؟ أليست العامية مستويات على صعيد المفردات؟  وأتوقف هنا عند المفردات ولكن يمكن التوقف أيضاً عند مسألة التركيب، أي أنماط الجملة، انماط الجملة العامية كما توقفنا عند انماط الجملة الفصيحة، وعقد مقارنات بهدف تعزيز الفصحى لا ترسيخ العامية. لا اعرف لماذا نعتبر العامية خصما لدوداً للفصحى بدلاً ان نعتبرها حليفا استراتيجيا لها؟ ما الذي سيتغير في حال غيّرنا من نظرتنا واستراتيجيتنا اللغوية؟ يدخل الطفل الى المدرسة وهو يمتلك خبرة لغوية معيّنة، خبرة غنيّة وجميلة، خبرة خمس سنوات، وهي خبرة لا يستهان بها، إنّها كنز بكل معنى الكلمة في ذهن الطفل وفي حياته يتدبّر بها شؤون طفولته وعالمه. ماذا نفعل بخبرته؟ ماذا نطلب منه أن يفعل بهذه الخبرة؟ نطلب منه بكل بساطة ان يتركها في البيت، أو خارج باب المدرسة أو خارج باب قاعة التدريس. لماذا نفرّط بخبرته اللغوية الغنية بدلاً من ان نستثمرها في تعزيز الفصحى في ذهنه؟ ماذا يكون ردّ فعله الأوّل حين نتّهم كنزه بأنّه كنز مزيّف، فاسد، غير صالح للتداول؟ ما الأذى الذي يلحق بنفسية الطفل وهو يستمع الى هذا الهجو لما يملك؟ ماذا نفعل بفرحه اللغويّ الساذج والبسيط والجميل؟ حين ندرس العامية وندخله من باب العامية الى رحاب الفصحى. تتغير الطرائق تبعا للأهداف. ما هو هدفنا فيما يخص الفصحى؟ هل الهدف امتلاك الفرد العربيّ للفصحى أم الهدف هو تحطيم العامية؟ أظنّ ان الهدف المفترض هو امتلاك ناصية الفصحى، ولا يشترط ذلك القضاء على العامية. من يفكّر او يعتقد انه قادر على القضاء على العاميات قضاء مبرما كمن ينطح صخرة ليوهنها وأوهى قرنه الوعل كما ورد في بعض أبيات الشعر العربيّ. كلّ ما يطلبه الحكيم اللغويّ هو تقليص الفجوة بين هذين المستويين، فانظر الى اي لغة حضارية، انظر الى الإنكليزية والفرنسية والألمانية والإسبانية والصينية، ماذا تجد؟ تجد تعايشاً سلمياً بين المستويين، من هنا، أجد من المهمّ في تفعيل الفصحى الإنصات إلى خبرة العاميات والاستفادة منها في تقريب الفصحى إلى قلوب النشء الجديد.
العامية هي عاميات ومستويات، وأتوقف هنا عند المفردات، وأتساءل: هل كلّ المفردات العاميّة مفردات عامية؟ اذا تأملنا بتأنّ أحوال الألفاظ العربية بشقّيها الفصيح والعامي سنجد ما يلي:
هناك كلمات حظّها حلو، يفلِق الصخر، كما يقال، لأنّها تعيش الحياة العربية بوجهيها العاميّ والفصيح!
وهناك كلمات محكوم عليها، حالياً، أن تعيش حياة رسميّة، فلا تسمعها إلاّ في مناسبات رسمية وفصيحة.
 وهناك كلمات محكوم عليها أن تعيش حياة عامية وتغلّق أبواب الفصحى في وجهها. وهناك كلمات يرحّب بها في الحالتين. سأعطي أمثلة عن كلّ حالة:
  الحالة الأولى: كان. فعل كان تستعمله سواء كان كلامك فصيحا أم عامياً. وكذلك كلمة " الناس". لا غبار على فصاحتها ولا غبار على عاميّتها.
 الحالة الثانية:  فعل " ما برح" مثلاً ، لا أظنّ أن أحداً من الناس يستعمل هذا الفعل في حياته اليومية، عند السمّان أو الفرّان. ولو استعمل هذا الفعل لاعتبر من يسمعها أن من نطق بها عنده لوثة كلوثة من استعمل " افرنقعوا عنّي". فأخوات " كان" ليست سواسية كأسنان المشط!
 الحالة الثالثة:  فعل " كعبش" أو " عربش" أو " فشكل" فلا أظنّ أنّ كاتباً يستعملها في وقت الجدّ الأكاديمي.  من هنا قلت ان حظّ بعض الكلمات حلو، لأنّها مقبولة من كلّ الأطراف، ولا تثير غيظ أي طرف. والأبواب بين الأنماط الثلاثة مفتوحة، فالعامية تستعير أغلب كلماتها من الفصحى، وكلما زاد اقتراض العامية من الفصحى كثرت نقاط الوصل بينهما وتقلّصت الفجوة العميقة بين الفصحى والعامية وزال الكثير من سوء التفاهم بينهما..
 فرصة العربية الفصحى هي في إحياء الكلمات الفصيحة الموجودة على ألسنة العامّة أي سحبها من النمط الثاني ورفع شأنها بوضعها في النمط الأوّل.
 أظنّ أنّ مؤلّفات مارون عبّود يمكن لها أن تكون عونًاً من حيث مهارة ذلك الكاتب في اختيار كلمات فصيحة، ولكن يظنّ من لم يتعمّق الفصحى أنّها كلمات عاميّة. وهذه خصيصة تنمّ عن مهارة عبّود اللغوية العالية والعميقة وهي خصيصة يفترض أن تسود، أيضاً، كتب الصفوف الابتدائية لتخريج طالب ماهر في قيادة الدرّاجة اللغوية. فمعجم الطفل العاميّ غنيّ، من حيث لا يدري، بالمفردات الفصيحة أو القريبة جدّا جدّا من الفصاحة، وحين يرى الطفل ان كثيرا من المفردات التي في رأسه هي من المفردات التي تستقبله وتحتفي به في الكراريس وكتب التدريس سيعجب بمعرفته، وسيفرح بمعجمه وسيتفّتح قلبه وصدره لتلقي هذه اللغة التي تستحقّ منا العناية والرعاية.
أنهي بعدّة نقاط أظنّها سوف تغيّر مصير اللغة العربيّة في حال أحسّنا استثمارها.

1-  التكنولوجيا نعمة إلهيّة ونعمة لغوية. نعم، هناك اليوم، مشاكل لغوية أختصر بعضها بلجوء الشبيبة إلى استخدام الحرف اللاتينيّ بدلا من الحرف العربيّ في مواقع التواصل الاجتماعيّ على الفايسبوك والواتسأب وتويتر. وهذه الظاهرة ليس المسؤول عنها من يرتكبها. وعند التعمّق تشير في بدايتها إلى حنكة المستقبل العربيّ للتكنولوجيا التي لم تكن تتعامل مع الحرف العربيّ. فلجأ المستهلك العربيّ ّإلى إيجاد وسيلة التفافيّة تحقق له مبتغاه التواصليّ.
2-   عجزت أغلب دول العالم عن محو الأمّية محواً تاماً، بنسب متفاوتة، وفشلت في استئصال شأفة الأمّية. ولكن الهاتف الذكيّ سوف ينجز ما عجزت عن إنجازه أغلب السياسات. سيمحو الأمّية بأزراره الرقميّة السحريّة. يكفي أن نتأمّل عدد الأشخاص الذين طلّقوا الكتابة ثمّ بفضل الهاتف الذكيّ وليس الحاسوب أو الكمبيوتر جرّهم من رؤوس أصابعهم إلى عالم الكتابة؟
3-  اللوح الذكيّ سوف يكون له دور جوهريّ في تعزيز اللغة العربية في حال تمّ بناء تطبيقات لغوية ذكية تحوّل اللغة الى " لعبة" أو Game    بين يدي الطفل، اللوح الذكيّ يسعف في جعل النصّ الواحد ذا أشكال كثيرة، النصّ نفسه بكبسة زرّ نخفي الحركات عن الكلمة، وبكبسة زرّ نخفي الحركات الإعرابية ونحتفظ بالحركات الصرفيّة، مع اللعب بالألوان، والكتب المدرسيّة تلعب بالألوان، اختفت كتب اللغة الابتدائية بالأبيض والأسود كما اختفت الصورة بالأبيض والأسود أو تكاد، والألوان عالم فتّان يستهوي عيون الأطفال، ولكن ألوان الكتاب تظلّ محدودة وثابتة بخلاف الإمكانيات اللونية التي يمتلكها اللوح الذكيّ فضلا عن امتلاكه للعبة الضوء الباهرة. وهنا قد ينتظر الطالب على أحرّ من الجمر عبارة :" قوم ع اللوح" التي تحاول آذان كثيرة الهروب من سماعها !
4-  انهي بالنقطة الأخيرة، الولد يحبّ اللعب، اجعلوا اللغة العربية بنحوها وصرفها لعبة بين أفواه الصغار وأنامل الصغار وهي فرصة ذهبيّة تقدّم لنا، اليوم، على طبق ليس من ذهب وإنما على طبق من تكنولوجيا ساحرة تشبه فانوس علاء الدين.


بلال عبد الهادي






ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق