تميّز النبيّ موسى بكونه "كليم الله" وهو لقبٌ
لم يحمله غيره من الأنبياء. ولكن من يتصفّح التوراة والقرآن يلحظ أنّ موسى كان
يعاني من عقدة في لسانه و"حُبْسة في بيانه" كما يقول الجاحظ. وهذا ما
جعله يشعر بثقل النبوّة الملقاة على عاتق لسانه ممّا دفعه إلى الاستنجاد بلسان
أخيه هارون. في التوراة حين يكلّم الله موسى ويأمره بالذهاب إلى فرعون يتردّد موسى
ويردّ "أنا ثقيل الفم واللسان" (الخروج:4، 10) ووردت، في مكان آخر، عبارة
"ها أنا أَغْلَفُ الشَّفتيْن"(الخروج:6، 30) فلم أتبيّن تماماً دلالة
كلمة الأغْلف، وإن كان المعنى العام ملحوظاً في الجذر الذي يعني الشفتين
المغلّفتين العاجزتين عن البيان. أحببت معرفة الكلمة المستعملة في التوراة بنسخته
العبريّة فعدت إلى سفر الخروج العبريّ ووقفت عند كلمة "عَرَل" (עֲרַל) أي أنّ الترجمةَ العربيّةَ لم تستعمل الجذر نفسه الذي
استعملته العبرية، ودفعني فضولي إلى البحث عن هذا الجذْر في العربية، فتبين أنّه
موجود ولكن ضمن جذر "غرل". والعين العبرية تتحوّل، في بعض الأحيان، إلى
غيْن وفْقاً لما يعرف في علم الأصوات بـ"الإبدال الصوتيّ" شأنها شأن
السين العربية التي تتحوّل في العبرية أو السريانية إلى شين، فكلمة
"قاديشا" جذرها "قدش" ويتبين بقانون الإبدال الصوتيّ معنى
القداسة في قاديشا. وما كنت لأتوقّف عند هذا الجذر لو لم أتفاجأْ بدلالته البكْر
إذ وجدت أنّ " أغْلف" تعني الذكر الذي لم يُخْتَتَنْ. ومن الطريف كما
أرى علاقة اللسان بالختان؟ وليس من الغريب، على الأقلّ، في العربية ارتباط اللسان
بعضْو الذكورة! أعرف أنّ حيّز المقال لا يسمح بتفاصيل كثيرة لذا سأكتفي ببعض
الإضاءات أو لفت النظر إلى عدّة كلمات لا تخلو من هذا الارتباط منها الذاكرة
وصلتها الحميمة، جنساً وعضْواً، من حيث الجذْر بالذكَر. قد يقول قائل:ٌ وما علاقة
الذاكرة بالذَّكَر؟ وما علاقة الذَّكَر باللسان؟ أكتفي هنا أيضاً بالإحالة إلى
نظريّة العالم اللغويّ الفذّ ابن جِنِّي في "التقليبات الصوتيّة"، فأقول
من الطريف جدّاً أنْ يكون جذر اللسان وجذر النسْل ينتميان معاً إلى أصول مشتركة
واحدة هي النون والسين واللام.
من يقرأ سيرة موسى كما وردت في التوراة والقرآن وكتب
التفاسير وقصص الأنبياء، وهنا أحيل إلى قصّة موسى في كتاب " قصص الأنبياء
المسمّى عرائس المجالس" للثعلبيّ، وهو من كتّاب القرن الخامس الهجريّ ( توفي
427 هـ) يكتشف أنّ هناك ثلاثة ألسنة مذكورة هي: لسان موسى ولسان هارون ولسان النجّار. النجّار صانع الصندوق الذي أنقذت به
أم موسى طفلها من جبروت فرعون. وسْوس الشيطان في صدر النجّار فذهب إلى حرس فرعون
للوشاية بموسى وحين وصل وقرّر أنْ يحكي ربط الله لسانه فصار كالأخرس ولكنّه لم
يتّعظْ من خسارة صوته فاستبدل ما يريد قوله بإشارات من يديه وشفتيه المغلّفتين
بالصمت. لم يفهمْ الحرس من إشاراته شيئاً ولم ينلْ جزاء محاولته الوشايةَ إلاّ
الضرب. وحين استعاد حرّيته تحرّر لسانه مجدّداً ما جعله بالتالي يتحرّر أيضاً من
طغيان فرعون. أما لسان هارون فكان دوره التعبير المبين بدلاً من لسان موسى الذي "لاَ يكادُ يُبِينُ" (الزُّخْرف: 52 ).
ولكن ما حكاية لسان موسى؟ وهل ولد معقود اللسان؟ البعض
يقول: إنّ عقدة لسانه ولّدتها الصدمة النفسية التي عاشها موسى، وهو رضيع، في صندوق
الإنقاذ على ضفاف اليمّ بلا غذاء. عبد الحليم النجّار في كتابه "قصص الأنبياء
" يميل إلى هذا التفسير إذْ يربط بين الرّضاعة وطلاقة اللسان. والرضاعة هي،
بشكْل من الأشْكال، تمرين لأعضاء النطق.
ولكن عمليّاً عقدة لسان موسى هي بنت منامٍ فرعونيٍّ. رأى
فرعون في المنام أن عرشه سوْف يهتزّ عمّا قريب عن طريق طفل قيد الولادة. وبما أنّ
المنام لم يعطه معلومات أكثر صار من الطبيعيّ أنْ يقتل كلّ مولود جديد وسخّر لذلك
القوابل. يقول وهب بن منبّه إنّ فرعون قضى على سبعين ألف طفل لوقف مفاعيل المنام.
ومنامه لم يكذبْ بسبب أنّ حكم المنام كان مبرماً رغم كلّ الاحتياطيات التي قام بها
فرعون. أوّلاً، تعاطفت القابلة مع أمّ موسى فأسرّت ولادته، ثانياً، حضنه فرعون في
بيته أي ترعرع القاتل في حضن القتيل. ذات يوم كان الطفل موسى في حضن فرعون يلعب
بلحيته فنتفها ( لا ننسى حكاية دليلةَ مع شَعر شمشون في "سفْر القضاة").
اغتاظ فرعون وانتبه إلى رؤياه السابقة. شعر أنّ هذا الولد قاتلُه لا محالة فهمّ
بقتله وهنا تدخّلت زوجة فرعون لامتصاص رغبته القانية. وقالت له: كيف تقتل من لا
يميّز بين الجمرة والتمرة ( نلحظ هنا أنّ التمييز أيضاً صوتيّ بين الجيم والتاء،
ووردت كلمة اللجلجة والتأتأة في الحديث عن لسان موسى!). التقم موسى جمرة، ولو كان
يعقل لما التقمها ولما قام بنتف لحية فرعون. أدّى أثر الجمرة على لسانه إلى خلاصه
من القتل ووصول منام فرعون إلى مبتغاه. اطمئنّ فرعون إلى عدم فصاحة موسى إذ لا
يعقل أنْ يرسلَ الله نبيّاً ألثغَ، معقود اللسان؟ ليس هذا وحسب بل أنْ يكون النبيّ
المعقود اللسان هو "كليم الله"! ولكنْ حين طلب موسى حلّ عقدة من لسانه
استجاب ربّ العالمين، غير أنّ الإمام الفخر الرازيّ في "التفسير الكبير"
يقول: إنّ موسى طلب من الله أن يحلّ عقدة واحدة من لسانه وليس كلّ العقد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق