السبت، 19 مارس 2016

الحرف العربيّ الجريح

اللغة العربيّة جريحة، والاسم العربيّ، أيضاً، جريح. إنّ هناك علاقة شبه عضويّة بين اللغة والناطقين بها، وهي النظريّة اللغويّة المعروفة بنظريّة " وورف وسابير" والمواطن العربيّ، اليوم، جريح، ولا أظنّ أنّ أحداً يمكن له نكران ذلك، فالأخبار، كما ترون، تفيض بالدم، ولغتنا جريحة على شاكلتنا، اللغة مرآة صادقة، وهي لن تضحك في وجه من يعبس في وجهها!. وواحد من هذه الجراح الغائرة هو ما يمكن تسميته بـ " لغة النت" ، وهي التسمية التي شاعت في وسط من يكتب العربيّة بالحرف اللاتينيّ.
جزء من الصراعات اللغويّة هي صراعات حروفيّة، ويمكن النظر هنا إلى ما حدث في تركيّا في عهد أتاتورك، أو في الصين، أو في فيتنام، أو في بلاد الصّرب حيث تعيش اللغة الواحدة في لباس ألفبائيّ ثنائيّ. أي إنّه ليس من المستبعد أن تغيّر اللغة جلدها، كما تغيّر الكلمات جلدها باعتبار أنّ الأنظمة الألفبائيّة هي ضرب من ضروب الجلد أو البشرة التي تغطّي الجسدّ الصوتيّ للغة.
 جاء وقت كانت لغات أوروبية تكتب بالحروف العربيّة في بعض مناطق أوروبا بعد أن تمّ طرد العرب من الفردوس الأندلسيّ، وهي الكتابة التي عرفت باسم الخميادا الخَمْيادِيّة aljamía في اللغة القشتاليّة، وكما كُتبت العربيّة نفسُها في فترة من الزمن، وإنْ في حيّز ضئيل، بالحرف السريانيّ، وهي الكتابة المعروفة بـ"الكرشونيّة".
أودّ الآن ربط ما تقدّم من الكلام بموضوع هو ابن شرعيّ للحاسوب، وابن شرعيّ للهاتف الخلويّ. ولكن بداية أحبّ التمييز بين ثلاث فئات ممّن يكتبون بـ"لغة النت"، فالشكلّ الواحد لا يعني أنّ المعنى واحد، الشكل مخادع ويسبّب المشاكل والالتباسات، لذا لا بدّ من توضيح هذه النقطة:
-       النوع الأولى وهو من وجد نفسه مضطرّاً لأسباب خارجة عن قناعاته بكتابة لغة النت، لأنّ لوحة مفاتيح حاسوبه أو هاتفه لا تتوفّر فيها إمكانية الكتابة بالحرف العربيّ. فوصول الكمبيوتر إلى العالم العربيّ في البدايات كان خالياً وعارياً من الحروف العربيّة. وانطلاقاً من مقولة قرآنيّة " فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ".
-       النوع الثاني لا يدرك تماماً خطورة الكتابة بالحرف اللاتينيّ على لغته العربيّة بل ويكتب بها وهو مرتاح الضمير من دون أن يؤرقه همّ لغويّ معيّن.
-       النوع الثالث وهو ما يمكن ان نعتبر سلوكه ضرباً من التمرّد على الواقع العربيّ الآسن، ولا يجوز التنديد به بل لا بدّ من أخذ سلوكه بالحسبان، وقراءته قراءة موضوعيّة. التمرّد ليس سمة سلبيّة في سلوك الناس. إنّ ما يقوم به النوع الثالث دعوة غير مباشرة، وإن كانت عنيفة، ليقظة سدنة اللغة والقيّمين عليها من سبات لغويّ.
ما هي دلالات كتابة أسماء الأعلام بالحرف اللاتينيّ؟ وما هي دلالات استخدام الحرف اللاتينيّ في كتابة الكلمات العربية؟ وهل في ذلك دلالة على اعتراف أبجديّ ضمنيّ بالتخلّف العربيّ؟ هل يفعل ذلك الصينيّ أو اليابانيّ أو العبريّ الذي أخرج لغته من عالم الموت السريريّ، وبثّ في جسدها الواهن الدم والروح والأعصاب؟ ولكن أليس المطلوب من القيّمين على مقادير اللغة العربيّة وحرّاسها تلقّف ما يسمّى في علم التواصل بـ"التغذية الراجعة" والعمّل مع علماء الحاسوب والذكاء الاصطناعيّ على تسهيل استعمال الحرف العربيّ، وابتكار لوحة مفاتيح رقميّة سلسة، مغرية، وسهلة الاستعمال. الألفبائيّات آيديولوجيات تماماً كما أنّ التكنولوجيا، أيضاً، آيديولوجيا مستترة. وأظنّ أنّه من الخطأ نزع الدلالات الآيديولوجيّة عن الألفبائيّات.
حرفنا العربيّ حرف جميل، نبيل، مطواع، روحه رياضيّة، وتاريخه عريق. لا يتمرّد على يديك وأنت تكتبه. ولكن نحن اليوم ندير له ظهرنا. ماذا نفعل به؟ نتركه لصالح حرف آخر. الحرف العربيّ حرف نورانيّ، مضيء، مشعّ، دافئ .الصفات التي ألحقتها به ليست صفات مصطنعة، مزيّفة .فالحرف العربيّ حرفان :حرف شمسيّ وحرف قمريّ .الحرف العربيّ لا يغيب عنه الضوء. ولا أعرف إن كانت هناك لغة أخرى منحت حروفها هذا الكمّ من الضوء؟
 أحبّ تسليط الضوء على الـ "ديزاين" (design)  واللافتات وبطاقات التعريف، أي على من يبذل قصارى جهده في فنّ الخطّ وفنّ الديزاين أو التصميم على الحرف الغربيّ. وهذا خسارة، للحرف العربيّ، كبرى. اكتب وفي ذهني إبداعات الخطّاط العراقي حسن المسعود الذي يفجّر طاقات الحرف العربيّ، يعطيه حرية جمالية بديعة. ما هي اللافتات؟ إنها أشبه بالغرافيتي في الهواء الطلق، معرض للخطّ يمكن أن يتملاّه المرء وهو يتجوّل في الشوارع أو أروقة المولات!
إنّ فنّ الخطّ يحتاج لفنّ الديزاين، فحين يريد شخص ما أن ينشىء " لوجو" أو شعاراً لمحلّه أو لمؤسّسته يقوم بتركيب "لوجو" من حروف لاتينيّة أي أنّ المصمّم يبذل جهداً فنّيّاً وخياليّاً كبيراً ، وهو جهد مشكور،  فتصميم ثوب الكلمة ليس أمراً سهلاً أو بسيطاً، يتطلّب خيالاً فائقاً، خيالاً فنّياً وبراغماتيّاً يربط الحرف بالمهنة، أو يربط الحرف بشخصيّة من يقوم بالمهنة، وهو إلى حدّ بعيد يشبه تصميم الأزياء، الخطّاط مصمّم أزياء للكلمات! ولكن ماذا تستفيد اللغة العربيّة حين ينصبّ الجهد على حرف ليس من طينتها؟ طبعاً، عمل المصمّم لا يذهب هدراً، إنّه رافد جميل ولكن يصبّ في نهر الألفباء اللاتينيّة، يضخّ دماً جديداً في شرايين ألفباء غير عربية. إنّنا نحرم الحرف العربيّ من تفجير طاقاته وقدراته وتوليد خطوط جديدة وتزويده بخبرات جديدة، وتجريب حظوظه الجديدة مع التقنيّات والبرامج المتوفّرة الهندسيّة منها أو غير الهندسيّة. ولكن لا يستفيد منه الحرف العربيّ بقدر ما يستفيد منه جسم الحرف اللاتينيّ.
حين يقوم أصحاب المؤسّسات باختيار الحرف العربيّ كأساس لشعاراتهم فإنّ هذا يخلق حيوية خلاقة تصبّ في مصلحة الحرف العربيّ وفي مصلحة جماليّات الحرف العربيّ وفي مدّ الحرف العربيّ بدم جديد.
نحن أمّة تظلم حرفها، وتظلم لغتها، وتظلم تاريخها، وتظلم حاضرها، وتظلم مستقبلها من خلال تشويه أذهان أطفالها عبر فكّ ذلك الارتباط  الحميم والجميل ما بين الحرف والصوت، وأمّة تظلم جغرافيّتها من خلال تكسير تضاريسها اللغويّة المكتوبة.


بلال عبد الهادي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق