بكين أول مايو 2015 (شينخوا) شربت من ماء النيل لأول مرة في صيف عام 1987 عندما التحقت بكلية الآداب في جامعة القاهرة كطالب مستمع. لذا، تقترن ذكرياتي لمصر بحنيني إلى عنفوان الشباب وريعان العمر. وكانت الشهور العشرة التي قضيتها في مصر فترة جميلة ما زلت أتذكر كثيرا من تفاصيلها حتى اليوم. وتطفو على خاطري، بين حين وآخر، صور للإنسان المصري، وروائح للنكهة المصرية، بالإضافة إلى النيل والأهرام والآثار المنتشرة في ربوع مصر العريقة.
وقد عدت إلى مصر مرات بعد ذلك تصديقا للقول المأثور: من شرب من ماء النيل لا بد أن يعود إليه. وحرصت بقدر الإمكان أن أزور، بل أسلّم على أهرام الجيزة وشواطئ النيل على هامش كل زيارة، كما حرصت بقدر الإمكان على الخروج من الفندق والغوص في الشوارع لأشم رائحة الخبز والقهوة والنرجيلة، وأسمع أزيز السيارات ودردشات المارة بالعامية المصرية، وأرى الابتسامات العريضة التي يستقبلني بها شرطي المرور، أو بائع العصير، أو الأطفال الذين يجرون ورائي مردّدين تحيات بكلمات إنجليزية أو صينية أو يابانية. هكذا، لن يهدأ خاطري ويرتاح بالي إلا إذا عشت في الأجواء المصرية الحقيقية، غير أجواء الفندق التي لا تختلف كثيرا من بلد إلى آخر. الأجواء التي تقول لي: "دي مصر" أو "هنا القاهرة".
تقترن ذكرياتي لمصر أيضا ببعض كبار الأدباء المصريين ممن تشرفت بلقائهم أو التعرف عليهم، والذين يمثل كل واحد منهم جانبا من الشخصية المصرية في نظري.
ويأتي في مقدمتهم نجيب محفوظ، أحد أعظم الأدباء الذين عرفهم القرن العشرون على المستوى العالمي، والذي يمثل جانب الفكر والحكمة في الشخصية المصرية. وقد استمتعت بمتعة لا توصف في قراءة أعماله الروائية المثقلة بحمولات فكرية، بداية من ثلاثية ((بين القصرين))، حيث هزتني الأزمة الروحية التي نغّصت بال كمال أحمد عبد الجواد بعد احتكاك هذا الشاب الشرقي بالفكر الغربي، وكدرت صفاء بالي الذي تعوّد على الهدوء والراحة في البيئة الثقافية الصينية. أما((أولاد حارتنا))إحدى الروائع المحفوظية الجريئة التي أعادت النظرة إلى العلاقة بين الله والإنسان، فقد زادت وعمّقت إدراكي لمسيرة الإنسان إلى الرقي المعنوي والمعرفي، المسيرة التي ما خلت أبداً من عثرات وعذابات. وكان محفوظ في رواياته، التي سماها بالفن الماكر، سبّاقا بين معاصريه في تناول ظاهرة الاستبداد، والتنبؤ بالتطرف والإرهاب، والتعاطي مع الثورة، ولكن بواقعية خالية من أي مسحة رومانسية. لذا، ليس محفوظ أديبا عظيما فحسب، بل كان أيضا مفكرا حكيما وفيلسوفا بارعا.
كان لقائي الوحيد به في مبنى جريدة الأهرام عام 1987 عندما قمت بزيارة له برفقة بعض زملائي الصينيين ومنهم الآنسة ديمة تشين دونغ يون المستشارة الثقافية في السفارة الصينية حاليا. كان أديبنا الكبير في منتهى التواضع واللطف، أذكر أن مترجم الرواية ((زقاق المدق)) إلى الصينية كان معنا أيضاً، وعندما أهدى صديقي المترجم النسخة الصينية لهذه الرواية إليه، وأهداه معها تمثالاً خزفياً ملوناً لحصان، كعربون خجول للصداقة بدلاً من حق التأليف، قبلهما الأديب الكبير بابتسامة، وشكر المترجم قائلاً ((:زقاق المدق في الصينية كمان؟!)). وأذكر أنه كان ثقيل السمع، فاضطررنا إلى رفع الصوت والتكرار حتى يسمع، وأخبرنا في معرض الحديث أنه قرأ من الأعمال الصينية ((كتاب الحوار)) لكونفوشيوس، ورواية ((الركشاوي)) للأديب الصيني المعاصر لاو شه، وأعجب بهما كثيراً. وفي عام 2000، حين عكفت على ترجمة كتابه الجديد ((أصداء السيرة الذاتية))، كنت أذهب دائماً إلى نهر صغير قرب بيتي، أتمشى في ضفتيه متأملاً لحل ((ألغاز أبي الهول)) التي وضعها محفوظ في ثنايا هذا الكتاب، الصغير بحجمه والكبير بجماله الفكري والفني. وكانت صورته اللطيفة تطفو كثيراً في مخيلتي. وبفضل هذا الكتاب ازدادت معرفتي للحياة التي قال عنها((: تبدو الحياة سلسلة من الصراعات والدموع والمخاوف، ولكن لها سحر يفتن ويسكر)).
أما الأديب الثاني، فهو جمال الغيطاني، الذي يجمع إبداعه الأدبي بين الأصالة والحداثة المتلازمتين في الشخصية المصرية، إنه أدب ضارب بجذوره في التراث الفرعوني والإسلامي الصوفي من ناحية، ومنفتح على الرؤى العصرية والأساليب الحداثية من ناحية أخرى، مما مكّنه من تقديم أدب بقدر ما يكون مصريا عربيا يكون عالميا كونيا. وأذكر أني أشرفت قبل سنوات على جمع كتاب "نصوص مختارة من الأدب العربي الحديث"، ووضعت فيه قصة قصيرة للغيطاني بعنوان "المحصول"، وهي قصة تدور حول فلاح صعيدي يعيش على زراعة البسلة وتعرض للغش والاستغلال من قبل أهل المدينة. وقد كتبت في هامش القصة تعليقا جاء فيه ما يلي: يبدو أن الكاتب لم ينوِ توضيح مجريات القصة بقدرما يقصد رسم شخصية ذلك الفلاح المصري، الذي يتّصف بالطيبة والبساطة والكرم والتسامح والتمسك بالرأي إلى حد العناد. إنها بالذات شخصية الفلاحين المصريين بل الشخصية الحقيقية لمصر.
التقيت بالأستاذ الغيطاني عام 2008 عندما حضر إلى بكين بمناسبة صدور الترجمة الصينية لروايتيه "هاتف المغيب" و"وقائع حارة الزعفراني". وقال لي، أثناء صحبتي له في زيارة بعض المعالم في بكين، إنه مولع بالموسيقى الصينية والرسم الصيني والفكر الصيني الكلاسيكي وخاصة الفكر التاوي، ومعجب جدا بالتجربة الصينية الحديثة في التنمية لأنها تجربة تمتاز بالحكمة والتعقّل والسياسة الهادئة. وكان أشدّ ما استرعى نظره في زيارته لبكين، مقابر أسرة مينغ التي تقع قرب سور الصين العظيم، وخصوصا الطريق الحجري الأبيض المؤدي إلى بوابة المقابر. أذكر أنه كان غارقا في التفكير طوال هذه النزهة ولم يتحدث إلا قليلا، حيث يبدو متأثرا بأجواء الموت التي تخيّم على المكان. لم أستغرب الأمر لأن هموم الموت والحياة ورحلة الإنسان بينهما كانت طاغية على كثير من أعماله الروائية والقصصية. وقرأت فيما بعد، كتابا أهداه لي بعنوان "مقاصد الأسفار" حيث سجل خواطره عن أسفاره حول العالم ومنها هذه السطور عن المقابر الصينية والطريق الحجري الأبيض إليها:
"إنه المكان الذي تركتُ جزءا من روحي فيه هناك... يمكنني القول إن كل ما رأيته في جانب وهذا المكان في جانب آخر، مكان يقف بمفرده الآن في ذاكرتي، لا يضاهيه آخر، إنه أقوى مكان معبّر عن الرحيل الأبدي رأيته وعاينته في العالم... يقول لي هذا الطريق إن النهاية لا تأتينا، إنما نحن الذين نمضي إليها بخطى راسخة ولا ندري إلا عند الدنو، عند الاقتراب، ويأخذنا البهت، وتغمرنا الدهشة، كأننا قادمون للتوّ!"
ولن تكتمل شخصية مصر إلا بجانب مهم آخر من هذه الشخصية، أي جانب الشباب والثورة، بدونه كيف يقدر هذا البلد العريق على مواصلة مسيرتها الدائمة نحو التجدد والتقدم؟ وفي رأيي أن السيدة نوال السعداوي هي أفضل من يمثل هذا الجانب من الشخصية المصرية الرائعة. أقول ذلك ويتبادر إلى ذهني حوار لطيف بيني وبين السعداوي في أول يوم من زيارتها إلى الصين في الخريف الماضي، إذ قلت لها للتعبير عن إعجابي بحيويتها ونشاطها: "يا سيدتي العزيزة، لا يبدو أنك سيدة فوق الثمانين من العمر، بل يبدو أنك في الستينات من عمرك على الأكثر!" فردّت عليّ ضاحكة: "هل أنا كبيرة إلى هذه الدرجة فعلا؟ ألا يبدو أني في الثلاثينات من عمري فقط؟!"
نعم، تمتلك نوال السعداوي المسنة - الشابة - روحا شبابية ثورية قلما نجدها عند معاصريها من كبار السن بل عند الشباب أنفسهم. تتجلى هذه الروح في كتاباتها التي تحدّت" بجرأة تعريف الثقافة الأبوية لمفهوم المرأة والأنوثة، ورفضت الأدوار التي يفرضها المجتمع الأبوي على النساء، وثارت على الفهم الخاطئ للدين الذي حوله إلى أداة سياسية تخدم الطبقة الحاكمة أو القوى الظلامية. بل شاركت بنفسها في ثورة عام 2011 في ميدان التحرير، منادية بالعدالة والحرية والكرامة والمساواة بين الجميع بصرف النظر عن الجنس والدين والطبقة والعرق وغيرها. وأشهد أن هذه الروح الشبابية الثورية، إضافة إلى القيمة الفنية في إبداعاتها، قد أكسبتها تقديرا عاليا من قبل النقاد والكتاب الصينيين، ومحبة كبيرة من قبل الجمهور الصيني- إلى حد أن أسرة صينية في جنوبي البلد قطعت نحو ألف كيلومتر للسفر إلى بكين لمقابلتها وتقديم هدايا إليها بعد قراءة أعمالها المترجمة إلى اللغة الصينية! وما أجمل ما كتبت"ه الآنسة واحة نيو زيمو، المدرسة الشابة في جامعتي التي اختارت إبداعات السعداوي كموضوع أطروحتها لنيل الدكتوراه: "تلبس السعداوي وجه ابنة خائنة لا تتورع عن فضح مظاهر التخلف والقبح في المجتمع المصري، بينما تحمل قلب محب لا يدعو إلا إلى الخير لإخوتها بني البشر داخل مصر وخارجها."
هذه هي بعض الجوانب للشخصية المصرية. ولست من السذاجة بحيث أتعامى عن الجوانب السلبية لمصر والمصريين، ولكن مصر المتدفقة بالحياة دوما مثل الحياة نفسها، بخيرها وشرّها، بحسنها وقبحها، بنهوضها وتعثّرها. إذا كنت محبا للحياة، فستكون محبا لمصر، وستقبلها كما هي، أو تتمنى لها الأفضل.
هكذا، أحب مصر وأحب الشخصية المصرية، لأني أحب الحياة.
* شوي تشينغ قوه )بسام(: عميد كلية الدراسات العربية في جامعة الدراسات الأجنبية ببكين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق