الجمعة، 20 مايو 2016

غيظ معاوية بن ابي سفيان


كثيرة هي الحكايات التي تروى عن دهاء معاوية وحلمه، وقدرته على الصبر وتحمّل الشدائد. ولقد قرأت له عبارة لا تخلو من غرابة في الظاهر وان كانت في خفاياها تنمّ عن مقدرة فذّة في التعامل مع الأشياء، وهي: "ما وجدت شيئاً ألذّ عندي من غيظ أتجرّعه"، ولو سألت احداً من الناس عن لذّته المفضّلة وأجابك بقول شبيه بما ورد على لسان معاوية لحسبته شخصاً فارّاً من مستشفى المجانين، أو أنّه يحكي من وحي الهذيان، إذ كيف تكون اللذّة في ارتشاف كأس الغيظ؟ ألا تكون في نظر الكثيرين لوناً من الوان المازوشيّة؟ فمن لا يغصّ وهو يتجرّع الغيظ؟ وثمّة حوار جرى بين عمرو بن العاص ومعاوية تظهر تهوّر عمرو بن العاص، على دهائه، مقارنة مع دهاء معاوية الذي لا يأمن مكر الأيّام وألاعيب الأقدار. يقول الحوار:" قال معاوية لعمرو بن العاص يختبر عقله: ما بلغ من عقلك؟ قال: ما دخلت في شيءٍ قط إلاّ وخرجت منه، فقال له معاوية: لكني ما دخلت في شيء، قطّ وأريدُ الخروج منه".

 

المعروف عن معاوية أنّه كان داهية وحليماً وحكيماً، وكان حلمه، على ما قيل عنه، قاهراً لغضبه. وحين قرأت الحكاية التي سوف ترد لاحقاً تذكّرت كلمة صينية واحدة تحمل معنيين: الحكمة والحيلة، ولا ننسى أنّ الصين أرض الحكماء ومنبت أوّل كتاب في فنّ الحرب وفنّ الاستراتيجيا فانتبهت إلى أنّ الحكيم الذي لا يعرف فنّ الحيل بمعناها العربيّ الأوّل هو حكيم ناقص، وحكمته بتراء. فالحيلة هي العمود الفقريّ للحكمة، تفقد الحكمة بفقدان الحيلة صلابتها، كما تلجم الحكمة نزوات الحيلة وقدراتها الماكرة. وثمّة كتاب في العربية شديد الطرافة عن الحيلة بعنوان:" رقائق الحلل في دقائق الحيل"، كان قد عثر على مخطوطته رينيه خوام في المكتبة الوطنية في باريس. وهو كتاب يكشف لنا عن صلة القرابة بين الحكمة والحيلة في تراثنا العربيّ الزاخر بلطائف المعارف، وثمّة كتاب آخر عن الحيلة الحكيمة من تراثنا العربيّ أيضا بعنوان " لطف التدبير" للخطيب الإسكافيّ، والعنوان موفّق في الدلالة عن المعنى الخفيّ للحيلة.

 بعض دهاء معاوية تلخصه العبارة المأثورة التالية: " حلم معاوية قتل الغلام" وهي في سياقها تعني ان تستعين بالتخلّص ممّن لا ترغب بيد لا علاقة لك بها، حتّى لا يخطر ببال احد انك انت الذي كنت وراء انتهاء حياة هذا الشخص او ذاك. فالحلم عند الضرورة يعرف كيف يتخلّص من خصومه برهافة تخفى على كثير من العيون. ولا تزال كما نعرف شعرة من شعرات معاوية السحرية حيّة ترزق في تعابير الناس المهرة في الكرّ والفرّ، وبلاغة الوصل والفصل. والحادثة التالية التي جرت بين معاوية وعبد بن الزبير كنت قد سمعتها من فم رجل عجوز أمّي، ولم تغب عن بالي من يوم ان سمعتها الى ان عثرت لها عن أصل مكتوب في احد كتب التراث وهو "طيب المذاق من ثمرات الأوراق" لابن حجّة الحمويّ، ولفت نظري ادراجها في كتابه تحت باب "اللطائف" . تروي الحادثة ما يلي:

 كان لِعَبدالله بنُ الزُّبَير أَرضٌ قَريبَةٌ مِن أَرضٍ لِمعاويَة، فيها عَبيدٌ لَه مِن الزُّنوج يُعَمِّرونَها، فَدَخلوا في أَرضِ عَبدِالله، وتشاجر عبيد معاوية مع عبيد عبد الله بن الزبير، وأريق دم عبيد ابن الزبير ممّا أثار غيظه، فَكتبَ إلى مُعاوية كتاباً لا يخلو من الوعيد والفظاظة: أمّا بَعد، فإنَّهُ يا معاوية، إنْ لَم تَمنَع عَبيدَكَ مِن الدُّخولِ في أرضي، وإلا كان لي ولَك شأن. فَلَمّا وَقَفَ مُعاويَةُ على الكتاب، دَفَعَهُ إلى ابنِه يَزيد، فلمّا قَرأَهُ، قال له: ما ترى؟ قال: أرى أنْ تُنفِذَ إليه جَيشاً أَوَّلُه عِندَهُ وآخِرُهُ عندك يأتونَكَ بِرأسِه، فقال: يا بُني، عندي خَيرٌ مِن ذلك،  وأنا لا اريد رأسه فقط بل اريده كلّه، ثمّ طلب ان يحضروا له دواة وقِرطاسا، وكَتب: وقَفتُ على كِتابِكَ يا ابن حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم، وساءَني واللهِ ما ساءَك، والدُّنيا هَيِّنَةٌ عِندي في جَنبِ رِضاك، وقَد كَتَبتُ على نفسي رَقماً بالأرضِ والعبيد، وأشهدتُ عليّ فيه (أي تنازلت عن أرضي وعبيدي لك)، ولتُضِفْ الأرضَ إلى أرضِك، والعبيدَ إلى عبيدِك والسلام.‏ ‏

 فلمّا وقف عبدُالله على كتابِ مُعاوية، كتب إليه:‏ ‏ وقفت على كِتابِ أمير المؤمنين أطالَ الله بقاءَه، فلا عُدِمَ الرأيَّ الّذي أحَلَّهُ مِن قُريشٍ هذا المَحل والسلام.‏ ‏ فلما وقف معاوية على كتاب عبد الله،  رماه إلى ابنه يزيد، فلما قرأه اصفرّ وجهه، فقال له معاوية: يا بنيّ. إذا رُميت بهذا الداء، فداوه بهذا الدواء. إلاّ انه لم يكن ليزيد نباهة أبيه ولا دهاؤه بل كان على نقيض معاوية.  وقد ورد في كتاب " سير اعلام النبلاء" للإمام الذهبيّ عن طبع يزيد انه كان " فظاً، غليظاً، جلفاً" وهذه صفات تفتك بأصحابها. أمّا معاوية فقد كان مسلكه في هذه الحكاية صدى آيتين من آيات ربّ العالمين في القرآن الكريم، وهما: "ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ،  وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ " و" وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِك" (آل عمران:159).

بلال عبد الهادي


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق